Series of Stories - Al-Munjid
سلسلة القصص - المنجد
Türler
قصة هرقل والإسلام
في هذا الدرس شرح لحديث ورد في البخاري، جاء فيه بيان لكيفية دعوة النبي ﷺ هرقل للإسلام، وصلت رسالة المصطفى ﷺ إلى هرقل، فبحث عن رجلٍ من قريش، فوجد أبا سفيان ثم طلبه وسأله عدة أسئلة استنتج من خلالها حقيقة نبوة المصطفى ﷺ.
كما تحدث الشيخ عن الروايات الأخرى للحديث وبعض الفوائد التي يستفيدها المرء من هذا الحديث.
1 / 1
قصة هرقل مع أبي سفيان
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فنحمد الله ﷾ أن بلغنا هذه العشر الأواخر من شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته فيها.
ونتحدث -يا أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن قصة عظيمة من القصص التي حدثت على عهد النبي ﵊.
وهذه القصة هي قصة رسالة النبي ﵊ لـ هرقل ودعوته إلى الإسلام.
1 / 2
هرقل يسأل وأبو سفيان يجيب
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عباس: (أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَارًا بـ الشام في المدة التي كان رسول الله ﵊ مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش) هرقل جاءته رسالة النبي ﵊ فأراد أناسًا من قوم النبي ﵊؛ ليسأل عن حاله، فعُثِر على أبي سفيان وكان مشركًا مع بعضٍ من كفار قريش؛ وقد كانوا تُجَّارًا بـ الشام، فأُتِي بهم إلى هرقل.
قال: (فأتوه وهم بـ إيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا.
فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه) سأسأل صاحبكم الذي يجلس أمامكم وهو أبو سفيان عن صاحبكم، الذي هو النبي ﵊، فإن كَذَب في الإجابة فبيِّنوا لي أنه قد كَذَب.
(يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبلَه؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدِر؟ قلت: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها -نحن الآن في مرحلة صلح الحديبية في هدنة معه لا ندري ماذا يفعل فيها؟ - قال أبو سفيان: ولم تُمْكِني كلمةٌ أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة) أي: ما استطعت أن أدخل دسيسة في الجواب إلا في هذا الموضع.
(قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال -يعني: تناوب في الانتصار، مرة لنا ومرة له- ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف والصلة).
1 / 3
هرقل يبين حقيقة نبوة المصطفى من إجابات أبي سفيان
(فقال للترجمان - هرقل يقول للترجمان الذي يترجم من لغة إلى أخرى-: قل له - لـ أبي سفيان -: سألتك عن نسبه؟ فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ -يعني: من قبل- فذكرتَ أن لا، فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ رجلٌ يتأسى بقول قيل قبله) أي: مقلد، لكن ما أحد قال هذا الكلام قبله.
(وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب ملك أبيه) سبب هذه الدعوة أنه يطالب بملك أبيه، لكن ليس من آبائه من ملك.
(وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله) يعني: هرقل متأكد من أن النبي ﷺ صادق.
(وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هرقل يعرف أن أتباع الرسل هم الضعفاء.
(وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم -يعني: يبدأ غريبًا ثم ينتشر-.
وسألتك: أيرتد أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدِر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدِر.
وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيَمْلِك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).
1 / 4
نص رسالة النبي ﷺ لهرقل
دعا هرقل بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: دعوة الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله- أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -وهم الفلاحون الذين كانوا من رعايا هرقل - و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:٦٤].
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب -أي: الأصوات المختلطة المرتفعة- وارتفعت الأصوات، وأُخْرِجنا.
فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة -لقد عَظُم أمر محمد ﷺ إنه يخافه ملك بني الأصفر - أبو سفيان يقول: هرقل؛ هذا ملك الروم يخاف محمدًا! ﷺ (فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام).
(وكان ابن الناظور أو ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفًَّا على نصارى الشام) ابن الناطور وهرقل كانا من علماء النصارى بالدين، وكانا زميلين في الدين النصراني.
(وكان ابن الناطور -صاحب إيلياء وهرقل - سُقُفًَّا على نصارى الشام يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يومًا خبيث النفس، فقال بعض بطارقته -يعني: الرجال الكبار عنده-: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟) أي: لما سألوه: ما بالك مهمومًا؟ قال: رأيت ملك الختان قد ظهر، انظروا من يختتن في العالم في الناس؟! من يختتن؟! (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمك شأنهم، واكتب إلى المدن في ملكك فيقتلوا مَن فيها مِن اليهود.
فبينما هم على أمرهم أُتِي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله ﷺ، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ -الرسول هذا الذي جاء برسالة من محمد ﷺ انظروا هل هو مختتن أم لا؟ - فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن.
وسأله عن العرب.
فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له بـ رومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرِم حمصًا حتى أتاه كتاب من صاحبه -الذي في رومية - يوافق رأي هرقل على خروج النبي ﷺ وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بـ حمص -بناء كالقصر أمر بأن يُدخلوا إليه- ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع - هرقل اطَّلع على كل الكبراء الذين أدخلوا- فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت -اضطربوا وتدافعوا إلى الأبواب- فلما رأى هرقل نفرتهم وأَيِس من الإيمان قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).
هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وكذلك رواها مسلم ﵀، والحديث عند الترمذي وأبي داود وأحمد في سياقات مختلفة.
1 / 5
هرقل يرسل رسولًا إلى المصطفى ﷺ
وهناك رواية ساقها الإمام أحمد ﵀ فيها مزيد من التوضيح لبعض الظروف التي حصلت في الخطاب النبوي إلى هرقل، يقول فيه سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية: (قدمت إلى الشام فقيل لي: في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله ﷺ، قال: فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير، فقلت له: أنت رسول قيصر إلى رسول الله ﷺ؟ قال: نعم.
قلت: حدثني عن ذلك، قال: إنه لما غزا تبوك كتب إلى قيصر كتابًا وبعث به مع رجل يقال له: دحية بن خليفة الكلبي، فلما قرأ كتابه -لما قرأ هرقل كتاب النبي ﵊ ورسالته- وضعه معه على سريره، وبعث إلى بطارقته) إلى رجال الكنيسة، ومفردها: بطريق (ورءوس أصحابه) عظماء القوم، قادة الجيوش، الأمراء، وقادة الألوية (فقال: إن هذا الرجل قد بعث إليكم رسولًا، وكتب إليكم كتابًا يخيركم إحدى ثلاث: - إما أن تتبعوه على دينه.
- أو تقروا له بخَراجٍ يجري له عليكم ويقركم على هيئتكم في بلادكم.
- أو أن تلقوا إليه بالحرب.
قال: فنخروا نخرةً) النخير: هو صوت الأنف، والمراد الغضب والفوران المعبر عن النفور (فنخروا نخرةً حتى خرج بعضهم من برانسهم) والبرنس: هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس، مثل: لباس المغاربة اليوم (حتى خرج بعضهم من برانسهم، وقالوا: لا نتبعه على دينه ونَدَع ديننا ودين آبائنا، ولا نقر له بخراج يجري له علينا، ولكن نُلقي إليه الحرب.
فقال: قد كان ذاك، ولكني كرهتُ أن أفتات دونكم بأمرٍ.
قال عباد: فقلت لـ ابن خثيم: أو ليس كان قارب وهمَّ بالإسلام فيما بَلَغَنا) يعني: هرقل، ما كاد يسلم؟ (قال: بلى.
لولا أنه رأى منهم، فقال: أُبغوني رجلًا من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه) أي: التمسوا لي رسولًا أكتب معه جواب كتابه.
(قال: فأتيت وأنا شاب فانطُلق بي إليه فكتب جوابه وقال لي: مهما نسيت من شيء فاحفظ عني ثلاث خلال) يقول هرقل لرسوله: إذا ذهبت إلى محمد ﷺ أعطه كتابي ورسالتي، وإذا نسيتَ فلا تنسَ هذه الأشياء: (انظر إذا هو قرأ كتابي هل يذكر الليل والنهار؟ وهل يذكر كتابه إليَّ؟ وانظر! هل ترى في ظهره عَلَمًا؟).
1 / 6
رسول هرقل يقابل رسول الله
(قال - رسول هرقل -: فأقبلت حتى أتيته وهو بـ تبوك في حلقة من أصحابه محتبين فسألت فأُخبرت به، فدفعت إليه الكتاب -رسالة هرقل - فدعا معاوية -وكان من كتاب الوحي، ممن يعرفون القراءة، وقد أسلم ﵁ فقرأ عليه الكتاب، فلما أتى على قوله: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟) هرقل يسأل النبي ﷺ سؤالًا: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ (قال رسول الله ﷺ: إذا جاء الليل فأين النهار؟) يعني: هذا رد على الشبهة، يقول: إذا جاء الليل فأين النهار؟ أين يذهب النهار؟ (قال: فقال: إني قد كتبت إلى النجاشي فخرَّقه فخرَّقه الله مخرّق المُلك.
قال عبَّاد: فقلت لـ ابن خثيم: أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله ﵊ بـ المدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال: بلى.
ذاك فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، قد ذكره ابن خثيم جميعًا ونسيتهما) يعني: أن كلمة النجاشي لقب ملك الحبشة، كل مَن ملَك الحبشة يقال له: نجاشي، كل مَن ملَك الروم يقال له قيصر، كل مَن ملَك الفرس يقال له: كسرى، كل مَن ملَك اليمن يقال له: تُبَّع، كل مَن ملَك مصر يقال له: فرعون، كل مَن ملَك الإسكندرية يقال له: المقوقس، كل مَن ملَك الترك يقال له: خاقان، فكلمة ملك بالحبشية: نجاشي، بالمصرية: فرعون، بالإسكندرانية: مقوقس، بالتركية: خاقان، بالفارسية: كسرى، بالرومية: قيصر، لكن القياصرة لهم أسماء مختلفة، الفراعنة لهم أسماء مختلفة، والنجاشي هكذا أيضًا.
فيقول له: النجاشي الذي أرسلت إليه الرسالة غير النجاشي الذي أسلم، ملكٌ آخر من ملوك الحبشة، هذا المقصود.
قيصر ملك الروم الذي أرسلت إليه الرسالة ما اسمه؟ اسمه هرقل، وهو الذي نحن بصدده.
كسرى أنوشروان، له اسم، كسرى هذا لقب، معناه: مَلِك، مَلِك الفرس.
(وكتبتُ إلى كسرى كتابًا فمزَّقه فمزق الله ملكه -أو كما قال ﵊ وكتبتُ إلى قيصر كتابًا فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأسًا ما كان في العيش خيرٌ) يقول: الحبشة لن تقوم لهم قائمة، ولن يوجد فيهم مُلكٌ قائم، وسيمزقهم الله لأنهم مزقوا الرسالة، ويقول: دولة فارس لن تقوم فيها مملكة لفارس ولن يحكموها ولن يدوم لهم الحكم، والله سيمزق ملك فارس كما أنهم مزقوا الرسالة، لكن يقول: هرقل ما مزق الرسالة، فسيبقى في الروم قوة.
والناظر في الواقع يرى هذا جيدًا، بعد كسرى تمزقت مملكة فارس، ما عاد هناك مِن مَلِك، كلها ثورات وحروب.
وكذلك الحبشة لم يعد لها شأن، وصاروا أناسًا متخلفين.
والروم؟ اليوم أوروبا ما زال لهم قوة إلى الآن، والحروب الصليبية لا زالت موجودة إلى الآن.
قال: (وكتبت إلى قيصر كتابًا فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأسًا ما كان في العيش خيرٌ، ثم قال لي: مَن أين أنت؟ قلت: من تنوخ -رسول هرقل تنوخي- قال: يا أخا تنوخ! هل لك في الإسلام؟ قلت: لا.
إني أقبلتُ من قِبَل قوم وأنا فيهم على ديني ولست مستبدِلًا بدينهم حتى أرجع إليهم، قال: فضحك رسول الله ﷺ أو تبسم، فلما قضيت حاجتي قمتُ، فلما وليت دعاني، فقال: يا أخا تنوخ! هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به -صاحبك أمرك بثلاثة أشياء، وأنت وجدت اثنتين، والثالثة ما أخذت خَبَرها، ما هي الثالثة؟ علامة الظهر- قال: هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به، قال: وكنت قد نسيتُها فاستدرت من وراء الحلقة، ويلقى بردة كانت على ظهره -أو يلقيها عن ظهره- فرأيت غضروف كتفه مثل المحجم الضخم) المحجم: المشرط الذي يشق به موضع الحجامة، وكان النبي ﷺ بين كتفه مجموعة عظام مثل هيئة بيضة الحمامة، خاتم النبوة، مستدير، بين كتفي النبي ﷺ، كان جميلًا موقعه، جميلًا شكله، وليس بعاهة ولا تشويه.
هذه الرواية التي رواها الإمام أحمد في سندها رجل مقبول، فذكر نحو حديث عبَّاد بن عبَّاد؛ وحديث عبَّاد أتم وأحسن، وزاد فقال: (فضحك رسول الله ﷺ حين دعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم وتلا هذه الآية: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» [القصص:٥٦] ثم قال رسول الله ﷺ: إنك رسول قوم، وإن لك حقًا -يعني: لا بد أن نكرمك ونضيفك-ولكن جئتنا ونحن مُرْمِلون -يعني: نفذ زادنا في تبوك - فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صَفُورية -ثوب من قطعتين- وقال رجل من الأنصار: عليَّ ضيافته، يعني: أنا أتكفل بضيافة هذا الرسول).
وقد أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه وعزاه إلى الإمام أحمد، ثم قال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد ﵀.
وأورده الهيثمي وقال: رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك.
وهناك قصة أخرى تبين أشياء أخرى من التفاصيل رواها الحاكم في المستدرك، وذكرها ابن كثير ﵀ في تفسيره تحت قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف:١٥٧] الآية.
1 / 7
رواية أخرى عند البيهقي في دعوة هرقل للإسلام
يقول: عن هشام بن العاص الأموي قال: [بُعِثْتُ أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطه -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني] والغساسنة عرب، لكن ولاؤهم للروم، وكان الروم قد وضعوا الغساسنة على حدود الجزيرة بينهم وبين العرب، حتى لا يدخل العرب بغاراتهم في بلاد الروم، والغساسنة يكفُون الروم العرب على الحدود، والروم لا يطمعون في أرضهم؛ لأنها صحراء قاحلة.
1 / 8
هشام بن العاص يطلب مقابلة هرقل
يقول: [قدمنا الغوطة -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير اللهو، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولًا وإنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لن نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك.
قال: فأذن لنا -من هو الذي أذن؟ جبلة بن الأيهم ملك غسان- فقال: تكلموا.
فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود؛ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ قال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام.
قلنا: ومجلسك هذا -والله- لنأخذنه منك ولنأخذن مُلك الملِك الأعظم -يقول هذا المسلم للغساني: سنأخذ مُلكك وملك الملك الأعظم الذي هو قيصر، إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد ﷺ.
قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا.
فقال: قوموا، وبعث معنا رسولًا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.
قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة اللهو، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.
قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش اللهو وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليهم ثياب من الحمرة.
فدنونا منه فضحك، فقال: ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم -لماذا لم تسلموا عليَّ؟ - وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام.
فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيَّا بها لا يحل لنا أن نحييك بها.
قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك.
قال: فكيف تحيون مَلِكَكم؟ قلنا: بها.
قال: كيف يرد عليكم؟ قلنا: بها -يعني: وعليكم السلام-.
قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها.
قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكُلَّما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك.
قال: لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم، وأني قد خرجت من نصف ملكي.
قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل الناس.
ثم سألَنَا عما أراد، فأخبرناه.
ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه.
فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونُزُل كثير فأقمنا ثلاثًا].
1 / 9
هرقل يري هشام بن العاص وصاحبه صور الأنبياء
قال هشام بن العاص: [فأرسل إلينا هرقل ليلًا فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرضعة العظيمة مذهَّبَة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتًا فاستخرج حريرة سوداء فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وفيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله.
فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا آدم ﵇، وإذا هو أكثر الناس شعرًا -أي: الروم رسموا الأنبياء بناءً على معلومات عندهم-.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القَطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن الهيئة.
فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا نوح ﵇.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا إبراهيم ﵇.
ثم فتح بابًا آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله- رسول الله ﷺ -الرسمة- فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم.
هذا محمد رسول الله ﷺ.
قال: وبَكيْنا، قال: والله أعلم أنه قام قائمًا ثم جلس، وقال: والله إنه لهو.
قلنا: نعم.
إنه لهو كأنك تنظر إليه.
فأمسك ساعةً ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجَّلته لكم؛ لأنظر ما عندكم -الصورة هذه كانت في آخر شيء، يعني: هو آخر نبي-.
ثم فتح بابًا واستخرج صورًا، وأخبرهم عنها.
ثم قال -في نهاية القصة-: أما والله إن نفسي طابت للخروج من مُلكي، وأني كنت عبدًا لأشركم حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسَرَّحنا.
فلما أتينا أبا بكر الصديق ﵁ فحدَّثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد الله به خيرًا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله ﷺ أنهم -يعني: النصارى- واليهود يجيدون نعت محمد ﷺ عندهم].
الحديث أخرجه البيهقي عن الحاكم ﵀ في كتاب: دلائل النبوة.
وقال ابن كثير: إسناده لا بأس به.
على أية حال: على فرض صحة هذه القصة فإنها تبيِّن لنا أيضًا شيئًا آخر، لكن الرواية الأساسية هي رواية الإمام البخاري ﵀ التي تبين أن هرقل فعلًا قارب أن يُسلم، بل هو أوشك على الإسلام، بل هو دعا قومه إلى الإسلام، لكن لما رآهم نفروا وخشي أن يزول ملكه تراجع، وقال بدهائه للروم: كنت أختبر ثباتكم على دينكم.
1 / 10
شرح رواية البخاري في دعوة هرقل للإسلام وفوائد من ذلك
رواية البخاري ﵀ هي عن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية لما أتى به هرقل ملك الروم في الركب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها وكانوا تُجَّارًا، والقصة حصلت في مدة صلح الحديبية وكانت في سنة (٦) للهجرة، ومدة الصلح عشر سنين؛ لكن قريشًا نقضوا العهد، فالنبي ﵊ غزاهم سنة (٨) للهجرة، يعني بعد الصلح بسنتين، وفَتَحَ مكة، وهذا بعد أن غدروا.
فلما وصلت رسالة النبي ﵊ لـ هرقل، طلب بعضَ قريش ليسألهم عن النبي ﷺ، فوجدهم رسولُه ببعض الشام في غزة.
يقول أبو سفيان: كنا قومًا تُجَّارًا وكانت الحرب قد حصبتنا -هذا يدل على أن الحرب أثرت على قريش اقتصاديًا- فلما كانت الهدنة - يعني: صلح الحديبية - خرجت تاجرًا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما عَلِمْتُ بـ مكة امرأة ولا رجلًا إلا وقد حملني بضاعة، فقال هرقل لصاحب شرطته: قَلِّبِ الشام ظهرًا لبطنٍ حتى تأتيني برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه، يقول أبو سفيان: فوالله إني لفي أصحابي بـ غزة إذ هجم علينا فساقنا جميعًا.
وإيلياء هي: بيت المقدس، وقيل: معناها: بيت الله، وإيلياء: هي التي سار إليها هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، وقد كان مكان ملك هرقل في حمص، فسار من حمص إلى إيلياء -إلى بيت المقدس - مشيًا شكرًا لله تعالى، وكان سبب ذلك القصة التي جاءت من طرق متعاضدة كما قال ابن حجر ﵀ وملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيرًا من بلاده، وكان النصر في البداية للفرس على الروم، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلع أميرُه على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فكان سبب عودة الكفة في الرجحان للروم انشقاقٌ حصل في الفرس.
فلما حصل ذلك مشى هرقل إلى بيت المقدس شكرًا لله تعالى على ذلك.
المهم: أُدخل سفيان ومن معه على هرقل، قال: (فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج، وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان، ودعا بالترجمان.
فقال: أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي -خرج بأرض العرب- يزعم أنه نبي؟ يقول أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا) فـ أبو سفيان يجتمع مع النبي ﷺ في عبد مناف؛ وعبد مناف هو الأب الرابع للنبي ﷺ، وكذلك لـ أبي سفيان، فيجتمعان في عبد مناف.
1 / 11
الإسلام دين عالمي
منها: دعوة كل العالم إلى الإسلام وأن الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بالعرب:- الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بـ الجزيرة، فالإسلام للعالمَين، ولذلك النبي ﷺ لما انتهى من الجزيرة أرسل الرسائل خارج الجزيرة، وبدأت أولى خطوات الجهاد للروم في عهد النبي ﵊ في غزوة تبوك، والتحضير لغزو الممالك الأخرى خارج الجزيرة بدأ من عهد النبي ﷺ، وجيش أسامة بن زيد كان مجهزًا لهذا الغرض.
المهم: أن الإسلام دعوة لكل العالم وليس مختصًا بفئة دون أخرى، والنبي ﵊ أرسل رسائل دعوة للروم وللفرس ولغيرهم.
1 / 12
ذكاء هرقل في معرفة صدق أبي سفيان
فائدة ثانية: مِن فِعْل هرقل لما جاء بـ أبي سفيان ومعه أقاربه وضعهم وراءه، قال: (إن كذب فكذِّبوه): إن ما أخبر الصدق قولوا بالحقيقة، ولا شك أن القريب أحرى بالاطلاع على الأمور الظاهرة والباطنة من غيره، ثم إنه لا يقدح في نسب قريبه.
لماذا جعلهم وراءه؟ لماذا جعل قوم أبي سفيان وراء أبي سفيان، وليس أمامه؟ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، يعني: يكذبوه دون أن ينظروا في وجهه، يقول أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا -ينقلوا- عليَّ الكذب لكذبت عليه) وهذا دليل على أن الكذب في الجاهلية كان عيبًا كبيرًا، وربما كان أبو سفيان يضمن أنهم لو كانوا وراءه لن يكذبوه؛ لأنهم مشتركون في عداوة النبي ﷺ، لكن ما الذي منع أبا سفيان من الكذب؟ حتى لا يُنقَل عن سيد قريش إذا رجعوا أنه كَذَب؛ وهذا عيب كبير.
قال أبو سفيان: (فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف) يعني: هرقل، والأقلف: غير المختون.
سأله عن النسب؛ وهذا يدل على أن هرقل يعلم بأن الأنبياء تُبعث في أنساب قومها، حتى لا يطعن أحد في نسب النبي، فيكون معروفًا لدى كل القوم نسب القبيلة التي يُبعث فيهم.
1 / 13
المؤمن لا يرتد عن دينه سخطًا عليه
وكذلك في الحديث: أن الإنسان إذا آمن لا يرتد عن دينه ساخطًا على الدين وإنما يرتد لأسباب أخرى، وهذا في الإسلام، أما في غير الإسلام فإنه يرتد عن الدين سخطًا على الدين، يعني: ربما الواحد يكون الشخص نصرانيًا، فيخرج من النصرانية ساخطًا عليها، وآخر يهوديٌ يخرج من اليهودية ساخطًا على اليهودية؛ لأن ما فيها باطل؛ لكن لا يوجد شخص مسلم يدخل الإسلام ويعرفه ويفقهه تمامًا، ثم يخرج من الإسلام؛ لأن هناك أخطاء في الإسلام، أو هناك نقاط ضعف في الإسلام، لا يمكن؛ لكن ربما يخرج من الإسلام لأمور دنيوية، ولذلك قال هرقل: هل هناك أحد من المسلمين ارتد عن دينه سخطةً لدينه؟ -يعني: ساخطًا على دينه- لا يوجد، لذلك قال أبو سفيان: لا.
ففي الإسلام قد يرتد الشخص إما لأنه حديث عهد بالإسلام ولم يفقه الإسلام؛ وإما لأنه لا يريد دفع الزكاة، وإما لأنه أُغْرِي بمال، فـ عبيد الله بن جحش الذي ارتد في الحبشة، وكان من مهاجري الحبشة وارتد في الحبشة، إنما ارتد لحظ في نفسه، وليس لأجل ضعف في الدين الإسلامي، وهذه نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد أحدٌ يدخل في الدين -والحمد لله- ويفقهه جيدًا فيتركه ساخطًا عليه، وهذا ربما يقع في أديان أخرى، أما في الإسلام فإنه لا يقع، لكن ربما يعني لهوىً؛ كمال، أو أغروه بمنصب مثلًا؛ فهذا يُمْكِن.
1 / 14
تعامل هرقل مع الدسيسة في كلام أبي سفيان
كذلك نقطة مهمة: هرقل عندما قال أبو سفيان: لكن نحن الآن في مدة لا ندري ماذا يصنع فيها محمد ﷺ، وأدخل هذه الدسيسة يقول أبو سفيان: (فوالله ما التفت إليها مني): هرقل عاقل وذكي، أخذ إجابات أبي سفيان بالنص، والدسيسة التي أدخلها أبو سفيان في الكلام قال: لكن الآن نحن في هدنة لا ندري ماذا يصنع فيها، هذه الدسيسة الوحيدة التي استطاع أن يُدخلها، ومع ذلك هرقل ما التفت إليها.
1 / 15
الغنى والجهل سببان في الصد عن سبيل الله
كذلك في هذا الحديث: أن أتباع الرسل أكثر ما يكونون من الفقراء، لماذا؟ لأن العظماء والأغنياء يصرفهم غناهم وعظمتهم عن الحق؛ لأن الإسلام سيزيل شيئًا من مزاياهم، أو من ميزاتهم، فالآن هرقل لو دخل في الدين سيصبح مسلمًا عاديًا، يعني: مُلْكُه سيزول، وسيتنازل عن ملكه.
أبو جهل مثلًا: إذا أسلم فإنه سيقلِّد النبي ﵊ زمام الأمور.
ما الذي منع عبد الله بن أبي من الإسلام، وصار منافقًا؟ كانوا يريدون أن يتوجوه ملكًا على المدينة، فلما جاء الإسلام شرق به وغص، ما هضم القضية، لماذا؟ لأن المنصب الذي كان سيعيَّن فيه حُرِم منه بسبب دخول الدين الجديد إلى المدينة.
إذًا: من أسباب صد كثير من العظماء والأغنياء عن الدين والحق الغنى والجهل، لذلك النبي ﷺ قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: المال والجاه يفسدان دين الإنسان أكثر من إفساد الذئب الجائع للغنم؛ وهذه مسألة مهمة.
1 / 16
الإيمان إذا وقر في القلب فإن صاحبه لا يرتد
كذلك في هذا الحديث: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإن صاحبه لا ينحرف: ولذلك كثير من المنتكسين ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبَهم، أو أنها لم تلازمهم هذه البشاشة وتبقى معهم، ولذلك انتكس.
1 / 17
الخوف على النفس يمنع من اتباع الحق
كذلك في هذا الحديث: أن الخوف على النفس قد يمنع الشخص من اتباع الحق:- هرقل يقول: (والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته) ولو أن هرقل تفطن إلى قول النبي ﷺ: (أسلم تسلم) لكان ما أصابه شيء؛ لكن مع ذكائه ما تفطن لقوله ﵊: (أسلم تسلم) مع أنه قال: (لو أني كنت عند النبي ﷺ لغسلتُ عن قدميه -يعني: مبالغة في العبودية والخدمة له- وقال: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبِّل رأسه وأغسل قدميه) وكان وقعُ الرسالة على هرقل كبيرًا يقول: (ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقًا من كرب الصحيفة) أي: عندما قُرِئ عليه كتاب النبي ﷺ.
ومما يقوي أن هرقل آثَرَ مُلكه على الإيمان واستمر على الضلال: أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة (٨) هـ بعد هذه القصة بأقل من سنتين، فإن المسلمين نزلوا في معان؛ معان: معروفة في أرض الشام، ونزل هرقل في مائة ألف من المشركين وحدثت غزوة مؤتة.
1 / 18
الاختصار في الدعوة إلى الله
وكذلك فإن في هذا الحديث: أن الإنسان عليه أن يختصر في الدعوة بأسلوب حسن واضح: فإن الرسالة كانت مختصرَة غاية الاختصار: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل.
أدعوك بدعاية الإسلام) يعني: دعوة الإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
(أسلم تسلم) وهذا في غاية البلاغة.
(يؤتك الله أجرك مرتين): لماذا؟ لأنك تكون آمنت بالنبي الأول، وآمنت بالنبي المبعوث، وكذلك يكون لك الأجر مرتين؛ لأن بإسلامك يمكن أن يسلم أعدادٌ من قومك فتنال مثل أجرهم أيضًا.
1 / 19
فائدة فيمن تجري عليه أحكام أهل الكتاب
وأخذ العلماء من الحديث: أن كل من دخل في دين النصرانية يُجْرَى عليه أحكام أهل الكتاب ولو كان أصلًا ليس من بني إسرائيل: يعني: البوذي الهندوسي إذا تنصَّر هل نأكل ذبيحته؟ نعم.
إذا دخل في الدين، يُجرى عليه حكم أهل الكتاب.
وقال بعض العلماء: الكتابي هو من كان أبواه كتابيين، فهذا الذي تؤكل ذبيحته.
فأهل الكتاب لهم أحكام خاصة مع كفرهم تمييزًا لهم عن بقية المشركين ممن لا أساس لدينهم أصلًا.
وكذلك فإن في قوله: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) وهم الزُّرَّاع والفلاحون الذين كانوا في مملكته، وفيه أن الأصاغر والضعفاء أتباع الأكابر والأقوياء: ويقول لـ هرقل: إذا أصدرت على الكفر فإن كل هؤلاء الضعفاء المقلدين لك في مملكتك من الزُّرَّاع والفلاحين إثمهم عليك، تكسب مثل إثمهم، قال: (فإن عليك إثم الأريسيين).
ففيها: أن من كان سببًا في إضلال غيره فإنه يتحمل مثل إثمه: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت:١٣].
﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل:٢٥].
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة:١٦٦].
بعض العلماء قالوا: إن في هذا الحديث دليل على جواز قراءة الجنب للآية والآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى الكفار: فإذا لم يقصد الجنب التلاوة جاز؛ كأن يقول الجنب مثلًا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:٢٠١] وقصد الدعاء فلا حرج، فالجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن عند جمهور العلماء؛ إلا إذا قاله ليس على سبيل التلاوة وإنما على سبيل الدعاء أو الذكر، كأن قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف:١٣] لو ركب دابةً، أو دعا بدعاء هو جزء من آية أو آية.
1 / 20