ثم التفت إلى الرجل وقلت له إني لن أقتله إذا هو هدانا إلى غدير ماء، وإذا أثبت أمانته فإني أكافئه وأسمح له بالذهاب إلى أهله، فرضي وقال إن الغدران التي حولنا صغيرة ولكن إذا تكلفنا المسير مسافة فإنه يضمن لنا بلوغ «الفولة البيضاء»؛ وهي غدير كبير نجد فيه ماء يكفينا أشهرا، وكنت غير واثق به فأمرت صف ضابط وثمانية رجال بمراقبته وألا يجعلوه يبعد عني، ثم استأنفنا المسير، وفي المساء وقفنا وصنعنا زريبة بتنا فيها كالعادة ومررنا ببضعة غدران، ولكن ماءها لم يكن يكفينا وكنا نقاسي الشدائد من العطش، فما جاء الفجر حتى قمنا واستأنفنا المسير بعد ليلة قضيناها في الأرق من شدة العطش.
وعند الظهر أشار الدليل إلى بضعة أشجار قال إن الغدير تحتها، فوقفنا في الحال وملأنا المدفع والبندقيات واستعددنا للمقاومة، فقد ترجح لدي أن العدو سيقدر عطشنا فينتظرنا تحت الأشجار ويفاجئنا بالنار، فأمرت الرجال بأن يراعوا النظام بكل دقة أو لا يستسلموا للفوضى، ولكن ما كاد يظهر الماء حتى هرع إليه الرجال يترامون عليه بلا نظام.
وكانت قبيلة الميما ثائرة الآن، فأرسلت التعليمات إلى عمر واد دارهو لكي يقوم بمائتي جندي نظامي ومائتين من الخيالة إلى بلاد الميما، وقررت في الوقت نفسه أن أقاتل الخوابير الذين كانوا قد اتحدوا مع الميما، وذهب دارهو إليهم وأدى مهمته بنجاح؛ إذ هزم الميما في فاقة وفي وودة، وقمت أنا بمائة وخمسين جندي نظامي وخمسين من الفرسان، وسرت في طريق شعيرية وبير أم الوادي؛ حيث كان الخوابير ينتظرونني للهجوم علي، ولكن بعد قتال قصير هزموا وتشتتوا وغنمنا منهم عددا كبيرا من الخراف والثيران.
ولما انتهيت من القتال بعثت إلى دارهو لكي ينضم إلي في بير أم الوادي بمن تبقى من رجاله، وبعد أيام قلائل أدركنا وأخبرنا بكل أعماله وانتصارات المهدي في كردوفان التي أقلقتني قلقا عظيما.
وكنت في الليلة التي أرسلت فيها إلى دارهو التعليمات لكي ينضم إلي، قد جاءني رجل يدعى عبد الرحمن واد شريف وألح في مقابلتي، وكان هذا الرجل تاجرا معروفا في دارة، وقد سبق أن زار الخرطوم، وبدأ كلامه معي بقوله إنه بالنسبة لمعاملتي الحسنة له فإنه رأى من واجبه أن يخبرني عن تسليم الأبيض؛ وذلك حتى أتمكن من اتخاذ الاحتياطات اللازمة في مثل هذا الحادث. وكان هذا الخبر صدمة قوية فشكرته وطفق هو يصف لي كيفية سقوط البلدة، فقد كان حاضرا فيها وقت التسليم ثم سافر إلى أهله في دارة، وسمع وهو في طويشة عن وجودي في بير أم الوادي، فأسرع في إدراكي حتى يبلغني أمر هذا السقوط.
ورأيت أنه من غير المفيد أن تبقى المسألة سرا، فاستدعيت دارهو وسليمان بسيوني وأخذنا نتحدث معا في هذا الموضوع، وكان واضحا لكل منا أن هذا الخبر سيكون مشجعا لأولئك الذين يكرهون الحكومة، وصار من الضروري لذلك أن أذهب إلى دارة.
ولما كنا قد عاقبنا الميما والخوابير، فقد رأينا أن نرسل حملة إلى طويشة، وكنت في اليوم التالي إلى سعيد بك جمعة بأن يجلو عن أم شنجة، ويأخذ معه الحامية وجميع الأهالي الذين يرغبون في تركها ويأخذهم جميعا إلى الفاشر، وكنت كتبت له أنه بالنسبة لسقوط الأبيض فإن العرب الآن سيوجهون نظرهم إلى أم شنجة، وهم إذا حاصروها صار من المحال تخليصها منهم، وأنه يجب بالنسبة للظروف الراهنة أن يجمع الجيوش في الفاشر، وأمرته بإقامة حرس في فيفا ووودة حتى تبقى الطريق مأمونة بين الفاشر وبين دارة، ثم أمرت عمر واد دارهو بأن يقوم هو وجيشه في الحال إلى الفاشر، وأن يوزع الغنائم التي غنمها من الميما بين جنوده وحامية الفاشر، أما ما غنمه من الخوابير فيعطى للجيوش المقيمة في دارة، وفي نفس اليوم انفصلنا فذهبت أنا إلى دارة وذهب دارهو إلى الفاشر.
وانتشر خبر سقوط الأبيض في كل مكان، وظهر أثر ذلك في القبائل العربية فصاروا يجتمعون ويقررون الثورة على الحكومة.
ولما وصلت إلى دارة أمرت بشراء كل ما يمكن من الذرة، وكان مدخرا لدينا كمية كبيرة منها، ولكني رأيت من الأنفع ادخار أكثر مما عندنا. وأرسل إلي الشيخ عفيفي يقول إن قبيلته قد ثارت وانضمت إلى الرزيفات، ولكنه هو لا يريد أن ينكث بعهده؛ ولذلك قد ترك أسرته وعشيرته وقصد إلي عن طريق حلبة، وإنه أرسل أخاه عليا برسالة إلى بشاري بك واد بكير رئيس قبيلة بني حلبة، حيث أقسم له بأن يمر في بلاده آمنا، وأنه لذلك يأمل الوصول إلي في بضعة أيام.
وبينما أنا في انتظاره وإذا بأخبار سيئة تقول إنه قتل، وقد فقدت فيه أكثر العرب ولاء لي، وتبين بعد ذلك أن بني حلبة الذين أمرهم رئيس قبيلتهم بأن يجيزوه أرادوا أن يأخذوا منه أغنامه وثيرانه فرفض، فقاتلوه فأظهر بأسا عظيما، ولكن كمن له بعض العرب وراء الأشجار واغتالوه بحرابهم بينما كان يطارد العرب الذين هزمهم مرتين.
Bilinmeyen sayfa