90

Sayyid Rais

السيد الرئيس

Türler

الفصل الثاني والعشرون

القبر الحي

لم يعد لابنها وجود ... ورفعت «نينيا فيدينا» الجسد إلى وجهها المرتعش بالحمى، بحركة آلية تماثل حركة من يفقدون عقلهم في خضم فوضى حياتهم المنهارة. لم يكن الجسد يزن أكثر من وزن بذرة جافة. وقبلته، ولاطفته. وركعت فجأة على ركبتيها - وكان ثمة شعاع أصفر شاحب ينساب من تحت الباب - وانحنت بالقرب من الفرجة التي يدخل منها شعاع الفجر الساطع هذا على مستوى الأرض، حتى ترى ما تبقى من صغيرها على نحو أوضح.

وبدا الوليد كجنين في قماطه وليس طفلا له عدة شهور؛ إذ كان وجهه الصغير مغضنا كسطح الندبة، ودائرتان سوداوان تحيطان بعينيه، وشفتاه في لون الجير. وحملته بسرعة بعيدا عن الضوء وضغطت به على ثدييها المنتفخين. واشتكت إلى الله في عبارات غير مفهومة مختلطة بالنواح. وكان قلبها يكف عن الدق لحظات، وتطلق حزنها في نواح على نواح متمتمة في لعثمة تشبه فواق المحتضر: ابني ... اب ... اب ... ابني!

وتدحرجت الدموع فوق وجهها الخالي من التعبير. وبكت إلى أن كادت تفقد الشعور، ناسية زوجها الذي توعدوه بالموت جوعا في السجن إذا لم تعترف زوجته، وناسية آلامها هي الجسمانية، ويديها وثدييها المقروحة، وعينيها المحترقتين، وظهرها المهشم، وأزاحت جانبا قلقها على عملها الذي لا يوجد من يعنى به، وسيطرت عليها الدهشة والذهول. وحين جفت دموعها ولم يعد بإمكانها أن تبكي بعد، شعرت أنها قد أصبحت قبرا لابنها، وأنه قد عاد مرة أخرى داخل بطنها، وأن سباته الأخير الذي لا نهاية له هو سباتها هي. وللحظة، قطع سرور حاد أبدية آلامها؛ فقد كانت فكرة كونها قبرا لابنها بلسما ملطفا لقلبها. وشعرت بسعادة النسوة الشرقيات اللائي يدفن مع أحبائهن. بل وكانت سعادتها أعظم - فإنها لم تكن لتدفن مع ابنها، بل إنها هي قبره الحي، مهده الأخير، الحجر الأمومي، ولسوف ينتظران معا، متحدين، إلى أن يستدعيهما الله إليه. ودون أن تجفف دموعها، سوت شعرها كأنما هي ذاهبة إلى حفل، وقبعت في ركن من الزنزانة الجب، وجثة ابنها لاصقة بثدييها وبين ذراعيها وساقيها.

والقبور لا تحتضن الموتى، لذلك كان عليها أن تمتنع عن تقبيل ابنها، ولكنها تضغط عليهم بشدة، بشدة، كما تفعل هي الآن. إنها دروع للقوة والرقة، تجبر الموتى على تحمل مضايقة الديدان وحرارة التحلل في صمت ودون حراك. أما الشعاع المتماوج الذي يدخل من فرجة عقب الباب فإنه لا يزيد سطوعا إلا كل ألف سنة. والظلال، يطاردها الضوء الطالع، تزحف ببطء على الجدران كالعقارب. جدران من عظام ... عظام موشومة برسوم خليعة. وأغلقت «نينيا فيدينا» عينيها؛ فالقبور مظلمة من الداخل، ولم تنطق كلمة أو أنينا، فالقبور صامتة أبدا.

كان الوقت منتصف الظهيرة. رائحة أشجار الصنوبر مغسولة بمياه الأمطار. طيور السنونو. الهلال. كانت الطرق لا تزال تستحم في ضوء الشمس ويملؤها الأطفال المزعجون. وكانت المدارس تفرغ نهرا من الحيوانات الجديدة إلى المدينة. كان بعض الأولاد يلعبون «المساكة»، عارجين هنا وهناك كالذباب. وتحلق آخرون حول اثنين من رفاقهم كانا يتعاركان كديكي المصارعة. أنوف دامية، بكاء، دموع. وراح البعض يدق على الأبواب ثم يجري مسرعا. وأغار آخرون على محال الحلويات لشراء طوفي العسل، وفطائر جوز الهند، والكعك باللوز، وحلوى المارنغي، أو هجموا كالقراصنة على سلال الفاكهة، تاركينها كالقوارب الفارغة المفككة. وجاء وراءهم أولئك الذين كانوا مشغولين ببيع الأشياء القديمة أو تبادل طوابع البريد أو بأول محاولاتهم في التدخين.

وتوقفت عربة أجرة أمام سجن «كاسانويفا» وأفرغت ثلاث سيدات في زهرة الشباب وسيدة بدينة عجوزا. ولم تكن تخطئ العين معرفة من جئن من مظهرهن. كانت الشابات منهن يرتدين ملابس قطنية زاهية اللون، وجوارب حمراء، وأحذية صفراء ذات كعوب عالية جدا بصورة مغالى فيها، وتنورات فوق الركبة تظهر أردية داخلية ذات شراريب من الدانتلا الطويلة القذرة، وبلوزات مفتوحة عند السرة. وكان شعرهن مصففا على الطراز المسمى بطراز لويس الخامس عشر، ويتكون من كمية كبيرة من اللفات الغارقة في زيت الشعر المربوطة في الجانبين بشريط أخضر أو أصفر، وكانت حمرة خدودهن تعيد إلى الأذهان المصابيح الكهربائية الحمراء التي تعلق على أبواب بيوت الدعارة. أما المرأة العجوز التي كانت ترتدي ثوبا أسود عليه شال أرجواني فقد هبطت من العربة متعثرة الخطى، وهي تمسك الباب بيد سمينة مغطاة بالكثير من الجواهر.

وسألت صغرى الفتيات وهي ترفع صوتها لكي تسمعه حتى أحجار الطريق: سوف تنتظرنا العربة، أليس كذلك يا سيدة «تشون»؟

فردت العجوز: أجل بالطبع، يمكن أن تنتظر هنا.

Bilinmeyen sayfa