Seeking Salvation Through Holding Fast to God
الاعتصام بالله سبيل النجاة
Türler
الاعتصام بالله سبيل النجاة
جمع وإعداد
أنور بن أهل الله بن أنوار الله
شماش فور، داغن بهونيا، فيني، بنغلاديش
Bilinmeyen sayfa
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي لا ينسي من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من دعاه، والحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، والحمد لله من اعتصم به نجاه، والحمد لله من وثق به لم يكله إلي غيره، والحمد لله الذي من استغاث به أغاثه، والحمد لله الذي من فوض الأمر إليه كفاه ووقاه، والحمد لله الذي هو يقيننا ورجاؤنا حين تنقطع الحيل وتقطع الأسباب، والحمد لله هو ثقتنا حين تسوء الظنون بأعمالنا، ثم الصلاة والسلام علي نبي الهدي ورسوله المجتبى محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم وعلي آله وأصحابه وأحبابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد: فهذه رسالة مختصرة تتحدث عن الاعتصام بالله جل وعلا وقد أشار إليّ والدي وأستاذي وشيخي -حفظه الله وأمد الله عمره في طاعة الله- أن أكتب هذه الرسالة مستعينًا بالله تعالي، ومما لاريب فيه أن الاعتصام بالله هو سبيل نجاة العبد في دنياه وأخراه، فقد قال الإمام ابن القيم ﵀: "وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد والله يدافع عن الذين آمنوا فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه" (١).
والحقيقة التي نغفل عنها أن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان ولذلك تجد أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين هم صفوة الخلق قد ابتلوا فيها والعاقل لا يغتر بنعيمها، ويفوض أموره كلها إلي الله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالي هو الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض فهو وحده سبحانه قادر علي رفع البلاء وقادر علي دفع الضر؟
_________
(١) مدارج السالكين لابن القيم ٤٦٢.
1 / 1
وما علي العبد إلا أن يعبده سبحانه حق العبادة، وأن يعتصم به وحده في سائر أحواله في السراء والضراء، فهو سبحانه ناصر الضعيف ومفزع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، سبحانه [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] (يس ٨٢).
ما بين طرفة عين وانتباهها ... يغير الله من حال إلي حال
ومن تأمل كتاب الله جل وعلا يرى آيات عديدة كلها فيها الأمر للعبد أن يفوض أمره إليه، فالله ﷻ حسبه؛ قال تعالى [أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (١)] وقال تعالى: [قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ (٢)] وقال تعالى-[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] (٣) وقال تعالى: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (٤)] وقال تعالى: [أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (٥) فهذه آيات فيها بيان من الله جل وعلا أن العبد لا منجاة إلا بالاعتصام به وحده؛
قال وهب بن منبه: قرأت في الكتاب الأول: إن الله يقول: (بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماوات ومن فيهن والأرض بمن فيها فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلي نفسه (٦) وقد اشتملت هذه الرسالة علي فصول وذلك علي النحو التالي.
الفصل الأول: وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: الاعتصام لغة واصطلاحا
المطلب الثاني: أنواع الاعتصام؟
المطب الثالث: حقيقة الاعتصام بالله؟
المطلب الرابع: من هوا لله ﷿ الذي نعتصم به؟
الفصل الثاني: الاعتصام بالله عند الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
_________
(١) سورة الزمر-٣٦
(٢) سورة الزمر-٣٨
(٣) سورة الأنفال-٦٣
(٤) سورة آل عمران - ١٧٣
(٥) سورة النمل - ٦٢
(٦) تفسير ابن كثير- ٦/ ٢٦٣٣
1 / 2
الفصل الثالث: الاعتصام بالله عند الصحابة -رضوان الله عليهم-
الفصل الرابع: الاعتصام بالله عند الصالحين من عباد الله تعالى؟
الفصل الخامس: الاعتصام بالله عند الصالحات من إماء الله تعالى؟
الفصل السادس: وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: ثمرات الاعتصام بالله تعالى؟
المطلب الثاني: حال من اعتصم بغير الله ﷿؟
المطلب الثالث: هل حققنا الاعتصام بالله؟
وهكذا تنتهي هذه الرسالة، وأسأل الله ﷻ أن يتقبل مني هذاالعمل المتواضع وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتي وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل وأن ينتفع الناس وأن يزيدهم إيمانًا واعتصامًا بالله ﷿ وخشية وقربًا إلي الله جل وعلا.
أنوار بن أهل الله بن أنوار الله
١٤/ ١/١٤٣١هـ
الفصل الأول
الاعتصام لغة: الاستمساك بالشئ والامتناع به؟
اعتصم بالله أي امتنع بلطفه واعتصم بكذا واستعصم به إذا تقوي به وامتنع (١)؟
واصطلاحا: هو التوكل علي الله وحده والاحتماء به وحده والالتجاء إليه وحده والاستعانة به وحده والثقة فيه وحده جل وعلا.
الاعتصام نوعان: الاعتصام بالله والاعتصام بحبل الله؟
قال ابن القيم ﵀: " ومدار سعادة العبد بهذين الاعتصامين إذ لا نجاة للعبد إلا أن يتمسك بهما".
فلنشرع هنا في بيان هذين الاعتصامين:
فأما الاعتصام بحبل الله فقد ذكر في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (٢).
ولقد اختلف المفسرون في معني قوله تعالى: "بحبل الله"
فقال ابن عباس ﵁: بدين الله؟
وقال ابن مسعود ﵁: بالجماعة؟
وقال مجاهد ﵀ بكتاب الله؟
وقال مقاتل ﵀ بأمر الله وطاعته (٣)؟
وأما الاعتصام بالله فقد ذكر في قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا باللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤)
_________
(١) مختار الصحاح -١٨٤ - مادة: ع- ص- م؟
(٢) آل عمران - ١٠٣
(٣) انظر تفسير ابن كثير- ٢/ ٧٤٣ -
(٤) سورة الحج - ٧٨ -
1 / 3
قال ابن كثير ﵀ قوله تعالى -واعتصموا بالله- أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به؟
وقوله تعالى: -هو مولاكم- أي حافظكم وناصركم ومظفركم علي أعدائكم (١)؟
وقال الإمام الشوكاني ﵀ قوله تعالى -واعتصموا بالله- أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون والتجؤوا إليه في جميع أموركم دقيقها وجليلها (٢)؟ وقال وهيب بن الورد ﵀: يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق وإذا ظلمت فأجر وارض بنصرتي فإن نصرتي خير لك من نصرتك لنفسك (٣)؟
وحديثنا في هذه الرسالة عن هذا الاعتصام الذي نحن بحاجة ماسة إليه فلا نجاة لنا إلا بالاعتصام به وحده جل وعلا.
حقيقة الاعتصام بالله تعالى:
إن هذه الحقيقة تتلخص في أمر واحد ألا وهو: أن يلجأ العبد الفقير إلي الله وحده وأن يتوكل عليه وحده وأن يعتصم به وحده وأن يفوض الأمر إليه وحده وأن يحتمي به وحده وأن يثق فيه وحده وأن يستعين به وحده وأن يستغيث به وحده جل وعلا في كل أمر من أموره وشأن من شؤونه؟
من هو الله الذي يعتصم العبد به؟
_________
(١) ابن كثير- ٥/ ٢٤١٥ -
(٢) فتح القدير للشوكاني- ٣/ ٦٤١ -
(٣) ابن كثير- ٥/ ٢٤١٥ -
1 / 4
نقول بتوفيق الله: إن الله هو علم لذات الباري ﷻ الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، فهو الله الذي لاإله إلا هو، واحد لا شريك له، ولا شئ مثله، ولا شئ يعجزه، ولا إله غيره، قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام، له الحمد وله الثناء وله الكبرياء، خالق كل شئ ومليكه، سبحانه لا شريك له في ألوهيته كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، فسبحانه وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، وسبحان من سبحت له السماوات وأفلاكها والأرض وسكانها والبحار وحيتانها والنجوم والجبال الشجر والدواب والآكام والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت، وهو ﷾ أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء، بصير بكل شيء، سميع لكل شيء، رقيب علي ضمائر خلقه، يرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم؟
1 / 5
عليم بكل شيء، لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، والخلق مقهورون تحت قبضته، وهو رب العالمين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين، الذي له الخلق والأمر، فالأمر أمره والكون كونه والخلق خلقه، ولا إله غيره والكل عبيد له، يأمر وينهى، ويسمع ويبصر، ويرضى ويبغض، ويتأذى ويفرح، ويحب ويسخط، ويعطي ويمنع، وينفع ويضر، ويحيي ويميت، ويثيب ويعاقب، يجيب دعوة المضطرين من عباده، ويغيث ملهوفهم، ويعين محتاجهم، ويجير كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويعز ذليلهم، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وكل شئ إليه فقير، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون؛ يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وله الجمال والجلال والكمال والعزة والسلطان، يرحم إذا استرحم، ويغفر إذا استغفر، ويعطي إذا سُئل، ويجيب إذا دُعي، ويغفر إذا أخطأ العبد، ويقبل التوبة لمن تاب، ويسقي العباد إذا استسقوا، ويستر من استتر، يكرم من يشاء ويهين من يشاء، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء (كل يوم هو في شأن) من شأنه يغفر ذنبا ويكشف كربا ويرفع أقواما ويضع آخرين؛ فالله هو الاسم الذي ما ذكر في قليل إلا كثره، وما ذكر في هم إلا فرّجه، وما ذكر في غم إلا أزاله، وما ذكر في ضر إلا كشفه، وما ذكر في فقر إلا أغناه، وما ذكر في شدة إلا نحاها، وما ذكر في عسر إلا يسره، وما ذكر في قحط إلا أخصبه، وما ذكر في مرض إلا شفاه، وما دعاه مظلوم إلا نصره، من توكل عليه نجاه، ومن توثق به وقاه، ومن دعاه أجابه، ومن استنصر به نصره، ومن استغاث به أغاثه، ومن ألجأ إليه أمره كفاه، فنعم الله ويا سبحان الله، لا نحصي ثناء كما أثنى على نفسه ﷻ قال تعالى:
1 / 6
(وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١)؟
الفصل الثاني
الاعتصام بالله عند الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
١ - الاعتصام بالله عند آدم ﵇-
اعتصم بالله آدم ﵇ لما أكل من الشجرة وأيقن أن لا نجاة له إلا بالاعتصام به وحده والتوبة إليه وحده، قال تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) (٢)
وعن أبي بن كعب ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربًا فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم، أفرارًا مني؟ قال: بل حياءً منك، قال: يا آدم اخرج من جواري، فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت ملء الأرض مثلك خلقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين (٣)».
والكلمات التي تلقاهاآدم ﵇ موضحة ومبينة في كتاب الله تعالى؟ قال الله ﷿: - قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤)؟
وعن ابن عباس ﵄: (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: قال آدم: يا رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفخت في من روحك؟ قيل له: بلى، وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل: بلى، قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم (٥)
_________
(١) سورة لقمان-٢٧
(٢) سورة البقرة-
(٣) رواه الحاكم في مستدركه؟ انظر تفسير ابن كثير-١/ ٢٤٣٠ -
(٤) سورة الأعراف-٢٣ -
(٥) تفسير ابن كثير-١/ ٢٤٥ -
1 / 7
وعن ابن بريدة عن أبيه ﵄ عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سُؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي، أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي قال: فأوحى الله إليه: إنك قد دعوتني بدعاء استجبتُ لك فيه ولمن يدعوني به وفرجت همومه وغمومه، ونزعت فقره من بين عينيه واتجرت له من وراء كل تاجر، وأتته الدنيا وهي كارهة وإن لم يردها (١)
فلتأمل كيف أن الله قبل توبة آدم ﵇ لما اعتصم به وتيقن أن لا منجاة له إلا بالاعتصام به وحده سبحانه، فتاب إليه فقبل الله توبته وأعلى درجته، وكيف أن الله لعن إبليس لما استكبر وأبي وحلت عليه لعنة الله إلي يوم الدين، لأنه حاد عن جناب رب العالمين واستكبر عن العبودية له ﷾؟
٢ - الاعتصام بالله عند نوح ﵇-
واعتصم بالله نبي الله نوح ﵇ لما كذبه قومه وصدوا عن دين الله وقالوا عنه بأنه مجنون وهو الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. (٢)
فتوجه إلي الله داعيا أن ينصره على قومه. قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) (٣)
فهل ترك ربه؟ كلا! قال تعالى:
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤) (٤)
_________
(١) رواه الطبراني في معجمه الكبير، انظر تفسير ابن كثير-١/ ٢٤٦ -
(٢) سورة العنكبوت-١٤ -
(٣) سورة القمر-١٠
(٤) - سورة القمر-١٤ -
1 / 8
قال ابن كثير ﵀ في قوله تعالى -إني مغلوب- أي ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم (١)؟
وقال جل وعلا: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) (٢)
قال ابن كثير ﵀ يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح ﵇ حين دعا على قومه لما كذبوه؟ (٣)
وقوله تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ - أي نجيناه وخلصناه؟
فلما اعتصم بالله وحده نبي الله نوح ﵇ ودعا ربه استجاب الله دعوته ولبى ندأه وأهلك قومه؟
٣ - الاعتصام بالله عند إبراهيم ﵇-:
واعتصم بالله خليل الله ونبيه إبراهيم ﵇ لما ألقي في النار وذلك لما دحضت حجة قومه وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل فقالوا "حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٤) " فأضرموا له نارا عظيمة فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد قط نار مثلها ولكن نبي الله إبراهيم ﵇ كانت ثقته بربه: حسبي الله ونعم الوكيل.
فعن ابن عباس: ﴿حسبنا الله ونعم الوكيل﴾. قالها إبراهيم ﵇ حين ألقي في النار وقالها محمد ﷺ حين قالوا [إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم] [فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل].
وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ ﵄، قَالَ: كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ ﵊ حِينَ ألْقِيَ في النَّار: حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ (٥).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
"لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك" (٦).
_________
(١) ابن كثير ٧/ ٣٣٥٣ -
(٢) سورة الأنبياء-
(٣) ابن كثير ٥/ ٢٣٢٦ -
(٤) سورة الأنبياء -٦٨ -
(٥) رواه البخاري؟ انظر رياض الصالحين -٤٠
(٦) تفسير ابن كثير -٥/ ٢٣٢٤ -
1 / 9
ويروي أنه لما جعلوا يوثقونه قال: "لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك - (١) "
ذكربعض السلف أنه عرض له جبريل ﵇ وهو في الهواء فقال: ألك حاجة فقال: أما إليك فلا (٢)؟
نعم حاجته إلي الله ﷿ الذي يقول للشئ كن فيكون فكان أمر الله إلي النار -قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٣) -
فكان النار المحرقة بردا وسلاما على إبراهيم ﵇ فسبحان من نجاه وسبحان من وقاه، وما ذاك إلا لما اعتصم بربه وحده دون غيره، فلا نجاة للمرء إلا بالاعتصام به وحده ﷻ؟
٤ - الاعتصام بالله عند يونس ﵇-
واعتصم بالله نبي الله يونس ﵇ وقد أرسله الله تعالى إلي أهل قرية -نينوى- وهي قرية في أرض الموصل بأرض العراق، فدعاهم إلي الله ﷿، فأبوا عليه وتمادوا في كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم؟ ثم ركب سفينة مع قوم، فلجّجت بهم وخافوا أن تغرق بهم، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس ﵇ فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضا، فقام يونس ﵇ وتجرد من ثيابه، ثم ألقي نفسه بالبحر، وقد أرسل الله تعالى إليه حوتا يشق البحار، فجاء فالتقمه، وأوحى الله إلي ذلك الحوت ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما، فإن يونس ليس لك رزقا، وإنما بطنك يكون له سجنا. (٤)
فما كان منه إلا أن نادى ربه في ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، واعتصم بربه بهذا الدعاء كما قال جل وعلا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥)؟
_________
(١) تفسير ابن كثير -٥/ ٢٣٢٤ -
(٢) تفسير ابن كثير -٥/ ٢٣٢٤ -
(٣) سورة الأنبياء -٦٩ -
(٤) تفسير ابن كثير -٦/ ٢٣٢٨ -
(٥) سورة الأنبياء - ٨٧ -
1 / 10
وعن أنس ﵁: أن يونس حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ فأقبلت هذه الدعوات تحف العرش فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة! فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربنا ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوه مجابة؟! قال: نعم. قالوا: يا رب، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعراء فأنبت الله عليه اليقطينة. (١).
وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد (٢).
وهكذا نجى الله نبيه يونس ﵇ وأخرجه من بطن الحوت؛ قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ. (٣)
وذلك لما اعتصم بربه والتجأ إليه وناداه وحده ﷾؟
٥ - الاعتصام بالله عند زكريا ﵇-
واعتصم بالله نبي الله زكريا ﵇ حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا وقد بلغ به العمر عتيا
_________
(١) الدر المنثور -٥/ ٦٦٨ - ابن كثير - ٦/ ٢٢٣٨.
(٢) الطبري ١٧/ ٨١ - ابن كثير -٥/ ٢٣٣٨.
(٣) سورة الأنبياء
1 / 11
قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. (١) - فلبي الله ندأه وأجاب دعوته وأعطاه ما تمناه ووهبه ما أراد؟ قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ. (٢) - قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ المَلَأِكَةُ وَهُوَ قَأِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) (٣).
هكذا أعطى الله مراد نبيه زكريا-﵇ ووهبه ذرية صالحة لما اعتصم به ودعاه وحده جل وعلا
٦ - الاعتصام بالله عند أيوب ﵇:
واعتصم بالله نبي الله أيوب ﵇ وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شئ كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم ابتلي في جسده، يقال بالجذام في سائر بدنه حتي عافه الجليس فكان ﵇ غاية في الصبر وبه يضرب المثل فقد مكث في بلائه ثمانية عشر عاما.
قال يزيد بن ميسرة لما ابتلى الله أيوب بذهاب الأهل والمال والولد ولم يبق له شيء أحسن الذكر ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي قد أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني قال: فلقي إبليس من ذلك منكرا. (٤)
ورغم هذا البلاء العظيم ظل يدعو ربه ويناجي خالقه قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) - (٥)
_________
(١) سورة الأنبياء.
(٢) سورة الأنبياء.
(٣) آل عمران؟
(٤) ابن كثير -٥٢٣٣١.
(٥) سورة الأنبياء.
1 / 12
الذي جعل أيوب ﵇ يصبر كل هذه المدة إنه الاعتصام بالله وحسن الظن بالله ﷿، فلبى الله ندائه واستجاب دعوته. قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤) - (١). قال ابن عباس ﵄: ورُدَّ عليه ماله وولده عيانًا ومثلهم معهم، وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب: قد رردت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك. (٢)
فلما كان اعتصامه بالله كبيرًا كان عطاؤه عظيمًا
٧ - الاعتصام بالله عند موسى ﵇-:
واعتصم بالله نبي الله وكليمه موسى ﵇ لما خرج فرعون في جحفل عظيم وجمع كبير من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود خلف موسى ﵇ وقومه من بني إسرائيل؟ ولما رأي كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك فزع أصحاب موسى ﵇ ودبَّ الوهن في قلوبهم وضعُفَ يقينهم بالله جل وعلا، فقد قالوا كما قال تعالى: قال أصحاب موسى إنا لمدركون (٣) - فلقد صار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده أي لهالكون لا محالة، فالبحر من أمامنا والعدو خلفنا، ولكن نبي الله موسى ﵇ كان اعتصامه بربه عظيما وثقته بمالكه جل وعلا كبيرا، فرد عليهم بجواب واحد قاطع كما قال تعالى: قال كلا إن معي ربي سيهدين (٤) - أي لا يصل إليكم شئ مما تحذرون، فإن الله هو الذي أمرني أن أسيرها هُنا بكم وهو لا يخلف الميعاد؟
وأمر الله نبيه موسى ﵇ بأن يضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر باثني عشر طريقا بأمر الله جل وعلا قال تعالى:
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) - (٥)؟
_________
(١) سورة الأنبياء؟
(٢) ابن كثير -٥/ ٢٢٣٣.
(٣) سورة الشعراء -٦١.
(٤) سورة الشعراء -٦٢.
(٥) سورة الشعراء -٦٣.
1 / 13
قال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام أن موسى ﵇ لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجًا فأوحى الله تعالى إليه "أن أضرب بعصاك البحر".
فتأمل -رعاك الله- كيف أن الله نجى نبيه موسى ﵇ وأصحابه وأغرق فرعون وقومه.
٨ - الاعتصام بالله عند هود ﵇-:
واعتصم بالله نبي الله هود ﵇ وتوكل عليه لما دعا قومه إلى الله ﷿ إلا أنهم أصروا على كفرهم وألحوا على جحودهم بالله ﷿ كما ذكر الله في كتابه الكريم: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ- (١)؟
فكان جواب نبي الله هود ﵇ وكله يقين بالله جل وعلا وثقة به وحده، كما قال تعالى: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) - (٢)
فقوله تعالى: "فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ" أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون؟
يقول الشيخ أبو بكر الجزائري علم من أعلام النبوة إذ لا يقدر فرد أن يقول لأمة بكاملها: افعلي بي من الشر والأذي ما تستطيعين إلا أن يكون نبيا عالما بقدرة الله تعالى على حفظه وحمايته (٣) -
وقال ابن كثير ﵀ وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاء هم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر، ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده، الذي ما من شيء إلا تحت قهره وسلطانه، فلا إله إلا هو ولا رب سواه. (٤)
_________
(١) سورة هود.
(٢) سورة هود.
(٣) أيسر التفاسير للجزائري ٢/ ٥٤٩.
(٤) ابن كثير ٤/ ١٧٩٧ .............
1 / 14
هكذا كان اعتصام نبي الله هود ﵇ بربه جل وعلا مهما كاد له قومه وأرادوا إيذائه إلا أن الله حاميه وحافظه؛ فينبغي للمؤمن أن يكون اعتصامه بربه هكذا.
٩ - الاعتصام بالله عند يعقوب ﵇-:
واعتصم بالله نبي الله يعقوب ﵇ لما فقد فلذة كبده يوسف ﵇ سنين مديدة حتي قال بحزن كما قال تعالى: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) (١) فقال له بنوه كما قال تعالى: قَالُوا تاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ (٨٥) (٢)؟
فكان جواب نبي الله يعقوب ﵇ كما قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) (٣)؟
فتأمل كيف اعتصم بربه وبث همه وحزنه إلى خالقه جل وعلا، فرد الله عليه ابنه يوسف ﵇ وأقر عينيه برؤيته؟
١٠ - الاعتصام بالله عند سيد المرسلين وخاتم النبيين - صلي الله عليه وسلم:
واعتصم بالله نبي الهدي ورسوله المجتبى محمد بن عبد الله - صلي الله عليه وسلم- في حياته كلها وقد اخترت ثلاثة من المواقف لنبينا الكريم - صلي الله عليه وسلم - سألًا جل وعلا أن يرزقنا الاعتصام به في كل شأن من شؤون حياتنا؟
الموقف الأول:
_________
(١) سورة يوسف.
(٢) سورة يوسف.
(٣) سورة يوسف.
1 / 15
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَأِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِى وَأَنَا نَأِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهْوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا». فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى فَقُلْتُ «اللَّهُ». ثَلاَثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ.
في رواية قال جابر: كنا مع النبي ﷺ بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي ﷺ فجاء رجل من المشركين وسيف النبي ﷺ معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني؟ قال (لا). قال فمن يمنعك مني؟ قال (الله).
وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في "صحيحه"، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: (اللهُ). قَالَ: فَسَقَطَ السيفُ مِنْ يَدهِ، فَأخَذَ رسولُ الله ﷺ السَّيْفَ، فَقَالَ: (مَنْ يَمْنَعُكَ مني؟). فَقَالَ: كُنْ خَيرَ آخِذٍ. فَقَالَ: (تَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله؟) قَالَ: لاَ، وَلَكنِّي أُعَاهِدُكَ أنْ لا أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبيلَهُ، فَأَتَى أصْحَابَهُ، فَقَالَ: جئتُكُمْ مِنْ عنْد خَيْرِ النَّاسِ (١).
_________
(١) متفق عليه.
1 / 16
فههنا يتضح لنا جليا كيف اعتصم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بربه وقد وقف الأعرابي بسيفه - صلي الله عليه وسلم - ليقتله وأصحابه نائمون ولكنه - صلي الله عليه وسلم - رد عليه بقوله: الله؟ فكأن لفظ الجلالة زلزل قلب الأعرابي حتي سقط السيف من يده فالحافظ هو الله والمحيي هو الله والمميت هو الله ونعم بالله جل وعلا.
الموقف الثاني:
لما هاجر النبي - صلي الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة مكث في غار ثور ثلاثة أيام ليستخفي هو وصاحبه أبو بكر ﵁ من أعين المشركين، ولكنهم تتبّعوا آثار النبي - صلي الله عليه وسلم- وصاحبه حتي وصلوا إلى الغار، ولكن الله أعمي أبصارهم ونجى نبيه - صلي الله عليه وسلم. فعن أبي بكر ﵃ قَالَ: نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا، فقلتُ: يَا رسولَ الله، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا) (١).
ولقد سطّر الله هذه الحادثة في كتابه الكريم "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا" (٢).
وهكذا حفظ الله نبيه وصاحبه ورد كيد الكافرين ودحر شرهم؟
الموقف الثالث:
وهذا المشهد من المشاهد العظيمة لنبينا - صلي الله عليه وسلم - وذلك في غزوة بدر الكبري. وتلك الغزوة كانت عظيمة في الإسلام لأنها كانت أول لقاء بين المسلمين والمشركين وهي الفرقان كما ذكر في كتاب الله ﷿. قال تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ. (٣) -
_________
(١) متفق عليه.
(٢) سورة التوبة - ٤٠.
(٣) ٥٨؟ سورة الأنفال - ٤١.
1 / 17
وظل نبينا - صلي الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصرويقول: "اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك" حتى إذا حَمِيَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا). وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. (١).
وبعد هذا التضرع العجيب والابتهال العظيم والاعتصام الكبير بالله جل وعلا جاء النصر المبين والفتح العظيم، ونصر الله نبيه - صلي الله عليه وسلم - أصحابه وخذل الله الكافرين والمشركين. ويالله ولهذا الاعتصام به جل وعلاه حتي سقط ردائه- صلي الله عليه وسلم - فلبى الله ندائه وأجاب دعوته وقبل ابتهاله.
وهكذا المؤمن يعتصم بربه في كل الأمور فيرى الخير العميم والنصرالعظيم والفتح المبين من عنده ﷾.
الفصل الثالث
الاعتصام بالله عند الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-
الموقف الأول:
_________
(١) - الرحيق المختوم - ٢١٧ - انظر تفسير ابن كثير أيضا - ٤/ ١٥٥٠ .............
1 / 18
١ - أخرج ابن عبد الحكم عن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمر بن الخطاب فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص، أما بعد فقد عجبت لإبطأكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيرهم ما غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمُر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمروًا الكتابُ جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر، فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبون إلى الله ويسألونه النصر ففتح الله عليهم (١)
فليتأمل كيف أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ أمرهم بالاعتصام بالله ﷿ وأن يرفعوا أصواتهم بالدعاء والتضرع إلى الله ﷿ وأن يطلب النصر من عنده. فكان النصر حليفهم والفتح نصيبهم والظفر حظهم باعتصامهم بالله وبفضل الله عليهم.
الموقف الثاني:
ذكر في الكنز - ٣/ ١٤٥ - في خلافة عمر ﵁ عن عياض الأشعري قال شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبى سفيان وشرحبيل بن حسنة وخالد بن الوليد وعياض ﵃ فقال عمر إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة. قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا وأحضر جندًا الله ﷿، فاستنصروه فإن محمدًا ﷺ قد نُصِر يوم بدر في أقل من عِدتكم فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. (٢)
_________
(١) جامع الأحاديث - رقم الحديث - ٣١٢٣٦ - حياة الصحابة للشيخ يوسف الكاندهلوي ٣/ ٤٣٢.
(٢) مسند أحمد ١/ ٣٥٥ .......
1 / 19