ولما غادر المهدي الأبيض سار إلى تاج الله؛ حيث التقى بمك آدم حاكم المركز الذي استقبله استقبالا حسنا ولكنه لم يعده بالتأييد؛ لأن القاضي نصح له بألا يعد هذا الوعد، ثم عاد إلى أبة عن طريق شرقلة.
وكان محمد أحمد في أثناء سياحته ينظر في أحوال البلاد ويتدبرها، وقد أدرك أن الطبقات الفقيرة في الأمة تكره الحكومة أشد الكره؛ وذلك لكثرة الضرائب الفادحة المضروبة عليها كما بينت ذلك في أحد فصولي الماضية، وكانت هذه الطبقات تعاني ما يوقعه بها الجباة الغلاظ السفلة من ضروب الظلم والعسف، وكان بين هؤلاء الجباة عدد من السودانيين لم يكن تفلت منهم فرصة لإثراء أنفسهم وتوظيف أقاربهم بغية تحقيق هذا الغرض أيضا، وقد عين غوردون التاجر السوداني الثري إلياس ومنحه رتبة باشا، فكان لهذا التعيين أثر سيئ في نفوس الأهالي، وهذا القول ينطبق على تعيين قريبه وهو تاجر ثري أيضا يدعى عبد الرحمن بن نجا، وكان كلاهما على كفاية يعرف حالة البلاد وكيفية حكم الأهالي، ولكنهما كانا يشتغلان لمصلحتهما.
ونتج عن تعيينهما أن انتشر روح التحاسد بين كبار السودانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أهلا لمثل وظيفة إلياس أو قريبه عبد الرحمن، ولما أرسل إلياس باشا إلى مك آدم يطلب منه دفع الضرائب، رفض مك آدم هذا الطلب رفضا باتا مدعيا بأنه من سلالة ملوكية، وقال في رفضه: «إني أدفع للتجار أثمان البضائع التي أشتريها ولكني لا أدفع لأحد خراجا.» وفي الوقت نفسه أرسل إلى الأبيض يسأل هل مات الأتراك وسائر البيض حتى صارت الحكومة تعين التجار حكاما بدلا من أن تعين الأشراف وذوي البيوتات! وكان هذا سبب فصل إلياس باشا وعبد الرحمن من وظيفتهما وتعيين الأتراك والمصريين في مكانهما.
أما عن الموظفين الأوروبيين فلم يكن في السودان سوى عدد قليل ، وكانوا محبوبين ومحترمين؛ لأن الناس كانوا يثقون بهم، ولكني لا أشك في أن بعض الاستياء كان يعزى إليهم، فربما أصدروا أوامر مصدرها حسن النية ولكنها كانت تخالف عادات الأهالي وتقاليدهم، ثم إني لا أشك في أن موقفنا تجاه مسألة الرقيق قد أحدث استياء عظيما بعيد المدى، فإن الدين يأذن بالرقيق، وقد كانت الأرض منذ عهد بعيد تفلح بالعبيد، وكان العبيد يوكلون بالعناية بالماشية، ولست أشك في أن النخاسة كانت تتطلب ارتكاب فظاعات وسفك دماء، ولكن هذه الفظاعات لم يكن يبالي بها أو يفكر فيها مشترو العبيد، وكانوا على وجه العموم يعاملون عبيدهم معاملة غير سيئة، ولم نقتصر نحن على منع تصدير الرقيق، بل كنا أيضا نسمع شكاوى العبيد، وكنا على الدوام نحرر العبد الذي يشتكي مولاه.
وانتهز محمد أحمد فرصة الاستياء هذه من وجوهها العديدة، وكان يعرف أن الدين هو العامل الوحيد في ربط هذه القبائل المتنازعة، فأعلن أنه «المهدي المنتظر»، فصارت له بذلك شخصية فوق شخصية أي إنسان آخر، وكان يأمل بذلك أن يطرد من السودان جميع الأوروبيين والمصريين والأترك، ولكنه لم يكن يعتقد أن الوقت قد حان بعد لأن يعلن جهارا هذه الدعوة، فعمد إلى تأييد دعوته بزيارة الأنصار، واستمر على ذلك حتى صارت دعوته سرا مكشوفا.
وكان محمد شريف قد أخبر رءوف باشا الحاكم العام سرا بنية محمد أحمد، ولكن نزاعه السابق معه جعل ولاة الأمور لا يصدقونه، واستنتجوا أنه يدس لخصمه الذي ذاعت شهرته لصلاحه وتقواه، ولكن الحكومة علمت بعد ذلك من مصدر آخر أن محمد أحمد خطر على الأمن العام، ونوت نية صادقة على أن تنتهي منه.
ولهذا الغرض أرسل رءوف باشا يطلب محمد بك أبو السعود وأمره بالمسير في الباخرة إلى أبة وإحضار محمد أحمد إلى الخرطوم، ولكن أصدقاء المهدي وأنصاره أحاطوه علما بنية الحكومة وأخبروه أنه إذا حضر للخرطوم فسيعتقل بها، وأن اعتقاله ليس إلا من دس محمد شريف، فلما وصل أبو السعود بك إلى أبة استقبله عبد الله التعايشي وشقيق لمحمد أحمد وقاداه إلى حيث مقام الشيخ، فأخبره أبو السعود عن التقارير التي بلغت للحكومة عنه، وهي بالطبع كاذبة، وعن الإشاعات التي تشاع عنه، وطلب منه لذلك أن يسافر إلى الخرطوم ويكذب هذه الإشاعات التي أشيعت عنه أمام الحاكم العام، فأجاب محمد أحمد وقد وقف فجأة وضرب صدره بيده قائلا: «ماذا تريد مني؟! وحق الله ورسوله ما أنا إلا سيد هذه البلاد، ولن أذهب إلى الخرطوم لكي أبرئ نفسي.»
فتراجع أبو السعود للوراء مذعورا من هذه اللهجة وأخذ يهدئ روع المهدي بكلمات رقيقة، ولكن المهدي الذي كان كان قد رتب هذا المنظر التياتري مع عبد الله ومع شقيقه صار يتكلم بحماسة وحرارة، ويحض أبا السعود على أن يؤمن بما يقوله.
أما أبو السعود فكان الآن مهموما بنفسه لا يبالي إلا بأن يرجع إلى الخرطوم، ورجع بالفعل وأخبر الحاكم العام بحبوط مهمته.
وأدرك محمد أحمد أنه ليس هناك مجال لإضاعة الوقت، وأن مستقبله يتوقف على مجهوده، فلم يتوان عن الكتابة إلى جميع أنصاره في أنحاء السودان يستثيرهم على الحكومة، أما الأنصار القريبون منه فقد أمرهم بأن يستعدوا للجهاد.
Bilinmeyen sayfa