مر اليوم بأكمله وساي لم تجب على رسالتي كما لم تتصل، كنت واقفا وأنا أنظر من خلال نافذة غرفتي من الطابق الثاني عشر من الفندق الذي أقيم فيه. وبينما أنا غارق في التفكير منتظر جوابا من ساي أو أي ردة فعل منها، وقفت أتأمل المدينة وهي غارقة في الثلوج مثلي، كم كان قاسيا ذاك الشعور! كان الثلج يتساقط بكثافة لكن ببطء، لم تكن هناك رياح شديدة، كان كل شيء باردا وهادئا، تماما كانسحابي من حياة ساي. بقيت أتأمل المكان، كنت على علو مرتفع، لكن ذاك العلو لم يكن ليمنعني من أن أميزها، رأيتها من خلال النافذة، إنها ساي! حين رأيتها واقفة عند بوابة الفندق بدأ قلبي بالارتعاش، أتراها قادمة لتخبرني بقرارها؟ ذهبت إليها ونبضات قلبي تسابقني، صرخت وأنا راكض نحوها: ساي ما الخطب؟ كيف وصلت إلى هنا؟
ضمتني بقوة، وكانت تبكي بحرقة: هيروكي كيف تتجرأ على تركي والذهاب بعيدا؟ لم تود أن تتخلى عني؟
لا أعلم كم من الوقت أمضت تحت الثلوج فقد كانت ترتعش من البرد، ضممتها إلى صدري وحملتها إلى الفندق. لم تقل شيئا لكنني علمت أنها اختارتني أو ربما في أصل المسألة عندها لم تكن مسألة خيارات، وكنت أنا الوحيد لها، لكن الخوف وعدم الأمان كانا يملآن قلبي، إذا كنت خيارها الوحيد فيا سعادة قلبي! ساي، لو تعلمين مدى الامتنان الذي أكنه لك لأنك أحببتني، لأنك بادلتني هذه المشاعر. ساي، وتقف الكلمات عاجزة عن وصفك. لم أكن أتكلم بصوت مرتفع، كانت تلك الأفكار تدور في رأسي فحسب، لكنها ظلت تتمتم وهي بين ذراعي بصوت خافت ومرتجف وبصورة متكررة: نعم أعلم، فأنت قد وعدتني.
ضممتها إلي بقوة، وبت أربت على رأسها كطفلة صغيرة إلى أن هدأت واطمأنت. لم نتحدث عن شيء في تلك الليلة، لكن في صباح اليوم التالي سألتني عن رسالتي وتحدثنا كل بما عنده، كنت ممتنا لها أكثر بعدما حكت لي ما جرى خلال تلك الأسابيع. اكتشفت كم أحبتني خاصة بعدما سمعت خبر مرض زوجها السابق، فهي إن لم تكن تنوي البقاء بجانبه بدافع الحب، علها كانت ستبقى بجانبه بدافع الشفقة! أو بدافع رد المعروف، لم أكن لألومها على ذلك فقد قدم لها الكثير سابقا، لكنها معي هنا وبجانبي. ساي، أرجوك ابقي معي، أحبك حتى آخر أنفاسي، لم أستطع البوح لها عما في داخلي، نظرت إليها نظرة هائم وأنا أتأملها.
ساي
حين تزوجت من هيروكي لم يكن موضوع الطفل يشغل بالي أبدا، لكن ومع غياب هيروكي المتكرر بسبب مؤتمراته وأبحاثه، أصبحت فكرة الطفل تراودني من حين لآخر. كنت أرغب في أن يحصل تغيير في حياتنا، أن يأتي من يملؤها بحركاته وضحكاته وبكائه. كنت مدركة تماما أن أي أنثى ستجتاحها مشاعر الحاجة إلى الأمومة في حياتها، مهما علا شأنها وارتقت منزلتها وكبرت مسئولياتها. لم أكن أقتنع بقول صديقاتي عن أن مرضاي هم كالأطفال بالنسبة إلي، وأني لست في حاجة إلى ملء أي فراغ في حياتي، أو بقول أخريات إن مشاريعهن وحياتهن العملية الناجحة هي الطفل الذي أنجبنه. كنت مدركة ألا شيء سيملأ مكان الطفل في داخلي، ولكن كنت أقمع تلك المشاعر بين الحين والآخر ولم أكن أدعها تسيطر علي، خاصة مع الظروف التي عايشتها سابقا. هذا لا يعني أبدا أني لم أفكر في الإنجاب أو حتى التبني بل فكرت كثيرا حتى وأنا عزباء مطلقة، فكرت بطفل أتبناه وأكمل معه حياتي، لكني في الوقت نفسه خفت من مسئولية لا أستطيع تحملها وأنا وحيدة في هذا العالم المجنون، وها هي ذات المشاعر والأفكار تجتاحني الآن.
ذهبت إلى طبيبتي في موعد الفحص الدوري فطمأنتني أن كل أموري طبيعية ولا يوجد شيء يدعو للقلق، كان مصدر القلق لدي هو الوراثة، نعم الوراثة؛ فوالدتي توفيت بسرطان الرحم وقبلها جدتي بسرطان الثدي، كنت أتخيل دائما أن نهايتي ستكون مثلهما، ولعل أحد الأسباب التي جعلتني أميل إلى التفاؤل، هو طبعي الطفولي اللامبالي وخوفي من المرض، فقد كنت أعلم أن فرصة الإصابة بهذا المرض تزيد مع سوء الحالة النفسية. حاولت دوما إبعاد نفسي عن الحزن ولكن أبى الحزن إلا أن يطرق بابي مرة ومرتين وثلاثة: حين وفاة والدتي ومن ثم طلاقي وانتهاء بوفاة والدي. سألت طبيبتي عن احتمال الحصول على طفل، أجابتني إجابة كنت أعلمها مسبقا، فأنا طبيبة في النهاية.
في ذلك اليوم حين عاد هيروكي أخبرته عن مشاعري وصارحته، في البداية ضحك، لم يكن يتوقع أني أتحدث بجدية، كان يتوقع أنها مجرد نزوة وستعبر تماما كما رغبت مرة في الحصول على قطة، وسابقا حين فكرت بالانتقال إلى أفريقيا. لكن هذه المرة لم تكن نزوة بالنسبة إلي، كان الطفل هذه المرة أولوية. لم يعطني هيروكي أي إجابة لا بالإيجاب ولا بالسلب، ربما كان ينتظرني حتى أتخلى عن الفكرة من تلقاء نفسي، أما أنا فقد اعتبرت أن صمته إجابة بالإيجاب، مع أنني أعلم علم اليقين أنه لا يعني الإيجاب، بل الرفض القاطع. لكنني لم أشأ أن أجادله أكثر فيصرح برفضه.
ومنذ أن اتخذت هذا القرار لم يكن لدي أي صبر، رغم أني طبيبة وأعلم أن أفضل وسيلة لحدوث الحمل هو عدم المبالغة في ملاحقته، وعدم وضع الجسم تحت توتر الانتظار والمراقبة، إلا أنني لم أستطع. خلال عدة شهور اشتريت ما لا يقل عن مائة كاشف حمل، بأنواع مختلفة، منها المبكر ومنها السريع، منها شديد الحساسية ومنها شديد الوثوقية، والنتيجة دائما ذاتها: سلبي، سلبي، سلبي ... لكني لم أظهر أيا منها أمام هيروكي، وهو لم يعلم بمراقبتي الدائمة، وحساباتي الدقيقة، وجداولي ومواعيدي، والكم الهائل من اختبارات الحمل التي أجريتها، حتى إنني ذات مرة قمت بإجراء اختبار للدم وذلك حين شعرت بكل أعراض الحمل المبكرة بشكل حرفي، أنا أكثر من يعلم أنه من السهل جدا توهم كل تلك الأعراض، وطبعا كانت النتيجة سلبية. كنت في كل مرة يمر الشهر من غير حدوث الحمل، أشعر بخيبة أمل شديدة، وبعد سبعة شهور بدأت بفقدان حماسي، لم أعد أجد أي نفع من حساباتي الدقيقة، ولم أعد أريد أن أرى خطا واحدا في اختبار الحمل.
بعد تلك الشهور، وفي يوم ما شككت في أمر الحمل، ترددت، هل أجري الاختبار أم أنتظر يوما آخر؟ كنت أريد أن أنتظر كي لا يخيب ظني مجددا، استطعت تحمل هذا القرار عدة ساعات، كانت الساعة العاشرة صباحا، هيروكي في المركز وأنا في العيادة، استسلمت لرغبتي الشديدة لتجريب الاختبار الآن وحالا. توجهت إلى المنزل كان ما زال لدي ما لا يقل عن خمسة اختبارات جديدة، فقد كنت في الآونة الأخيرة أشتريهم بالجملة، فأحضر في الآن ذاته خمسة أو ستة. أخذت واحدا لا على التعيين، كانت يدي ترتجف، شعور ما بداخلي أخبرني أن هذه المرة مختلفة عن كل المرات السابقة، أجريت الاختبار وكان علي أن أنتظر ثلاث دقائق لأرى النتيجة، أغمضت عيني وأنا أدعو أن أراه إيجابيا، عندما فتحت عيني ورأيت خطين لم أصدق في بادئ الأمر، نظرت إليهما مجددا، أدرت الأنوار، ذهبت نحو النافذة لأراه بضوء الشمس، كان إيجابيا! صرخت بأعلى صوتي، سعادتي لم تكن توصف، فقد وصلت إلى مشارف اليأس من حملي، لكني الآن حامل! أنا حامل! أنا ستكبر بطني، وسألد، وسأضم طفلي إلى صدري، وسأكون أما، أما لطفل هيروكي، وسيرهقنا من كثرة بكائه، وسنذهب إلى مراكز تسوق الأطفال، وسندخل إلى أقسام لم ندخلها طيلة حياتنا، سنمسك بتلك الأشياء الصغيرة، وننتقي، ترى هل ستكون بنتا أم ولدا؟ هل سيغدو بيتنا زهري اللون أم أزرق؟ هل ستمتلئ الجدران بصور الأميرات أم السيارات؟ سأجعل من الحديقة مدينة ألعاب، وسأخصص الجناح الأيمن من المنزل للطفل، لغرفته، وألعابه وملابسه وكل ما يلزمه.
Bilinmeyen sayfa