وعاد الخليفة بعد ذلك وأخذ «أحمد الدليا» يتمم مهمته، فترك 23 جثة هامدة ملقاة على الأرض هنا وهناك، والباقي ينفذ فيهم الحكم بأفظع حال.
وقد كان هؤلاء يلاقون الموت بشجاعتهم المعهودة فيهم ولم يجزع واحد منهم، بل كان معظمهم يردد كلمات تنبئ عن البسالة؛ كأن يقول أحدهم: «الموت حق»، أو «لا بد لكل واحد أن يموت»، أو «من لم ير في حياته شجاعا يلاقي الموت فليقدم إلى هنا ليرى بعينيه.» وغير ذلك مما يثبت عدم اكتراثهم لما كانوا يلاقونه.
وبعد ذلك تمت إرادة الخليفة بأن أعدموا جميعا، ولما عاد إلى دارة أصدر أمره بأن يترك النساء والأطفال بدون مأوى حتى يباعوا بأرخص الأثمان.
وبالرغم من تلك المناظر التي كانت تقشعر منها الأبدان، كنت أشعر بسرور في نفسي لما وصلني من الأخبار بأن هناك خطابات ستصل إلي قريبا من إخوتي، وأن في الطريق صندوقين لي من النقود. وفي صباح يوم بينما كنت جالسا أمام الباب، وصل جمل يحمل صندوقين، وطلب الجمال مقابلة الخليفة شخصيا، قائلا إنه جاء ومعه رسائل من عثمان دجنة، وأمر الخليفة بعد أن تقابل مع الجمال بأن يرسل الصندوقان إلى بيت المال، وكان قد دهش في أول الأمر لما رآهما، وأمر أيضا بأن تعطى الخطابات إلى كتاب سره، وضاق صدري لطول الانتظار؛ لأني كنت أحب أن أعلم ما ورد لي، وكانت للخليفة لذة خاصة في عدم إبلاغي أي شيء قبل غروب الشمس . فلما غربت ناولني الخطابات، وكانت - كما لاحظت - من إخوتي وهم يظهرون فيها سرورهم العظيم لما تسلموا مني خطابا وعلموا بأني لا زلت على قيد الحياة.
وكان أحد تلك الخطابات باللغة العربية موجها إلى الخليفة نفسه يشكرونه فيه على عنايته بي، والذي كتبه هو الأستاذ «واهر مند»، فجعله كله آيات مدح، فلما اطلع الخليفة عليها صار يترنم بذكر كاتبها وأمر بقراءة الخطاب في المسجد عقب الصلاة، ثم أمر بعد ذلك بأن يرد الصندوقان إلي.
وترجمت إليه الخطابات التي وصلت إلي، وأبلغته أن إخوتي أرسلوا إليه كيس سفر هدية، وأنهم يلتمسون منه التنازل بقبول هذه الهدية الصغيرة التي لا تتناسب مع مقامه العظيم، فقبلها وأمرني بإحضارها إليه في صباح الغد، وأرسل معي تابعيه ليحضرا فتح الصندوقين، فتوجهنا جميعا إلى بيت المال حيث فتحناهما، فوجدت فيهما مائتي الجنيه التي طلبتها، وكذلك الساعات وأمواسا للحلاقة ومرايا وجرائد وترجمة القرآن باللغة الألمانية وهدية الخليفة، وقد تسلمت كل هذه الأشياء ثم توجهت إلى حجرتي وأخذت أعيد قراءة خطاباتي، واحتفظت بالصحف التي تحوي أخبار بلادي العزيزة!
وكانت تلك الصحف عبارة عن أعداد جريدة
Nene Freie Presse ، وهي بطبيعة الحال فيها الكفاية لسد رمق من لم يعرف شيئا عن أخبار بلاده منذ ست سنوات، وجاءني الأب «أوهروالدر» خفية وأخذنا معا نقلب تلك الصفحات.
وفي صباح الغد قمت مبكرا وحملت الهدية وذهبت إلى الخليفة فأمرني بفتحها، ولما رأى ما احتوت عليه من علب المعدن اللامعة والزجاجات والأمواس والفرش، أظهر إعجابه الكثير، ثم ابتدأت أوضح له فائدة كل شيء على حدة، وحينئذ أرسل في طلب القضاة الذين كانوا في ذلك الوقت يباشرون عملهم، فلما جاءوه واطلعوا على ما احتوته الحقيبة دهشوا كثيرا، ولو أني كنت على يقين من أن كثيرا منهم رأوا مثل هذه الأشياء قبل الآن.
وبعد ذلك طلب الخليفة كاتب سره وأمره بأن يكتب في الحال خطابا لإخوتي، يبين فيه المركز السامي الذي أشغله عند الخليفة وثقته التي لا حد لها في أخيهم، وأن يدعوهم للحضور إلى أم درمان لزيارتي، وأن لهم الحرية التامة في الرجوع بعد تأدية الزيارة.
Bilinmeyen sayfa