وانفرد المتنبي في مثواه وقد تزاحمت عليه الهموم، وانتابته الحيرة، واستبد به القلق، هذا الوالي يريد أن يمدح بمثل ما مدح به سيف الدولة سيد العرب! يا للهول، ويا للداهية الداهمة! إن من سخرية القدر وأضاحيك الزمان أن يفر المتنبي من مدح سيف الدولة، العربي المجاهد، المبسوط اليد، الرحب الفناء - ليرغم على مدح ذلك الأعجمي الحقير، الذي لا يقاس بشسع نعل ابن حمدان! ماذا جرى لهذا الفلك الدوار، وماذا أصاب أعين الأقدار، حتى تنزل أبا الطيب هذا المنزل المهين، وتسلكه في سلك صغار الشعراء الذين يمدحون كل من شموا في يديه رائحة درهم؟! لا إنه لن يهوي إلى هذا الدرك، ولن يقذف بنفسه في تلك الهاوية. لقد أنف من البقاء بحلب - وكان فيها رفيع المنزلة معروف المكانة - لأن ابن حمدان كان يتعالى عليه أحيانا، وينظر إليه نظرة الأمير للشاعر. فكيف يستطيع أن يبقى بدمشق شاعرا مغمورا لوال مغمور؟! لا. لا. إنه لم يخلق لأمثال هؤلاء. إنه خلق لتصغر في عينه العظائم، «وليترك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» وماذا هو فاعل إذا؟ ليس أمامه إلا أن يرحل، وإلا أن يفر بنفسه من هذا الهوان، وإلى أين؟ قاتل الله هذا السؤال! إنه يفجأه دائما حين لا يجد له جوابا. يرحل إلى بلاد الله، وينزل حيث يجد العزة والعظمة والكرامة ... ليس شيء أيسر من هذا.
وبينما هو في هذا البحر المضطرب من الأفكار، إذا عبده مسعود يدخل الحجرة في هدوء ويقول: إن ابن ملك يطلب مقابلة سيدي. - ابن ملك؟ من ابن ملك؟ نعم نعم. لقد تذكرت. دعه يدخل.
وكان ابن ملك قصير القامة، نحيف الجسم، يلوح لمن يراه أنه في سن الأربعين أو جاوزها قليلا. له عينان يسيل دمعهما من علة ملازمة، وقد احمرت جفونهما، وأنف ضخم، ووجهه طويل تعلوه صفرة كدرة، ولحية تغزر عند الذقن، وتخف إلى أن تنمحي في العارضين، وكان قذر الملابس، زري البزة، له عمامة سوداء، أرسل منها ذؤابتين من شعره تسيلان فوق صدغيه. دخل ابن ملك فسلم على المتنبي، ثم قال: لقد زهيت الشام بزيارتك يا ابن الحسين. إن صوتك الرنان سوف يسكت أطيار غوطة دمشق، وإن مصر وهي من أقوى دول العرب ستسير من ظفر إلى ظفر، طروبا مهتزة بأنغام شعرك، الذي يبعث فيها القوة والعزيمة وحب الغلب. - لقد حسن ظنك بنا يا ابن ملك، ولكننا قوم لا نقول حتى نرى، ولا نشيد بمكرمة أو نثني على فضل، حتى يملى علينا فنكتب. - هذا حق، وهذا هو الذي يصل بشعرك إلى قرارة القلوب، وهذا أيضا هو الذي حفزني إلى زيارتك الليلة. فقد أرسل إلي سيدي كافور اليوم بريدا خاصا لأدعوك إليه؛ لأنه علم بقدومك إلى دمشق، وهو يريد أن يزين ملكه بفرائد شعرك، وأن يسبق ملوك العرب في أن يكون بين خاصته أشعر شعراء العرب.
وجم المتنبي حينما دهم بهذا الطلب، فأخذ يتلوى في مقعده كما يتلوى الملسوع، ثم قال وهو يتصبب عرقا: أمهلني يا ابن ملك حتى أفكر، فإن ارتجال الفكرة في مثل هذه الأمور قد يكون مدعاة للزلل. - ليس هناك زلل يا أبا الطيب في الاتصال بملك تعد دولته من أعظم دول العرب. - دعني الآن يا ابن ملك، فإني لا أحب الرأي الفطير. - إني أعجب منك. من من الملوك تقصد بعد أن نبذت سيف الدولة؟ إن كنت تريد بغداد، فخذها نصيحة من يهودي يرى أن مثلك لا يستطيع الإقامة بها يوما واحدا، وإن كنت تريد بلاد فارس، فإنك لن تكون فيها إلا «غريب الوجه واليد واللسان». فلم يبق إذا إلا مصر، ولم يبق إذا إلا كافور، وهو خير من يقدر الرجال، وقد يجد فيك سيدي كافور أكثر مما يجد المرء في الشاعر، قد يجد فيك - وهو ناقد بصير - صدق الرأي، وحسن التدبير، وعلو الهمة، فيوليك إمارة تظهر فيها فضائلك، ويتجلى المخبوء من مناقبك. لا تتردد يا سيدي، إن مصر تسعد كل من دخلها: رحل إليها يوسف الصديق غلاما مملوكا، بثمن بخس، دراهم معدودة، فأصبح بعد قليل وزير المال، وصاحب الأمر والنهي في شؤون الدولة، أقبل يا أبا الطيب ولا تتردد، فإني أعرض عليك ثروة وعزا وجاها، وربما كنت أعرض ولاية، فانفجرت أسارير المتنبي قليلا بعد انقباضها، وثارت في نفسه شياطين الجشع والطموح، ونسي العبد الأسود وما في مدحه من ذلة ومهانة، في جانب ما فتح له اليهودي من أبواب المجد والسؤدد والعظمة، التي هي حبيبة لنفسه قريبة إلى فؤاده. فرفع رأسه وتنفس طويلا، ثم قال: سأذهب أولا إلى الرملة لزيارة أميرها الحسن بن طغج، وبعد ذلك سأرى ما يكون. - هذا حسن. اذهب إلى الرملة يا سيدي، فإن أميرها سيقنعك بأن مصر خير مكان يشرق فيه أدبك، ويصدح فيه شعرك. متى ترحل إلى الرملة؟ - بعد غد.
ورحل المتنبي إلى الرملة، وأقام في كنف الحسن بن طغج، فأكرم وفادته، ووصله فأجزل الصلة، ولم يتصدق عليه المتنبي بعد كل هذا الإغداق، إلا ببعض أبيات في المديح.
وكتب كافور إلى صاحب الرملة يلح في قدوم المتنبي، ولبث ابن طغج أياما يزين إلى أبي الطيب الرحيل إلى مصر، وهو يمانع وينفر كما ينفر المهر الجموح. حتى لان قياده في نهاية الأمر، حينما أغرته الوعود، وحينما رأى أن الإقامة بالشام لا تستطاع. فشد رحاله إلى مصر في طليعة جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة. سار إليها يبسطه الرجاء، ويقبضه الإباء وهو يمني النفس ويداعب الأمل:
وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
لقاء
إلى أين تذهب يا أبا الطيب؟ سؤال كثر توارده على خاطر المتنبي كلما طالت عليه الطريق، وهاجت به الذكريات. سؤال كان ينفر من أن يجيب عنه، ويود بنزع الروح لو أنه استطاع أن يلوي عنان جواده إلى بلد آخر؛ ليستريح من هذا السؤال السمج، ومن تلك الوخزات القاتلة، التي تهلع لها نفسه كلما ألحف هذا السؤال، وألح. ما هذا البطر الذي أفسد عليه حياته ورنق عيشه؟ وما هذا الكبرياء البلهاء التي قذفت به إلى الدمار، وما هذه الكرامة التي حدت به إلى الذل والصغار؟ يتكبر على سيف الدولة خير أبناء العربية، وأشجع فرسانها، ويأنف من الإقامة في كنفه بين ظلال النعيم، وفي رحاب العز والجاه العريض. ثم يتدلل فيأبى أن يمدحه إلا إذا استجدى مديحه، ونزل عن جبروته صاغرا ذليلا! ثم يصول في صلف وعربدة على كل من حوله، فيتسامى على أقارب الأمير، وينهال بهجائه كل شاعر في قصره، ويقذف كل عالم في حضرته بكل قاصمة من السباب! ثم ينتهي به هذا الجنون إلى أي شيء؟ إلى ما هو فيه الآن مما يبكي له الشامت، ويجزع الحاسد. إلى أن يفارق الجنة؛ ليضل في مهاوي الجحيم. إلى أن يهدم كل مجد بناه، ويقضي على كل أمل داعبه وناغاه. إلى أن يتسلق إلى الحياة من جديد ولكن في شامخ وعر المرتقى، كثير المزالق، قد ينتهي إلى هباء. إلى أن يمدح ذلك العبد الحبشي الضخم المشافر، المنتفخ البطن المتفلفل الشعر، ويترك سادات العرب وصناديدها لا يجدون لمحامدهم ناشرا ولوقائعهم واصفا. إلى أن يضع رأسه تحت قدمي هذا الزنجي الفدم، بعد أن أنف أن يطأطئه لأعاظم الملوك. إلى أن يقول لليل الدامس أنت البدر المنير، وللعي الجاهل أنت نبراس البيان وخليفة سحبان، وللغبي المغفل أنت الحكمة صورت في إنسان. أهكذا تنتهي به الحال؟ أين شهامته وعزيمته العصامية، وأين أشعاره التي كلها علو وشمم، وشهامة وإباء؟ هل أصبح كل ذلك رمادا ليس به بصيص نار؟! وهل آضت كل هذه المناقب سرابا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؟!
Bilinmeyen sayfa