قال وقد توقف لاهثا عن مطاردة فريسته: ميغيل، إن لعبة الذبابة هي أحسن تسلية وأسهل لعبة في العالم؛ إن الشيء الوحيد الذي تحتاجه فيها هو الصبر. لقد كنا نلعب لعبة الذبابة لقاء الملاليم في قريتي حين كنت صبيا.
وعبس حين ذكر قريته، وظللت وجهه سحابة سوداء؛ وتحول لينظر في خريطة للجمهورية كانت معلقة خلفه، وصوب ضربة بقبضته إلى اسم القرية.
وأبصر في مخيلته الطرق التي جابها طولا وعرضا حين كان صبيا فقيرا، فقرا ظالما، والتي جابها شابا مرغما على كسب قوته بينما الخلاسيون المنحدرون من عائلات ثرية يقضون وقتهم متنقلين من قصف إلى قصف. ورأى نفسه ضئيلا، يقعي في ظلال أقرانه، منعزلا عن الجميع، جالسا تحت مصباح الطريق الذي تعود أن يستذكر على ضوئه، بينما أمه تنام على سرير من الخرق البالية، والرياح تصفع الطرق المهجورة بهبات من الهواء المحمل برائحة الأغنام. ثم رأى نفسه لاحقا في مكتبه كمحام من محامي الدرجة الثالثة، وسط العاهرات والمقامرين وبائعي الفضلات ولصوص الجياد، محتقرا من بقية زملائه الذين يتناولون قضايا هامة.
وابتلع الكثير من كئوس الشراب، الواحد تلو الآخر. وكانت عيناه الجاحظتان تلمعان وسط وجهه المخضوضر، وأظافره المجللة بالسواد تحدد إطار يديه الصغيرتين. - يا لهم من جحدة!
وأسنده المحبوب من ذراعه. وبدأ كأن الرئيس يرى أمامه أشخاصا وهو يمر بعينيه عبر الحجرة المشوشة، وقال ثانية: «يا لهم من جحدة!» ثم أضاف بصوت خفيض: «لقد أحببت «باراليس سونرينتي» وسأظل أحبه دائما؛ وكنت على وشك أن أرفعه جنرالا، لأنه داس على أهل موطني وأذلهم، ولو لم تتدخل أمي لكان قد قضى عليهم كلية وانتقم لي من كل ما أحمل تجاههم من ضغائن، وهي أشياء أنا وحدي الذي أعرفها. يا لهم من جحدة! والأفظع أنهم قتلوه الآن والناس يخططون من كل جانب لاغتيالي، وأصدقائي يتخلون عني، وأعدائي يزدادون و... كلا، كلا! لن يبقى من «رواق الرب» حجر واحد.»
كانت الكلمات تتدفق من شفتيه كالعربة التي تجري فوق طريق زلق. وانحنى فوق كتف المحبوب، ويده الأخرى تضغط على بطنه، ورأسه يدور، وعيناه منطفئتان، وأنفاسه باردة كالثلج، وسرعان ما تقيأ فيضا من سائل برتقالي اللون. وهرع وكيل الوزارة إلى داخل الغرفة يحمل إناء من الميناء مطبوعا على قاعه شعار الجمهورية؛ وحين انتهى الطوفان - وقد ذهب أغلبه فوق ملابس المحبوب - تعاون الاثنان على حمله وسحبه إلى سريره.
كان يبكي ويردد مرارا وتكرارا: «يا لهم من جحدة! يا لهم من جحدة!» وهمس وكيل الوزارة للمحبوب وهما خارجان : «تهاني يا سيد ميغيليتو، تهاني. لقد أصدر السيد الرئيس أمره بنشر خبر زواجك في جميع الصحف، مع إدراج اسمه على رأس قائمة المحتفلين.»
ودلفا إلى البهو، ورفع وكيل الوزارة صوته قائلا: وذلك على الرغم من أنه لم يكن راضيا عنك في البداية؛ فقد قال لي: «لم يكن ينبغي لأحد أصدقاء «باراليس سونرينتي» أن يفعل ما فعل ميغيل؛ كان يجب على الأقل أن يلتمس إذني قبل أن يتزوج من ابنة أحد أعدائي.» ثمة أناس يريدون إلحاق الأذى بك يا سيد ميغيليتو، أجل، يريدون إلحاق الأذى بك. طبعا، لقد حاولت أن أجعله يفهم أن الحب عاطفة عنيدة جامحة حاسمة خادعة. - شكرا جزيلا يا جنرال.
فاستطرد وكيل الوزارة في صوت مرح، وهو يدفع ميغيل دفعات ودية رقيقة تجاه مكتبه وهو يضحك طول الوقت: حسنا، تعال إذن وانظر إلى هذا. تعال انظر إلى الصحف! لقد حصلنا على صورة السيدة من عمها «خوان». رائع يا صديقي العزيز، رائع!
ودس المحبوب أصابعه في كوم الصحف الخفيض. وإلى جواره صورة الشاهد الرئيس، كانت ثمة صورة للسيد خوان كاناليس، المهندس وأخيه السيد خوسيه أنطونيو. «عرس في الطبقة الراقية. تم في الليلة الماضية الاحتفال بزواج الآنسة الفاضلة كميلة كاناليس والسيد ميغيل ذي الوجه الملائكي. والعروسان ...» وجرت عيناه إلى سطور شهود العقد ... «وكان شهود العقد فخامة رئيس الجمهورية الدستوري، الذي جرت مراسم الاحتفال في قصره، ووزارة الدولة، الجنرالات ...» وعبر فوق سطور قائمة الأسماء ... «وعما العروس المحترمان، السيد خوان كاناليس المهندس، والسيد خوسيه أنطونيو كاناليس.» وفي نهاية الفقرة: «وهناك صورة للآنسة كاناليس في عمود الاجتماعيات من طبعة اليوم لجريدة «الناسيونال». ونحن نتشرف بإزجاء التهاني للطرفين متمنين لهما كل سعادة في بيتهما الجديد.»
Bilinmeyen sayfa