حاولت أن أكون حياديا قدر الامكان، فقد علمت عن مدى مهارة الدكتورة ساي في اختصاصها وتميز أسلوبها وانفراده عن غيرها من الأطباء النفسيين. وهذا كان واضحا من المقابلة، لا أعلم ما هي الصفة الأنسب لتلك المرأة، حقا هي متفردة بطيشها مع أنها في الأربعين من عمرها، إنها شخص مرح جدا، صوتها مرتفع أغلب الوقت ولا أعلم لم كل هذا المرح والفرح!
بعد طول تفكير، وجدت نفسي أختار ملفها من بين الثلاثة، أعتقد أن هناك شيئا جديدا تستطيع إضافته لنا. تواصل معها الموظفون المسئولون عن الأمور الإدارية وتم الاتفاق على أن تعمل بدوام جزئي في المركز لأنها لا تستطيع الاستغناء عن العمل في عيادتها. دوامها الجزئي سيكون في أيام العطل، ستأتي إلى المركز يوم الجمعة مساء وتغادر يوم الأحد؛ أي إنها ستبيت في المركز ليلتين لأن بلدتها بعيدة عن المركز. فالدكتورة ساي تستطيع التفرغ أيام العطل فهي غير ملتزمة مع عائلة أو أطفال، فقد علمت أنها كانت متزوجة ولكنها انفصلت عن زوجها منذ مدة طويلة. لكن لم أعلم أنها أيضا تمضي ليلها بين الكتب، المشكلة ليست هنا، المشكلة أن الدكتورة ساي لا تستطيع الجلوس بهدوء حتى في المكتبة. في الليلة الأولى، اعتقدت أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن ما حدث هو أنني لم أستطع أن أقرأ ولا حتى صفحة واحدة! بينما هي قرأت كتابها، واستمتعت بوقتها، وأفسدت علي كل شيء! لم أبد استيائي مباشرة، لكني قررت أن أنبهها إن تكرر الأمر، سأخبرها أن المكتبة ليست مكانا لتبادل الأحاديث والأكل، إنها لا تكف عن التهام رقائق البطاطا والحلويات واحتساء الشاي طيلة فترة مكوثها في المكتبة. سأجد لها حلا إن عاودت ما فعلته الليلة القادمة.
وكما توقعت في اليوم التالي، حل الليل، وفي الساعة العاشرة، ذهبت إلى المكتبة لأراها قد سبقتني إلى هناك واحتلت مكاني أيضا، يا للوقاحة! تجاهلت الأمر، وألقيت التحية وجلبت كتبي. بينما بدأت هي بالكلام والمضغ والضحك. - دكتورة شوجا، أود التركيز، هل لي بذلك؟ - أوه! لقد أزعجتك، أنا آسفة حقا، لكن أرجوك نادني باسمي الأول، لا أحد يناديني باسم شوجا أبدا ولم أعتد عليه طيلة حياتي. - حسنا كما تشائين!
عاد كل منا إلى كتابه، استطاعت أن تجلس لمدة ساعتين بشكل هادئ ثم عادت إلى حركتها المفرطة. مضت تلك الليلة وكنت سعيدا أنها في الليلة القادمة ستكون قد عادت إلى بلدتها.
خلال شهرها الأول في المركز، كنت أراها في المكتبة، لكنني لم أكن ألاحظها أبدا في المركز. شيئا فشيئا بدأت أراها في حديث الجميع. الجميع هنا في المركز يتحدثون عنها، عن أسلوبها المتميز. عندما سمعت ذلك اطمأن قلبي أنني اخترت لهم الشخص المناسب. أصابني بعض الفضول لأرى أداءها، وليتني لم أره!
هيروكي
كان انطباعي سيئا جدا، لن أنسى ذاك المشهد ما حييت. عندما كنت أتجول بين قاعات المركز تذكرت أنها تكون في القاعة الكبيرة للمركز في يوم الجمعة. طرقت باب القاعة ودخلت، فرأيتها وهي واقفة على الطاولة في قمة حماسها كما لو أنها تقدم عرضا مسرحيا! لا أعلم عن ماذا كانت تتحدث، ولا أعلم ضرورة وأهمية ومبرر حماسها ووجودها فوق الطاولة في تلك اللحظة، لكن هذا المشهد لم يعجبني بتاتا!
ما أزعجني أكثر هو أنها حين رأتني ألقت السلام وبقيت على حالها، بل إنها دعتني للدخول وحضور المحاضرة وهي بهذا الشكل المزعج، بلا أي شعور بخطأ الموقف. لم أطل وقوفي، أجبتها أن لدي أعمالا أخرى وعدت إلى مكتبي غاضبا جدا. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أرى تصرفات طائشة هنا وهناك، بينما الجميع يمتدحها. هذا الشيء الوحيد الذي جعلني أطيل من صبري عليها. أما في المكتبة فبت أتجنبها كي لا تزعجني، فإن كانت في الجناح اليميني للمكتبة، كنت أنتقل إلى اليساري أو العكس. أنا في المركز لا أتسامح إطلاقا مع أي شيء قد يعطل عملنا وإنجازاتنا، وطالما أن تأثيرها إيجابي، فلا بأس! أنا لا أدع الأشياء الشخصية تؤثر على قرارتي، فطبيعة عملي تجبرني على التعامل مع كافة أنواع الناس، فاعتدت التعامل مع الجميع بشكل دبلوماسي، وصارت لدي خبرة لا بأس بها في معالجة هذا النوع من الأمور. إلا أنها رغم تجنبي رؤيتها ما زالت تصر على اختبار صبري!
في المركز نقوم بشكل أسبوعي تقريبا بإرسال أوراق بحثية لمجلات علمية عالمية ومؤتمرات وورش عمل. لذا بالمقابل، نستقبل ردودا فيما يتعلق بتلك البحوث بشكل أسبوعي أيضا، مفادها فيما إذا ستتم الموافقة عليها أم لا، وعن التعديلات التي علينا أن نجريها في حال تم اعتماد البحث وقبوله للنشر. أما أنا فتصلني النتيجة النهائية حينما يتم قبولها بشكل نهائي عن طريق رسالة ترسل إلى بريدي الإلكتروني من قبل الكاتب الأساسي للورقة البحثية سواء أكان طالبا أم باحثا، وذلك لكي أقلل قدر الإمكان عدد الرسائل التي تصلني في اليوم، فيتسنى لي قراءة الرسائل التي تتطلب ردي بشكل شخصي. لكن كيف ستستطيع تلك المرأة المندفعة أن توقف حماسها وألا ترسل الورقة البحثية التي شاركت بها والتي تم قبولها بشكل مبدئي؟ كلما تقدمت الدكتورة ساي خطوة في عملها كانت ترسل لي نسخة عن تلك الرسائل، وبذلك باتت تظهر لي في بريدي الإلكتروني حتى إن لم تظهر لي في الواقع!
بعد مرور شهرين على هذه الحال، قمت بإرسال رد على إحدى تلك الرسائل ومفاده:
Bilinmeyen sayfa