Sciences of Rhetoric: Expression, Meaning, and Elegance
علوم البلاغة البيان، المعاني، البديع
Yayıncı
*
Türler
مقدمات
مقدمة الكتاب
...
مقدمة الكتاب:
حمدا لك اللهم، بك المعونة والتوفيق، ومنك الهداية لأقوم طريق، إذا أظلمت الشبهات، في دجنة الخطوب المدلهمات، وبفضلك نطلب يقينا يملأ الصدر، ويستولي على زمام القلب، ويكبت ثورة النفس، فيردها عن غيها، ويكبح جماح شهواتها، فإنك الملجأ والنصير والمعين، وصلاة وسلاما على محمد عبدك ورسولك الذي آتيته الحكمة وفصل الخطاب، وعصمته من الخطأ وألهمته الصواب، ومننت عليه بفضيلة البيان، ففند بقاطع حجته قول من عارضه من أهل الزور والبهتان.
وبعد فإن موضع علوم البيان من علوم العربية، موضع الرأس من الإنسان، أو اليتيمة من قلائد العقيان، فهي مستودع سرها، ومظهر جلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام، إلا بما يحويه من لطائفها، ويودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر، إلا بما يحوكه من وشيها، ويلفظه من درها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها.
إلى أن بها نعرف وجه إعجاز القرآن، وندرك ما فيه من خصائص البيان، ونفهم براعة أسلوبه، وانسجام تأليفه، وسهولة نظمه وسلامته، وعذوبته وجزالته، إلى أمثال تلك المحاسن التي أسالت على العرب الوادي عجزا، حتى حارت عقولهم، وقصرت عن بلوغ شأوه جهابذتهم وفحولهم، حتى اضطر ذلكم المتكبر الجاحد، والصلف المعاند، الوليد بن المغيرة، أن يقول فيه مقالته المأثورة: "والله إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمورق، وإن ليعلو ولا يعلى عليه، وما هو بقول البشر" فالجاهل بأسرارها،
1 / 3
والمحروم من اقتطاف جني ثمارها، لا يعرف وجه الإعجاز إلا بالتقليد ولا يعلم ذلك إلا بالسماع، فسواه في قضية النظر، هو والزنجي والبربري، والفارسي والنبطي، إذ كل أولئك يتلقونه سماعا، ويصل إليه علمه مشافهة.
مما تقدم تعلم جليل خطرها، وعظيم منزلتها، وأنها لا تدانيها منزلة علم آخر من علوم العربية، فلا غرو إذا اتجهت همم العلماء والباحثين في مختلف العصور إلى التأليف فيها، وبسط القول في بيان مغازيها ومراميها، وقد رأينا أن ندلي دلونا بين الدلاء، ونضرب بسهم في هذا الميدان، والله ولي التوفيق، والهادي لأقوم طريق.
أحمد مصطفى المراغي.
1 / 4
نبذة في تاريخ علوم البيان:
١- الحاجة إلى وضع قواعدها:
أ- اشتعلت نار الجدل صدر الدولة العباسية حتى اندلع لهيبها وتطاير شررها إلى جميع أنحاء البلاد الإسلامية، ردحا من الزمن غير قليل بين أئمة الأدب وأرباب المقالات من علماء الكلام في بيان وجه إعجاز القرآن، واختلفوا في ذلك طرائق قددا، وتفرقوا أيدي سبا، وتعددت نزعاتهم، وتضاربت مذاهبهم وآراؤهم كما هو مسطور في زبر المتكلمين كالمواقف لعضد الدولة، والمقاصد لسعد الدين التفتازاني.
وكان الرأي الآفن من بين هذه الآراء وأبعدها عن الصواب، رأي إبراهيم النظام صاحب المذهب الذي ينسب إليه "مذهب الصرفة" إذ قال: إن القرآن ليس معجزا بفصاحته وبلاغته، وإن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، لكن الله صرفهم عن ذلك تصديقا لنبيه، وتأييدا لرسوله حتى يؤدي رسالات ربه، فانبرى المبرد عليه جم غفير من العلماء من بينهم الجاحظ والباقلاني، وإمام الحرمين، والفخر الرازي، وناضلوا نضالهم المحمود الذي خلد لهم في بطون الأسفار فكتبوا الفصول الممتعة مبينين خطل رأيه وفساد مذهبه، بما أملته عليهم قرائحهم الوقادة، وأفكارهم النقادة، حتى لم يبق في القوس منزع، ولا زيادة لمستزيد.
ب- كذلك قامت سوق نافقة للحجاج والمناظرة، بين أئمة اللغة والنحو أنصار الشعر الجاهلي، الذين رأوا أن الخير كل الخير في المحافظة على أساليب العرب وأوضاعها، والأباء والشعراء أنصار الشعر المحدث الذين لم يحفلوا بما درج عليه أسلافهم من العرب، ورأوا أنهم في حل من كل قديم، لا يشاكل بيئة
1 / 5
الحضارة التي غذوا بلبانها، وربوا في أحضانها، ولم يكن الغرب ليحلموا بها من قبل، ولو أن القدر أتاح لهم أن يروا زخارف تلك المدنية، وطرائف لطائفها، لكان لهم شأن في آدابهم، ومهيع في أساليبهم غير شأنهم هذا.
جـ- أضف إلى تلك الضوضاء وذلك اللجب، ما شجر من الخلاف بين أئمة الأدب وأساطينه، في بيان وجوه تحسين الكلام حتى يرقى في سلم البلاغة، وينال قسطه من الفصاحة، وتناقضت آراؤهم في ذلك أيما تناقض، ففريق مال إلى رصين الكلام الجامع بين العذوبة والجزالة، وفريق أولع بالمنطق الموشى المشتمل على صنعة البديع، يرشد إلى ذلك ما تراه في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦هـ حين حكم على تلك الأبيات المشهورة لكثير عزة بأنها مونقة خلابة في لفظها، لكنك إذا فتشتها وبحثت عن ذات نفسها لم تحل منه بطائل، وهي:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
ثم ما تجده في كتاب "الصناعتين" لأبي هلال العسكري من استحسان هذه الأبيات، ونقد حكم ابن قتيبة واتهام ذوقه، ووافقه على نقده أبو الفتح بن جني المتوفى سنة ٣٩٢هـ في كتاب "الخصائص"، والإمام عبد القاهر في "أسرار البلاغة" وأطال الإطراء لثالثها إلى غير ذلك من مختلف الآراء مما لسنا بصدد سرده الآن.
كل أولئك لفت أنظار أئمة البلاغة إلى أن يصنعوا قوانين وضوابط يتحاكمون إليها عند الاختلاف، وتكون دستورا للناظرين في آداب العرب، منثورها ومنظومها، ونشأ من ذلك البحث في علوم البيان، أو علوم البلاغة.
٢- أول من دونها:
لا نعلم أحد سبق أبا عبيدة معمر بن المثنى الراوية تلميذ الخليل بن أحمد المتوفى سنة ٢١١هـ. فقد وضع كتابا في علم البيان سماه "مجاز القرآن" لكنه لم يرد بالمجاز الوصف الذي ينطبق على ما وضع من القواعد بعد، بل هو أشبه بكتاب
1 / 6
في اللغة توخي فيه جمع الألفاظ التي أريد بها غير معانيها الوضعية، ألا تراه وقد سئل مرة عن قوله الله عز وعلا: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ ١، فقال: هو مجاز كقول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
كما لا نعرف بالضبط أول من ألف في علم المعاني، وإنما أثر فيه نبذ عن بعض البلغاء كأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني المتوفى سنة ٢٥٥هـ إمام الأدباء وسلطان المنشئين في عصره، والقدوة في أساليبه التي اختص بها، وتحداه فيها الأئمة من بعده.
فقد أشار إلى مسائل منه في كتابه "إعجاز القرآن" وعني في كتابه "البيان والتبيين" بدرس بعض القواعد التي كثر ولوع القوم بها في عصره، كبيان معنى الفصاحة والبلاغة، وحسن البيان والتخلص من الخصم، وحسن الإسجاع، ثم قفّاه ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء"، والمبرد في كتابه "الكامل" فتعرضا لبعض نتف من هذه العلوم.
وغني عن البيان أن المتكلمين بداءة ذي بدء في أي فن من الفنون لا يحيطون بأطرافه، ولا يتغلغلون في استقصاء مباحثه.
لكنا نعلم أن أول من دون البديع الخليفة عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي المتوفى سنة ٢٩٦هـ فقد استقصى ما في الشعر من المحسنات، وألف كتابا سماه "البديع" ذكر فيه سبعة عشر نوعا منها الاستعارة والكناية والتورية والتجنيس والسجع، إلى غير ذلك، وقال: "ما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومن رأى أن يقتصر عل ما اخترنا فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختباره".
ومن البين أن اسم البديع بهذا الإطلاق يتناول ما سماه المتأخرون بعلم البيان، ثم ألف معاصره قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفى سنة ٣١٠هـ كتابا في نقد الشعر سماه "نقد قدامة" ذكر فيه ثلاثة عشر نوعا من البديع زيادة على ما أملاه ابن المعتز فتممها ثلاثين نوعا.
_________
١ سورة الصافات الآية: ٦٥.
1 / 7
تلا هذين العالمين أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري المتوفى سنة ٣٩٥هـ وألف كتابه "الصناعتين" صناعتي النثر والنظم، جمع فيه خمسة وثلاثين نوعا من البديع، وبحث فيه عن عدة مسائل أخرى كالفصاحة والبلاغة والايجاز والإطناب والحشو والتطويل وعدة أبواب في نقد الشعر، إلى غير ذلك من جليل المباحث.
وكتابه يعتبر أول مصنف أشير فيه إلى مسائل علوم البيان الثلاثة: "المعاني والبيان والبديع".
٣- رقي هذه العلوم بتأليف الإمام عبد القاهر:
تمخض القرن الخامس فولد نادرة البطن، ونابغة البلغاء، وإمام حلبة الفصحاء أبا بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١هـ الذي نظر يمنة ويسرة فلم يجد من مسائل هذه الفنون إلا نتفا مبعثرة لا تسمن ولا تغني من جوع فشمر عن ساعد الجد، وجمع متفرقاتها، وأقام بناءها على أسس متينة، وركز دعائمها على أرض جدد لا تنهار، وأملى من القواعد ما شاء الله أن يملي في كتابيه "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز" وأحكم بنيانها بضرب الأمثلة والشواهد، حتى أناف بها على اليفاع، وقرن فيهما بين العلم والعمل، إذ رأى أن مسائل الفنون لا يستقر لها قرار إلا بكثرة الأمثلة والنماذج، فالصور الإجمالية التي تؤخذ من القواعد، إن لم تؤيدها الصور التفصيلية التي تستفاد من النماذج، لا تتمثل في الأذهان حق التمثل، ولا تنجلي حقيقتها تمام الانجلاء.
وقد ساعده على ذلك ما آتاه الله من عذوبة البيان، وما تجلى به فعله من الطلاوة الخلابة، والبلاغة الساحرة للألباب.
٤- الإمام جار الله الزمخشري:
نبغ إثر عبد القاهر أستاذ المفسرين، جار الله الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨هـ، وألف تفسيره "الكشاف" نحا فيه نحو الغرض المقصود من تفسير التنزيل، وهو إظهار أسراره، وشرح وجه إعجازه، ببيان وفاء دلالته على المراد، وكشف خصائصه ومزاياه التي استأثر بها، حتى بلغ هذه المرتبة، وحتى تحدى البشر بأنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
1 / 8
وغني عن البيان أنه لن يصل إلى تلك المنزلة إلا من أتاه الله فطرة سليمة، ورأيا حصيفا، وفكرا ثاقبا، وبرهانا ساطعا، وقلما أطوع له من بنانه حتى يتاح له بواضح البرهان، وبديع البيان، أن يوضح خصائص التراكيب ولطائف الأساليب التي هي من أسرار التنزيل، وبذا أبان في عرض كلامه كثيرا من قواعد هذه الفنون التي اتخذها من جاء بعد، دستورا للكلام في كثير من مسائلها.
٥- أبو يعقوب يوسف السكاكي:
جاء بعد من تقدم ذكرهم العلامة أبو يعقوب، يوسف السكاكي، المتوفى سنة ٦٢٦هـ، وألف كتابه "مفتاح العلوم" وجمع في القسم الثالث منه زبدة ما كتبه الأئمة قبله في هذ الفنون، ونظم لآلئها المتفرقة في تضاعيف كتبهم، وأحاط بكثير من قواعدها المبعثرة في الأمهات، ورتبها أحسن ترتيب، وبوبها خير تبويب، وفصل فنون البيان الثلاثة بعضها من بعض، لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة.
ولولا أن المؤلف أولع بتطبيق أساليب العرب على علوم اليونان واصطلاحاتهم مع ما بينهما من بعد الدار، وشط المزار واختلاف البيئات وتباين المعتقدات، لكان خير كتاب أخرج للناس في هذه الفنون، لجمعه شتاتها، وضمه ما تفرق من قواعدها.
وقد اختصر مؤلفه في كتاب آخر سماه "التبيان"، ولخصه بعض المتأخرين في أمهات مشهورة، كما فعل ابن مالك في كتابه "المصباح" والخطيب جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة ٧٣٩هـ في كتابيه "تلخيص المفتاح" و"شرح الإيضاح" والأخير مؤلف جليل، جمع فيه مؤلفه خلاصة "المفتاح" و"دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" و"سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي.
٦- الوزير ضياء الدين بن الأثير:
بينما السكاكي يؤلف كتابه "مفتاح العلوم" إذا بالوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر بن محمد الموصلي الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة ٦٣٧هـ
1 / 9
وزير الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي، يصنف كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" وهو كتاب فريد في بابه يفوق أنداده وأترابه، جمع فيه فأوعى، ولم يترك شاردة ولا واردة، لهما مساس بالكتابة والقريض إلا ذكرهما بشرح واف، يدل على طول باع، وسعة اطلاع، مع قدرة على النقد، وبديهة حاضرة في إدراك خصائص البلاغة، ومن ثمة اشتمل كتابه على كثير من أبواب تلك الفنون، وطبق عليهما كثيرا من آي الكتاب والسنة النبوية، وتلك منقبة امتاز بها من بين هاتيك المؤلفات في تلك العلوم.
وكان يحاكي في أسلوبه أسلوب القاضي الفاضل المتوفى سنة ٥٩٦هـ وزير صلاح الدين الأيوبي "على ما بينهما من شاسع البون" وطريقة القاضي معروفة بين المتأدبين، وهي من النوع الذي يغلب عليه السجع والجناس وغيرهما من المحسنات اللفظية، وكانت براعة الكتاب في هذا العصر وما بعده تظهر في استعمال تلك الطلاوة اللفظية، وبها يفوق كاتب كاتبا، ويبز الأقران في هذا الميدان.
٧- عصور الاختصار ووضع الشروح والحواشي:
طفق المؤلفون من القرن الثامن وما بعده يوسعون الشروح والحواشي على المفتاح وتلخيصه للقزويني، وصرفوا جل همتهم في تفسير ما أشكل من عبارات المؤلفين، والجمع بين ما تناقض من آرائهما.
ومن أجل تلك الشروح شروح مسعود سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة ٧٩١هـ وشروح السيد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦هـ، ثم تتابعت التقارير والحواشي توضح ما انبهم من تلك التراكيب المجملة، والعبارات الغامضة، وليس علينا من غضاضة في التصريح بأن أساليب التأليف في تلك العصور قد ملكت عليها العجمة أمرها، وجلبت عليها أنواع التعقيد بخيلها ورجلها، فلم تكن هي الأساليب التي يجدر أن تكتب بها علوم البلاغة، أو بالأحرى علوم خصائص اللسان العربي في المبين.
ومن ثمة لم يكن القارئ ليجعلها قدوة في أساليبها، أو نماذج في تراكيبها، فهي أحرى أن تكون أساليب اصطلاحية علمية، لا لغوية أدبية، تشرح خصائص كلام العرب وتبين مزايا أساليبه، وما زالت تندلي وتتدهور حتى وصلت إلى ما تراه اليوم، تتضاءل في أطمارها البالية، وتنزوي أمام أهل الجيل الحاضر.
1 / 10
٨- تأليف معاصرينا في هذه الفنون:
أنشئت المدارس العالية والثانوية بمصر في نهاية القرن الغابر، وسلكت في التربية والتعليم طريقا سويا، لا مشاكلة بينه وبين ما تقدمه في معهد العرفان، وكان في مقدمة تلك المدارس التي شيدت، مدرسة دار العلوم من نحو أربعين سنة ونيف، فألف أساتذتها مختصرات تناسب تلك البرامج المدرسية، ويسهل على الطلبة أن يحصلوا على بغيتهم منها، فحمد لهم الناس جميل صنعهم وأوفوهم حقهم في الثناء والتقريظ مقدار ما كان لمؤلفاتهم من الميزة إبان ظهورها.
وفي الحق أن تلك الرسائل وإن اختلف ترتيبها، وتنوع تبويبها، تنحو على الجملة في أسلوبها، منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه، وتسير على خطتهم وتحذو حذوهم "وقد عرفت حال هذه التآليف" فضلا عن خلوها من الأمثلة المنوعة التي تتضح بها مجملات تلك القواعد.
وأفضل تلك المختصرات كتاب "دروس البلاغة" فهو على إيجازه الذي لوحظ فيه حال النشء، وهم في بدء تحصيل مختلف العلوم، كفيل بتصوير القواعد في أذهانهم جهد المستطاع.
٩- طريقنا في التأليف:
رأينا أن نضع كتابا يجمع بين طريق المتقدمين، من سعة الشرح والبيان، والاعتماد على الأمثلة والشواهد، حتى تستبين للقارئ خصائص البلاغة مرموقة محسوسة، ولطائف الكلام مجسمة ملموسة، ويسهل تطبيق العلم على العمل، والإجمال على التفصيل، وذلك أمثل الطرق، لبنائه على قواعد علم النفس، من تعويد الناظر الركون إلى الوجدان والحس، وطريق المتأخرين من حسن الترتيب والتبويب، وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون، ليكون أنجع في الدرس، وأقرب إلى التناول.
فإذا كنا قد وفقنا إلى ما قصدنا وهدينا إلى الغرض الذي توخينا، فذلك من فضل الله علينا، وإن كنا تنكبنا عن جادة الحق وأخطأنا شاكلة الصواب، فليغض القارئ عما يراه من الهفوات، ويعثر عليه من الزلات،
1 / 11
فإن الطريق وعر، والمركب غير ذلول، وقديما قال الأول: "كفى المرء نبلا أن تعد معايبه".
وليعلم أنا لم ندخر وسعا في تمحيص ما كتبنا وتهذيبه، وتنقيح ما رتبنا وتجويده، بعد أن قضينا زمنا طويلا في البحث والتنقيب، في الأمهات المؤلفة في هذه الفنون وغيرها للمتقدمين والمتأخرين، واطلعنا على الرسائل التي صنفها معاصرونا، ومن تقدمهم، جزى الله الجميع خيرا، وعليه التكلان، وبه المستعان.
أحمد مصطفى المراغي
1 / 12
المقدمة
في حقيقة الفصاحة والبلاغة لغة واسطلاحا
...
المقدمة:
في حقيقة الفصاحة والبلاغة لغة واصطلاحا:
الفصاحة لغة ومعان متعددة كلها تشف عن الظهور والإبانة، فيقال:
١- فصح اللبن وأفصح إذا أخذت عنه الرغوة، قال نضلة السلمي:
وتحت الرغوة اللبن الفصيح١.
٢- أفصح الصبح: بدا ضوؤه، ومنه المثل: "أفصح الصبح لذي عينين"٢.
٣- يوم مفصح وفصح لا غيم فيه ولا قر.
٤- أفصح الأعجمي بالعربية، وفصح لسانه بها إذا خلصت لغته من اللكنة وفي التنزيل: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ ٣. أي: أبين مني قولا.
والبلاغة لغة: تنبئ عن الوصول والانتهاء.
يقال: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها، ومبلغ الشيء منتهاه، ورجل بليغ وبلْغ وبلَغ، حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وبلغ بالضم بلاغة: صار بليغا، وتبالغ في كلامه تعاطى البلاغة وما هو ببليغ، وتبالغ به الفرح والحزن: تناهي.
أما البلاغة اصطلاحا فالبلغاء في ذلك فريقان:
١- المتقدمون كالإمام عبد القاهر الجرجاني ومن لف لفه، وهؤلاء يرون
_________
١ يضرب مثلا للأمر ظاهره غير باطنه.
٢ يقال للشيء ينكشف بعد استتاره.
٣ سورة القصص الآية: ٣٤.
1 / 13
أن الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة ألفاظ مترادفة لا تتصف بها المفردات، وإنما يوصف بها الكلام بعد توخي١ معاني النحو فيما بين الكلم بحسب الأغراض التي يصاغ لها، وإلى ذلك أشار في دلائل الإعجاز في مواضع عدة منها قوله: "فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك مما يعبر عن فضل بعض القائلين على بعض، من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات، وسائر ما يجري مجراها، مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه، غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة" ثم قال: "ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية".
وقال قبله أبو هلال العسكري في الصناعتين: "الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد، وإن اختلف أصلاهما؛ لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة على المعنى والإظهار له".
وقال الفخر الرازي في نهاية الإيجاز: وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما.
ويشهد لذلك قول الجوهري في الصحاح: الفصاحة: البلاغة.
وعلى هذا الرأي فمرجعهما وما شاكلهما النظم والكلام دون الألفاظ المجردة والكلمات المفردة.
٢- المتأخرون كأبي يعقوب يوسف السكاكي وابن الأثير، ومن شايعهما، وأولئك يرون إخراج الفصاحة من كَنَفَ٢ البلاغة، ويجعلونها اسما لما كان بنجوة٣ من تنافر الحروف وغرابة الألفاظ ومخالفة القياس، إلى آخر ما سيذكر
_________
١ الطلب والتحري.
٢ الناحية والجانب.
٣ يقال: هو بنجوة من كذا إذا كان بعيدا.
1 / 14
بعد، ويجعلون البلاغة اسما لما طابق مقتضى الحال مع الفصاحة، وعلى هذا الرأي فالبلاغة كل والفصاحة جزؤه، وعليه أيضا فالفصاحة من صفات المفرد كما هي من صفات المركب بحسب الاعتبارات الآتية:
وإلى هذا أشار صاحب الصناعتين حيث قال: وقيل: الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ؛ لأن الآلة تتعلق باللفظ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى. ا. هـ.
وها نحن أولاء نشرحهما لك على الرأي الأخير فقد استقر عليه البحث، وبالله التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق.
الفصاحة مدخل ... الفصاحة: تقع الفصاحة وصفا للمفرد والكلام والمتكلم. فصاحة المفرد: فصاحة المفرد تتحقق بسلامته من أربعة عيوب١: ١- تنافر الحروف. ٢- غرابة اللفظ. ٣- مخالفة القياس. ٤- الكراهة في السمع. تنافر الحروف: صفة في الكلمة ينجم عنها ثقلها على اللسان وصعوبة النطق بها، ولا ضابط لذلك غير الذوق السليم والشعور الذي ينشأ من مزاولة أساليب البلغاء، وليس منشؤه قرب مخارج الحروف كما قيل ألا ترى أنك تجد الحسن في لفظ الجيش مع تقارب مخارج حروفه، ونحوه، الفم والشجر، وتجد لفظ ملع بمعنى أسرع متباعد المخارج وهو متنافر، ولا طول الكلمات؛ لأنه إن صح ذلك في نحو _________ ١ لتسلم من الخلل مادته وصيغته ومعناه.
الفصاحة مدخل ... الفصاحة: تقع الفصاحة وصفا للمفرد والكلام والمتكلم. فصاحة المفرد: فصاحة المفرد تتحقق بسلامته من أربعة عيوب١: ١- تنافر الحروف. ٢- غرابة اللفظ. ٣- مخالفة القياس. ٤- الكراهة في السمع. تنافر الحروف: صفة في الكلمة ينجم عنها ثقلها على اللسان وصعوبة النطق بها، ولا ضابط لذلك غير الذوق السليم والشعور الذي ينشأ من مزاولة أساليب البلغاء، وليس منشؤه قرب مخارج الحروف كما قيل ألا ترى أنك تجد الحسن في لفظ الجيش مع تقارب مخارج حروفه، ونحوه، الفم والشجر، وتجد لفظ ملع بمعنى أسرع متباعد المخارج وهو متنافر، ولا طول الكلمات؛ لأنه إن صح ذلك في نحو _________ ١ لتسلم من الخلل مادته وصيغته ومعناه.
1 / 15
صَهْصَلق١، وخنشليل٢ وما جرى مجراهما، فليس يصح في نحو: ليستخلفنهم في الأرض فسيكفيكهم الله.
ولكن يمكن وضع ضابط إجمالي أساسه المشاهدة، وهو أن أصول الأبنية لا تحسن إلا في الثلاثي وفي بعض الرباعي نحو: عذب وعسجد. أما الخماسي الأصول نحو: صهصلق وجحمرش، وما جرى مجراهما، فإنه قبيح، ومن ثمة لم يوجد شيء من هذا الضرب في القرآن الكريم إلا ما كان معربا من أسماء الأنبياء كإبراهيم وإسماعيل.
والتنافر ضربان:
١- شديد متناه في الثقل كالصمعمع٣ والطساسيج٤ والظش٥.
٢- خفيف كالنقاخ٦ والنقنقة٧ والمثغنجر٨ ومستشزرات في قول امرئ القيس:
غدائره مستئزرات إلى العلا ... تضل المداري في مثني ومرسل٩
والضمير في غدائره يرجع إلى فرع في قوله قبله:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل١٠
_________
١ الشديد من الأصوات.
٢ السيف.
٣ الصغير الرأس.
٤ جمع طسوج القرية ونحوها.
٥ الموضع الخشن.
٦ الماء العذب.
٧ صوت الضفادع.
٨ السائل من ماء أو دمع.
٩ غدائره أي: ذوائبه جمع غديرة وهي الشعر المشدود بخيوط على الرأس، ومستشزرات أي: مرتفعات، وتضل تغيب والمداري جمع مدارة آلة تعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط أو أطول منه يسرح بها الشعر المتلبد، والمثنى المفتول وضده المرسل.
١٠ الفرع الشعر والأثيث الكثير والقنو الكباسة، والمتعثكل كثير العثاكيل أي: العيدان التي عليها البسر ومراده من كل ذلك الدلالة على وفرة شعرها، وكان من عادة نساء العرب أن تشد قسما من الشعر كالرمانة، ثم ترسل فوقه المثنى والمرسل.
1 / 16
الغرابة:
هي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند خُلّص العرب "لا عند المولدين؛ لأن كثيرا مما في المعاجم غريب عندهم".
ولذلك سببان١:
١- احتياجها إلى بحث وتفتيش في كتب اللغة، ثم يعثر على معناها بعد كمسحنفرة٢ وبعاق٣ وجردحل٤ وجحيش بمعنى فريد مستبد برأيه في قول تأبط شرا يصف ابن عم له بكثرة الترحال:
يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المسالك٥
وهمرجلة وزيزم في قول ابن جحدر:
حلفت بما أرقلت حوله ... همرجلة خلقها شيظم
وما شبرقت من تنوفية ... بها من وحي الجن زيزم٦
وربما لا يعثر على معناها كجحلنجع، قال في اللسان: قال أبو تراب: كنت سمعت من أبي الهيسع حرفا وهو جحلنجع فذكرته لشمر بن حمدويه وتبرأت إليه من معرفته، وكان أبو الهميسع من أعراب مدين لا نفهم كلامه، وأنشدته ما كان أنشدني:
_________
١ لأن الغرابة إما في الجوامد والمصادر والمشتقات باعتبار مبادئها أي: أصولها وهو القسم الأول، وإما في المشتقات باعتبار هيئاتها، وهو القسم الثاني.
٢ أي: متسعة.
٣ المطر.
٤ الوادي.
٥ الموماة المفازة ويقال: للمستبد برأيه جحيش وحده بالتصغير عند إرادة الذم واعرورى الفرس ركبه عريانا.
٦ الأرقال ضرب من السير، والهمرجلة الناقة السريعة والشيظم الشديد الطويل من الإبل، والخيل وشبرقت قطعت، والتنوفية المفازة والوحي الصوت الخفي وزيزم حكاية صوت الجن إذا قالت زي زي على زعمهم. يريد أنه حلف بما سارت حوله الناقة الشديدة السير العظيمة الخلق، وبما قطعت من مفازة لا يسمع فيها إلا صوت الجن.
1 / 17
إن تمنعي صوبك صوب المدمع ... يجري على الخد كضئب الثعثع
وطمحة صيرها جحلنجع ... لم يحضها الجدول بالتنوع١
قال في المثل السائر: ومن الغريب من يعاب استعماله في النثر دون النظم كلفظ مشمخر في أبيات بشر في وصف الأسد:
وأطلقت المهند من يميني ... فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مضرحا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا٢
ولفظ الشدنية، وهي ضرب من النوق في قول أبي تمام:
يا موضع الشدنية الوجناء ... ومصارع الأدلاج والإسراء٣
ثم قال: واعلم أن كل يسوغ استعماله في الكلام المنثور يسوغ استعماله في المنظوم دون العكس، وذلك شيء استنبطته ودلني عليه الذوق.
وقال الجاحظ في البيان والتبيين: ورأيت الناس يديرون في كتبهم، أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر، فانتهرها مرارا فقال له يحيى: أن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلبها وتضهلها٤ فإن كانوا قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة، وإن كانوا فعلوا ذلك؛ لأنه غريب فأبيات من الشعر العجاج والطرماح تأتي لهم مع الوصف الحسن على أكثر من ذلك.
٢- احتياجها إلى التخريج على وجه بعيد حتى يفهم منها المعنى المقصود نحو مسرجا وصفا للأنف في قول رؤبة بن الحجاج "شاعر إسلامي":
_________
١ الصوب المطر المنصب والضئب حب اللؤلؤ، والطمحة النظرة والصبير السحابة البيضاء، وحضا النار حركها، والجدول النهر والتنوع تحريك الريح الغصن والتذبذب وصيرورة الشيء أنواعا.
٢ قد قطع والمضرج الملطخ بالدم والمشمخر العالي.
٣ الإيضاح نوع من السير، والوجناء عظيمة الوجنتين، والإدلاج والإسراء من سوى الليل.
٤ الشكر بفتح الشين وكسرها عضو التناسل، والشبر النكاح، وضهل فلان حقه نقصه وطله مطله.
1 / 18
أيام أبدت واضحا مفلجا ... أغر براقا وطرقا أبرجا
ومقلة وحاجبا مرجحا ... وفاحما ومرسنا مسرجا١
فالمرسن الأنف ولا يدري ماذ أراد بوصفه بمسرج، ومن ثم اختلف أئمة اللغة في تفسيره، فابن دريد قال: هو من قولهم للسيوف سريجية أي: منسوبة إلى حداد يسمى سريجا، فهو يريد تشبيهه بالسيف السريجي في الدقة والاستواء، وابن سيده صاحب "المحكم" قال: هو من السراج فهو يقصد أنه شبيه به في البريق واللمعان، وهذا قريب من قولهم: سرج وجهه بالكسر، أي: حسن، وسرج الله وجهه، بهجه وحسنه.
وعلى كلا الحالين فهوغير ظاهر الدلالة على ذلك المعنى؛ لأن مادة فعل بالتشديد إنما تدل على مجرد نسبة شيء إلى آخره لا على التشبيه، فدلالتها عليه بعيدة، وقريب من هذا امتناع استعمال اللفظ المشترك بين معنيين فأكثر بدون قرينة لما فيه من دخول الحيرة على السامع كاستعمال اللفظ المشترك بين المعنى وضده، إلا إذا وجدت قرينة تخصصه بالمراد، نحو: عزر، فإنه لفظ مشترك بين التعظيم والإهانة فلا تقول لقيت فلانا فعزرته إلا بقرينة، ومن ثم لم يستعمله القرآن الكريم إلا مع القرينة فقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾ ٢.
فذكر النصر قرينة على إرادة التعظيم.
مخالفة القياس:
كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب جمع ناكس على نواكس، بمعنى مطأطئي الرءوس في قول الفرزدق:
وإذا الرجل رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
"مع أن فواعل إنما تنقاس في وصف لمؤنث عاقل، لا لمذكر كما هنا"، وكفك الإدغام في أجلل من قول أبي النجم بن قدامة من رجاز الإسلام:
_________
١ الضمير في أبدت يعود إلى محبوبته ليلى في الأبيات قبله وواضحا، أي: فما فيه أسنان واضحة والفلج تباعد ما بين الأسنان والأغر الأبيض والبريق اللمعان والبرج بالتحريك عظم العين وحسنها والترجيح التدقيق مع تقويس، وفاحما أي: شعر أسود كالفحم.
٢ سورة الأعراف الآية: ١٥٧.
1 / 19
الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فأقبل
واستعمال همزة القطع بدل همزة الوصل في قول جميل:
ألا لا أرى اثنين أحسن شيمة ... على حدثان الدهر مني ومن جمل١
وعكسه في قوله: إن لم أقاتل فألبسوني برقعا.
فهذا وأمثاله قبيح يشين الكلام ويذهب بمائه٢.
قال في الصناعتين: وإنما استعمل ذلك القدماء؛ لأنهم كانوا أصحاب بداية، والبداية مزلة، مع أن أشعارهم لم تكن تنقد عليهم، ولو نقدت كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة ويبهرج٣ من كلامهم ما كان فيه أدنى عيب لتجنبوه.
وقال القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه: ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام الحجة لوجدت كثيرا من أشعارهم معيبا مترذلا ومردودا منفيا، لكن هذا الظن الجليل ستر عليهم ونفي الظنة عنهم فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام. ا. هـ.
ويستثنى من ذلك ما ثبت عن العرب من الشواذ نحو: أبي، يأبى٤، وعور٥، واستحوذ٦، وقطط٧ شعره.
الكراهة في السمع:
هي أن تمج الكلمة الأسماع وتأنف منها الطباع لوحشيتها وغلظتها كالجرشي، بمعنى النفس في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة:
_________
١ الشيمة الخلق والحدثان نوائب الدهر وجمل فرسه أو جمله.
٢ حسنه ورونقه.
٣ البهرج الرديء.
٤ قياس مضارعه الكسر؛ لأن المفتوح العين لا يكون إلا إذا كانت عين ماضية أو لامه حرف حلق كسأل ونفع.
٥ القياس فيه عار لتحرك الواو وانفتاح ما قبلها.
٦ القياس استحاذ.
٧ تجعد.
1 / 20
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الحرشي شريف النسب١
وكالنقاخ فيما أنشده شمر:
وأحمق ممن يلعق الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد٢
لكن البصير بصنعة الكلام يعلم أن استثقال الطبع لما يسمع، إنما يتصور من جهة غرابة الكلمة ووحشيتها، ففي ذكر الغرابة غنية عن ذكرها.
تدريب أول:
بين ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين:
قال المتنبي يمدح سيف الدولة:
١-
وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه "ابتشاكا"٣
٢-
لم يلقها إلا بشكة باسل ... يخشى الحوادث حازم "مستعدد"٤
٣-
يا نفس صبرا كل حي لاق ... وكل "اثنين" إلى افتراق
٤-
فلا يبرم الأمر الذي هو "حالل" ... ولا "يحلل" الأمر الذي هو يبرم
٥-
أن بني للئام زهده ... ما لي في صدورهم من "مودده"
٦- كتب بعض أمراء بغداد رقعة طرحها في المسجد الجامع حين مرضت أمه فقال: صين امرؤ ورعى دعا لامرأة "إنقحلة"، "مقسئنة" فقد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله "الاستمصال" أن يمن الله عليها "بالإطرغشاش"، و"الإبرغشاش"٥.
_________
١ مبارك الاسم؛ لأنه اسمه علي من العلو، وأغر اللقب أي: مشهوره؛ لأنه سيف الدولة.
٢ يلعق يلحس، والنقاخ العذب من الماء.
٣ الابتشاك الكذب والحلم والرؤيا التي يراها النائم.
٤ الضمير يعود إلى الحرب، والشكة الخصلة، والباسل الشجاع.
٥ أنقحلة يابسة ومقسئنة منسة عجوز، ومنيت ابتليت والطرموق الخفاص، والاستمصال الإسهال، والإطرغشاش والإبرغشاش من المرض.
1 / 21
تدريب ثان:
بين ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين:
١- قال ابن نباتة في خطبة له يذكر أهوال يوم القيامة:
"أقمرط" وبالها، و"اشمخر" نكالها، فما ساغت ولا طابت١.
٢- يوم "عصبصب" و"هلوف" ملا السجسج طلا٢.
٣-
قد قلت لما "اطلخم" الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غبسا "دهاريسا"٣
٤-
نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا "جيدر" ولا جبس٤
_________
١ اقمطر اشتد والوبال الثقل والوخامة واشمخر طال.
٢ والعصبصب الشديد الحر والهلوف الذي يستر غمامه شمسه والسجع الأرض السهلة، والطل المطر الندى أو المطر القليل.
٣ اطلخم اشتد وعظم والدهاريس الدواهي والعشواء الناقة الضعيفة البصر والغبس جمع أغبس وغبساء وهي الشديدة الظلمة، وهو لأبي تمام وبعده:
لي حرمة بك أضحى حق نازلها ... وقفا عليك فدتك النفس محبوبا
٤ حباك أعطاك والأروع المعجب والجيدر القصير والجبس الثقيل.
1 / 22