قال ذلك واندفع خارجا من الزريبة ثم اختفى بين الأشجار، وبعد لحظة عاد وحربته تقطر الدم ووراءه جواد قد استلبه، وخرج شيخان آخران اشتبكا في قتال خفيف ففقدا جوادا وغنما جوادا آخر، وبعد هنيهة سمعنا طلقات البنادق فخشيت أن يكون جيش المادبو قد وصل فطلبت الخيالة من العرب وجعلتهم يقفون موقف الدفاع في الزريبة، ولكني عرفت بعد ذلك بقليل أن ما وصل من جيش المادبو قوة صغيرة قد احتمت في أدغال الأشجار، فأرسلت خمسين رجلا لطردهم من مكمنهم فطردوهم وقتلوا منهم ثلاثة.
وفي صباح اليوم التالي ظهر العدو وهو يتقدم نحونا بقوات كبيرة، فنفخنا في البوق وذهب كل جندي إلى مكانه، وأغاروا علينا من الشمال الغربي وهم يحتمون بدغل من نارنا، وكان في وسط زريبتنا ربوة فوضعت فوقها ديوانا كنا قد وجدناه في إحدى عشش المادبو، فجعله أحد المصريين كرسيا، فقعدت عليه وأخذت أشرف منه على حركات العدو وأراقب أيضا حركات جنودنا في الزريبة، وتقدم العدو حتى صار على مدى إطلاق النار وصار البندق يصفر حول آذاننا، وقمت أنا لكي أعطي الأوامر، وما كدت أترك الكرسي حتى مزقته رصاصة! فرأيت من الأنسب ألا أعرض نفسي للرصاص، واقترب العدو منا كثيرا واشتدت ناره، ولكن رجالنا كانوا محتمين فلم نصب إلا بأقل خسارة، ولكن إصابات الدواب كانت كثيرة بحيث خفت أن تفنى جميعا، فأمرت خمسين رجلا بالخروج بها من الجهة الجنوبية، وداروا بها إلى الغرب وأعملوا النار في العدو بينما كنا نحن في الزريبة نطلق النار عليهم أيضا، فتكلف العدو من ذلك خسارة جسيمة حتى جلا من مكانه، ولكنا لم ننل هذا النصر بدون أن ندفع ثمنه، فإني أتذكر أننا خسرنا 12 رجلا.
وفي المساء استولى التعب على الرجال فناموا وكنا ننتظر قضاء الليل في هدوء، ولكن حوالي الساعة الحادية عشرة فوجئنا بإطلاق نار حامية، ولكن كان الظلام شديدا فلم يمكن تسديد الرماية، فأمرت رجالي بألا يجيبوا، وفتر إطلاق النار ثم وقف نهائيا.
وطلبت الشيخ عفيفي واقترحت عليه أن يرسل بعض رجاله لكي يبحثوا عن مكان المادبو، ووعدتهم بالمكافأة الحسنة إذا هم أخبرونا عن مكانهم الحقيقي، فذهبوا وعادوا بعد ساعتين وأخبرونا بأن المادبو مع رجاله من البازنجر في قريته، أما العرب فقد خيموا في جنوب القرية وغربها، وكانت قوتهم كبيرة ولكنهم لم يتخذوا أية احتياطات للدفاع، وزحف جواسيسنا إلى جوارهم وسمعوا أحاديثهم وضحكهم واستهزاءهم بنا لأننا لم نجب على إطلاق النار علينا في الليل، وقالوا إنه لم يمنعنا من ذلك إلا شدة خوفنا.
فاستدعيت سبعين من رجالنا وأخبرتهم أمام الضابط بأني أرغب منهم في مفاجأة المادبو في قريته، وإننا إذا قاتلنا قوة تزيد على قوتنا في العراء فإننا في الأرجح نخسر خسارة جسيمة، ولكننا قد تحققنا الآن أن العرب غير مستعدين، فإذا هاجمناهم في الليل وهم على غرة فإنهم يفقدون كل ما عندهم من قوة معنوية، وتتاح لنا الفرصة بذلك للعودة إلى دارة والحصول على مدد جديد. فوافق الجميع على هذه الخطة وأراد الضباط أن ينضموا إلى رجال هذه الغارة ولكني رفضت ذلك.
وقد تركت خلفي ضابطين وأربعين من حملة الأبواق وسبعين رجلا، وخرجت أنا من الزريبة ومعي عفيفي الذي رفض أن يفارقني، وخشيت أن يخرج أحد من رجال أبي سلامة ويفشي أمرنا، فأمرت الضباط وشددت عليهم بألا يأذنوا لأحد بالخروج من الزريبة وأن يكونوا على يقظة تامة، وصرنا نتقدم بحذر يدلنا الجواسيس على الطريق، فلم تمض ساعة حتى وجدنا أنفسنا على مقربة من العدو، وقد ثبت لي أن جواسيسنا قد أبلغونا الصدق، وكنت أنا أيضا أعرف هذه الجهة من قبل، فقسمت قوتي قسمين: أحدهما يقوده محمد أغا سليمان أحد أهالي بورنو، والآخر أقوده أنا. وأخذنا نزحف إلى أن صرنا على بعد 600 أو 700 ياردة من العدو، وهنا أمرت حامل البوق بعمل إشارة لإطلاق النار على العدو الوادع، وعقب ذلك ارتباك رجال العدو واختلاطهم، فترك رجال المادبو - البازنجر - أسلحتهم وفروا، وأجفلت الخيول لهذه الحركة الفجائية في وسط الليل فجمحت في كل جهة والعرب في أثرها، وبعد دقائق كانت القرية خالية وكنا نسمع جلبة الفارين الذين هربوا من شرذمة قدرها سبعون رجلا فقط!
فقد نجحنا تماما واحتاج المادبو إلى جملة أيام لكي يجمع فيها رجاله الفارين، وأحرقت قريته وارتفع لهيبها إلى السماء، وأنار مكان المعسكر المهجور، وغنمنا عددا كبيرا من السروج والبنادق القديمة وألقيناها كلها في النار، ولكننا أبقينا بنادق رمنجتون وعدنا إلى الزريبة، حيث حيانا الجنود هناك أجمل تحية، وكانوا في أشد القلق وهم ينتظرون رجوعنا.
ولم تكن قد وافتني أخبار عن دارة فقررت العودة إليها، وبعد مسير ثلاثة أيام وصلت إلى البلدة، حيث وجدت الأمداد والذخيرة، ولما كان الرجال الذين رجعوا معي منهوكين فقد قررت أن أستبدل بهم رجلا من الأمداد الجديدة وأذهب لإنجاد منصور حلمي، ولكني في الصباح دهشت إذ وجدت خطابا يقول إن منصور في طريقه إلى دارة، وإنه سيبلغها في اليوم التالي، وكان هذا الخبر من أسوأ ما سمعت؛ لأن معناه مضاعفة الصعوبات في استعادة شقة واحتلالها.
ووصل منصور في صباح اليوم التالي ومعه قليل من العبيد الذين كانوا يتهافتون من الإعياء، وعلمت أنه قد ترك رجاله لما ألقاه العدو في قلبه من الرعب وعاد وحده إلى دارة، فلم أتوان في معاقبة هذا الضابط الجبان وقبضت عليه وأرسلت الجواسيس في كل ناحية أبحث عن جنوده، ولم أعد أفكر في إعداد حملة لاستنقاذ شقة، وبعد عشرة أيام جاءتني الأخبار السارة بأن هؤلاء الجنود قريبون من دارة، وظهر أن من يدعى علي أغا جمعة تراجع بهم لما تركهم منصور إلى دارة، وحماهم من مناوشات العدو وحمل جرحاهم وجاء معه بعض تجار شقة الذين طلبوا حمايته.
وكان سعيد بك جمعة في هذا الوقت حاكما على الفاشر، وكنت قد كتبت إليه مرارا لكي ينجدني بالجنود والذخائر، ولكني وجدت أنه لا يود أو لا يقدر على إجابة طلباتي، وسافرت إلى الحبشة؛ حيث كنت قد اتفقت مع القبائل الموالية على لقائي هناك.
Bilinmeyen sayfa