طلبت أن أتكلم مع هيروكي في الردهة لمدة خمس دقائق، في البداية اعترض هيروكي وأخبرني أن لا حديث بيننا وأنه لا يوجد شيء يخفيه عن ساي، فإن أردت أن أتكلم فلأتكلم أمامها، ولكن بعد أن أشرت برأسي إلى ساي ورآها هيروكي مستلقية في الفراش ومتعبة، علم أن أي حديث سيجري أمامها الآن لن يسبب لها سوى المزيد من الإرهاق والتعب؛ لذا وافق ممتعضا على مرافقتي إلى الردهة. هناك جرى الحديث بيننا، حديث ربما كان يتوقعه هيروكي منذ البداية ومنذ أن طلبت منه مرافقته، حيث ألقيت اللوم عليه وأخبرته أن هذا الجنين قد يتسبب في موت ساي، صمت هيروكي لبرهة ثم أجابني بهدوء شديد: هل تعتقد أني أستطيع تحمل خسارة ساي كما فعلت أنت؟! هل تعتقد أني أناني لهذه الدرجة لأضحي بالإنسانة التي أحب؟!
هيروكي
بعد أن تحسنت حالة ساي، قام الطبيب بتوصيتها بأن تعتني بنفسها أكثر وألا ترهق نفسها إطلاقا وأن تبقى مرتاحة طيلة الوقت، فوضعها الصحي سيئ، واحتمال تكرر النزيف وارد جدا. وعدته أنها ستعتني بالجنين وبنفسها وأن ذلك لن يتكرر أبدا، نظرت إليها وقلت في نفسي: تعده كما لو أن الأمر حينما سيتكرر سيكون بيدها!
نتيجة لذلك، توقفت ساي تماما عن الذهاب إلى العيادة، وقمت بتعيين امرأة لتعينها في أعمال المنزل، وفعلا كانت ساي حريصة كل الحرص على صحتها، عندما رأيت استقرار وضعها الصحي بدأت مشاعر التفاؤل تجوب قلبي وعقلي، خاصة أن بطن ساي بدأت بالظهور والانتفاخ أكثر، شعرت بمشاعر لم أشعر بها في حياتي، عادت الأمور تدريجيا بيننا، خاصة أن ساي أحست ببدء قبولي للحمل وللطفل ولعدم إصراري مجددا على الإجهاض. كانت ساي تتحايل على مظهرها ليبدو حملها ظاهرا أكثر، اشترت الكثير من ملابس الحمل رغم أنها لا تخرج كثيرا من المنزل كي لا تجهد نفسها. كانت سعادتها لا توصف، وانتقلت عدوى السعادة تلك إلى قلبي أخيرا، لكن تلك السعادة لم تدم طويلا للأسف.
كان ذلك في أحد أيام العمل الشاقة لي، استيقظت منذ الصباح، طبعت قبلة على جبين ساي وعلى بطنها، شعرت بي فأخبرتها أنني سأنطلق الآن إلى العمل. ما حدث أنني حين غادرت نهضت ساي وفجأة أحست بألم شديد، أشد من ذاك الذي شعرت به منذ عدة أسابيع حين نزفت لأول مرة، وبدأت بالنزيف. اتصلت حالا بي وهي بين دمائها، أخبرتني أنها ستنطلق إلى المستشفى بسيارة أجرة لأن وضعها سيئ جدا ولا تستطيع الانتظار. أخبرتها أنني سأنطلق حالا لألقاها هناك. وفي الطريق لم يكن جسد ساي قويا بما فيه الكفاية ففقدت وعيها، وحين توقف سائق الأجرة أمام بوابة المستشفى كنت هناك أنتظرها، فرأيتها بحالة بين الحياة والموت غارقة مجددا بدمائها. حملتها بأقصى سرعتي، أما هذه المرة فليس إلى قسم العناية المشددة بل إلى غرفة العمليات؛ فالجنين قد مات وستتم عملية الإجهاض حالا لعل النزيف يتوقف.
مرت ساعة، ساعتان وما زلت منتظرا خارج غرفة العمليات، تخرج الممرضات ويعدن ولا أفهم منهن شيئا عن حالة ساي. كنت مذعورا، خائفا، لم أصدق هذه المرة ما حدث، ولم أتوقعه. كنت قد نسيت كل هواجسي ومخاوفي، كنت قد عقدت الآمال وصدقت ساي أن كل شيء سيكون على ما يرام، كنت أعد معها الأسابيع وأنا سعيد بمرورها ونسيت أن القادم أعظم وأصعب. ثم ها هو الطبيب قد خرج أخيرا من غرفة العمليات، بوجه شاحب ومرهق، كدت أفقد أعصابي؛ فأنا الآن قد عدت إلى توقعاتي القديمة، لم أكن أستطيع سماع كلمة أني سأخسر ساي، كانت تلك الثواني من أصعبها على قلبي إلى أن نطق الطبيب: ساي بخير لا تقلق، لقد فقدنا الجنين، واضطررنا إلى استئصال الرحم بالكامل، لأن النزيف لم يتوقف. الآن هي بحالة حرجة لكن النزيف توقف، أرجوك أن تبقى قويا.
كان الجزء الأهم بالنسبة لي أن ساي بخير، لكن قلبي تفطر على ما حدث، وفي اللحظة نفسها كانت الممرضة خارجة من غرفة العمليات وهي تحمل بقايا الجنين في إناء ليتم فحصه. جريت نحوها لأراه، أخبرتني أن لا داعي لذلك، لا داعي للاستنزاف العاطفي، فقلت لها: أرجوك يا آنسة، أود رؤيته.
لم يخطر على بالي أني سأشعر بهذا الشعور يوما اتجاه هذا الجنين. صحيح أن عمره لم يتجاوز عشرين أسبوعا لكني حين رأيته وأمسكته بيدي، لم أتمالك نفسي وغلبتني الدموع، فهو طفلي الذي لم أحظ به بالنهاية، طوال فترة الحمل، كان جل ما يشغلني هو سلامة ساي فقط، لم أفكر بالطفل كثيرا ولكن كل شيء اختلف حين رأيته وخسرته في الوقت نفسه، تمنيت لو أن هذا الطفل كان أقوى واستطاع النجاة، تمنيت لو أني أنا نفسي كنت أقوى ودعمت هذا الطفل منذ البداية، تماما كما دعمته ساي، لو أني أحببته بلا شروط منذ البداية.
تذكرت عصفورا كان في منزلنا، كانت والدتي تصر على وضعه في غرفتي وأنا أصر على نقله، كانت والدتي ترغب بأن يضفي هذا العصفور لغرفتي الكئيبة المليئة بالكتب فقط بعضا من الحياة، في النهاية رضخت لقرارها ووضعته مع شرط ألا أكون مسئولا عنه وبالفعل تم الأمر، لم أكن أكترث لهذا العصفور أبدا، كنت أعتبره كقطعة أثاث من الغرفة، ولكن حين توفي هذا العصفور أحسست بألم فقدانه، بت أشتاق لتلك الأصوات التي كانت تصدر منه، أشتاق لحركته الدائمة، تمنيت لو أنني أعرته بعض الاهتمام ولم أفكر فقط بالأمور الأكبر والأهم، نعم تلك التفاصيل الصغيرة الموجودة في حياتنا هي مهمة جدا ولكننا لا ننتبه لوجودها بالأساس إلا بعد فقدانها، تماما كما حدث مع طفلي الآن، كنت أفكر في ساي فقط ونسيت أمر طفلي، والأدهى من هذا وذاك أن لا أحد سيواسيني بهذا الفقدان، بل على العكس تماما أنا من سيواسي ساي الآن.
هيروكي
Bilinmeyen sayfa