أي شيء علمتني الحياة؟
هي علمتني الكثير، وهي لم تعلمني شيئا.
ذلك لأن الدروس التي ألقتها يطغى عليها اختيار شامل واحد ، وهو أن على الإنسان ألا يقف من الحياة - أشخاصها ومعضلاتها - وقفة حاسمة جازمة نهائية؛ فمواقف الحياة تتشابه في سطحياتها، والويل لمن يريد أن يعالج مشكلا على ضوء خبرته في مشكلة سابقة، من غير أن يحسب حسابا للعنصر البشري الذي يستحيل أن يكون واحدا في موقفين، ومن غير أن يعتبر أن المعضلات تبدو متشابهة، فهي إذن تحمل في طيها أسباب التضليل عن حقائقها؛ إذ تزين لصاحب العقل الكسول - والعقل بطبيعته كسول - أن يقول: «هذا مثل هذا وانتهى الأمر.» لذلك ترى المدجلين من مزيفي قادة الفكر يتوجهون إلى الجمهور الغني بوصفة - روشتة - واحدة، أو وصفات قليلة يبشرون بها أنها تشفي كل الأمراض، وتوصل إلى كل الأعراض؛ ولذلك ترى أن خصيان القول وصرعى الدجل لا يقبلون مساومة فيما يسمونه ثقافة، ثم كذلك تسمع هذه الأمثال والحكم والطرائف المحفوظة تغمر أحاديث السخاء وكتاباتهم وخطبهم. ولست أعرف من ظاهرة أدل على جمود التفكير بين الناطقين بالعربية، وبانعدام حيوية الإنتاج مثل هذا التقديس والإسراف بالاستشهاد بأبيات من الشعر والأمثال التي طغت على الأدب العربي والطرائف التي نرددها في كل يوم، سنة بعد سنة، بل جيلا بعد جيل.
إذن فالحياة إذ تسخو بتثقيفنا هي كذلك تنذرنا أن كل ما نحسبه خبرة يجب أن يبقى دائما رهن إعادة النظر أو الفحص من جديد. يجب أن يبقى أبدا موضوعا للتحوير والتبديل والتكييف والتقميص. ذلك الأفق الذي لاح فيه دخان ألف باخرة، وسطعت منه ألف شمس، يجب أن يبقى دائما تحت منظارك، فبعض ما ترى ليس له من وجود؛ لأنه خداع بصري، وأشياء تبدو كبيرة هي في حقيقتها صغيرة أو تقترب منها، وخلف أشرعة الزوارق التي زحمت أنفك أساطير جبابرة أنت تراها لو أنك اعتضت عن منظارك الضعيف بمنظار جبار.
كذلك يجب أن تحسب حسابا لما لا يرى من تيارات، وأن تحسب حسابا للمفاجآت، وأن تقف على أخمص قدميك كالملاكم مشدود العضلات، مجموع القبضتين، مستعدا للكر والفر.
إذن والحياة لا تعلم شيئا بشكل جازم نهائي، فما الذي علمتني إياه الحياة ؟
أمامنا دقائق فلنقتصر على غير المعروف وغير المألوف.
علمتني الحياة أن أحتمل زوادة من ذكريات جميلة لانتصارات أغذي بهما نفسي بنفسي كلما أصبت بهزيمة.
في زمن الدراسة عام 1919، ظفرت بجائزة ثلاثة جنيهات في مباراة كتابية عنوانها «مضار المسكرات». وبعد سنتين، كنا في مباراة البسكتبول السنوية وقد سجلت فرقتنا - وكنت من لاعبيها - 30 نقطة ضد 31 لأخصامنا، وقبل انتهاء اللعب بثوان، سجلت أنا إصابة فربحنا المباراة السنوية 32-31. بعد ذلك بثماني سنوات؛ أي سنة 1928، كنت تاجرا واستوردت في المهجر أول شحنة من الحقائب (شنتات) الكرتون، صنع ألمانيا، وربحت الشحنة الأولى ثلاثة آلاف دولار.
وكر الزمن وانقطعت عن الكتابة نحوا من اثنتي عشرة سنة، وضعف إيماني بنفسي ككاتب، ونزلت بي نكبة مالية فأفلست، وأصابني من ازدراء الناس ما هم أن يقنعني بأني في الحياة شيء لا قيمة له ومفروغ منه، غير أني لما يئست استعدت ذكرى الجائزة والمقالة الرابحة، فقلت لنفسي: إني كاتب ورسمت أمام عيني صورة الطابة تسجل الإصابة الأخيرة الفائزة، وأنا ورفاقي اللاعبون على أكتاف التلامذة. وكيف لن أفوز بالاتجار؛ شحنة حقائب الكرتون من همبورج ألم تربح 3000 دولار؟ سأكتب. أنا كاتب. سأتجر، أنا تاجر قدير لا يهمني ما يقول الناس.
Bilinmeyen sayfa