بلغ أبو فراس أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن، ووصل بعد قليل إلى قصر سيف الدولة بن حمدان، وكان قصرا سامق البنيان، يطل على نهر قويق، بذل فيه المهندسون والرسامون كل ما في مكنة البشر من إبداع، وزينت حيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة، وكان لقاعته الكبرى، وهي قاعة الرسل خمس قباب تحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع، المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان، أما الأثاث فكان فوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال، وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم، صنع من خالص النضار، وركبت له عيون من ثمين الجواهر.
وما كاد أبو فراس يثب من صهوة جواده، حتى تلقاه بشارة ونجا، غلاما سيف الدولة، بما يليق بمنزلته من إجلال وحفاوة، وكان أبو فراس لا يزال عابسا متجهم الوجه، فانحنى نحوه نجا قائلا: سعد صباح الأمير، ما للوجه المشرق البسام تعلوه اليوم سحابة عابسة؟ فهل في الأمر شيء يا مولاي؟ - لا شيء يا نجا، ولكنها ظنون الشاعر وهواجسه، التي كثيرا ما تطغى على ثبات الفارس وركانته، وتصور له في الحلم ذلا، وفي الإقدام طيشا وجهلا. أتعرف يا نجا لمن هذا البيت:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام؟
فأسرع نجا، وكان من أنصار المتنبي المعجبين به فقال: هو يا سيدي لأبي الطيب من قصيدته التي يقول فيها:
إن بعضا من القريض هذاء
ليس شيئا وبعضه إحكام
فاربد وجه أبي فراس، وقال: نعم، إنه لذلك الزق المنتفخ بالعظمة الحمقاء، والغرور الكاذب، أين ابن عمي يا نجا؟ - في القاعة الكبرى يا سيدي. فسار أبو فراس في دهاليز القصر وأبهائة، وقد انتثر فيها العبيد والمماليك الروم، يروحون ويجيئون في حركة دائبة، ورهبة وإطراق، يعرف كيف يصطنعهما رجال القصور. فلما وصل إلى القاعة تلقاه سيف الدولة مرحبا باشا، وكان سيف الدولة جسيما قسيما، واسع العينين تشع منهما عزيمة المجاهدين، وفي وجهه سمرة العرب، وملامح النبل والبطولة.
أخذ أبو فراس يتحدث عن الجيش، وما يبذل في إعداده لمكافحة الروم، وردهم إلى تخومهم. فتململ سيف الدولة في حزن وأسى، وقال: أخشى يا ابن عمي أن القوم هنا لا يدركون ما يحيط بالدولة من خطر داهم، فإني أرى أكثرهم منصرفا عن الجهاد ثقة بي، واعتمادا على عظم قوتي، كأن في سيفي سحرا بابليا إذا لوحت به للأعداء انهارت جيوشهم في طرفة عين. إن بمملكتي أبطالا، ولكن بطولتهم مخبوءة مغمدة؛ لأنهم يظنون أنهم يعيشون في ظلال وارفة من الأمن، وأن أعظم معونة يبذلونها للدولة أن يسيروا في مواكبها، ويأخذوا زينتهم في صدور مجالسها. - نحن لا تعوزنا السيوف يا مولاي، ولا تعوزنا السواعد المفتولة، ولا القلوب الضيغمية، وكل عربي منا يضع قلبه ورمحه في أول الصفوف، إذا جد الجد، وأذن مؤذن الجهاد، ولكن الذي نحن في أشد الحاجة إليه حقا أصوات رنانة مجلجلة، تثير الحمية، وتلهب العزائم، وتخلق من اليأس ثقة، ومن التردد إقداما، وتذكر بالمجد الغابر، وتوجه الأمل الحائر، وتوقظ النفوس إلى ما يحيط بها من كوارث تريد أن تنقض. المملكة يا سيدي تتحرق شوقا إلى من يذيع مآثرها، وينشر مفاخرها، ويملأ الآذان بوقائعها المظفرة، وبحسن بلاء أبطالها الميامين. - ألا يقوم المتنبي بهذا، وهو خير شاعر أنبتته أرض العرب؟ - إنه لا يقوم بشيء منه يا مولاي، وهو رجل صلف تياه، شائك الخلق نافر الطبع، أبغض الناس فأبغضوه فنفرت قلوبهم من شعره. - إن بيتا واحدا من شعره كفيل بأن يملأ الآفاق، ويشغل الدنيا، ويرفع الدولة التي يغني بمديحها إلى مسارح النجوم. - إن الشعر يا ابن العم روح قبل أن يكون لفظا ووزنا، وهو شعاع من نفس قائله، ونور يفيض به قلب صاحبه، فإذا كانت تلك النفس مظلمة قاتمة مدنسة بالحقير من الأغراض، وكان ذلك القلب نهبا للأطماع الدنيئة، جاء منهما الكلام فاترا خائرا مقطوع النفس، ضعيف المنة. - هل ترى من هذا النوع قوله:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
Bilinmeyen sayfa