Buzdolabından Konuşan Ses: Öyküler
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
Türler
تقابلت وصديقي على مقهانا المفضل. يحكي لي عن ابنته المجنونة، تلك التي ترفض مناهج المدرسة بحجة عدم اقتناعها بها، وتتفرغ لقراءة روايات كلاسيكية. ابتسمت مذكرا إياه برغبتنا في إطالة شعورنا ونحن في سنها، وميلنا للرقص، وصفيرنا للجميلات على النواصي. في سن معينة تتعمد الخروج عن الأسفلت. لكن بعدها، حتى وإن لم يكبحك نضج ما، فإن الأسفلت له طريقته الفعالة في إرجاعك إليه. وبينما كان يمص قطعة بلاستيك بيضاء في يده - قبل أن يكسرها بأسنانه، ويبتلعها في ضجر - هونت من أزمته، ونصحته ألا يحمل هما، فالتعقل في الطريق.
أحيانا أسأل نفسي - وأنا سارح على مقعدي في المترو، تمر عيني على صور الناس المهزوزة، أو واجم أمام شباك مكتبي، أحدق في حركة السحب البطيئة - هل أنا أهل للنصيحة؟! منذ الصغر يختارني الكل ليسألوني عن علاج همومهم؛ من أول زميل الصف الرابع الابتدائي الذي أحب فتاة أكبر منا في الصف السادس، وأراني إياها من شباك فصلنا وهي تصعد السلم لفصلها، مصارحا إياي بشعوره وحيرته ، وصولا إلى سائق التاكسي الذي صادفته في مشوار ما، وينوي ألا يخبر ابن عمه عن زواجه القريب، حيث إن ابن العم لم يخبره قبلها بزواجه، ملتمسا مني الرأي الفصل في انتقام عادل كهذا. لماذا يلجئون إلي؟ هل يؤهلني شكلي للحكمة؟ وهل الحكمة بالشكل؟! هل يستشعرون أني أفتقر للمشاكل، وبالتالي فإن بالي مرتاح، وهو ما يترك فراغا يحتمل مناقشة مشاكلهم؟ ربما جاوبت بعضهم بذكاء، واقتنعوا أني لقمان العصر. على أي حال، لم يكن الأمر ذا أهمية، بل إنه رفع من قيمتي في أنظارهم، ومدني بثقة إضافية. سمعة العقل الراجح أفضل من سمعة خطاء أخرق، أو مجرد تافه.
كرهت الزجاج، ينكسر مثيرا فوضى جارحة. لذلك، عند رجوعي من العمل في ذلك اليوم سميك الحر، لم أشتر أكوابا زجاجية، رغم أناقتها، وإنما أكواب بلاستيكية. تعذرت لزوجتي أني لم أجد غيرها، وهاجمتني آلام قدمي التي بقيت عامين تتلقى جلسات العلاج الطبيعي ... وليس أي من ذلك هو السبب. لا شك أني أحببت ملمس البلاستيك في أزرار ريموت التليفزيون والريسيفر والتكييف، ومفاتيح النور والغسالة والكومبيوتر. بها نعومة، ورفق، وافتتان بالفاعلية، واحتفال بالإنسانية وما وصلت إليه. أتذكر بنائي لهرم من قطع بلاستيكية جمعتها من ألعابي المتكسرة، أو ربما كسرت بعضها كي أجمعها. كان ذلك أيام دراستي الابتدائية، ولم أكن أمتلك لمسة التحويل المتواترة بعد. إنها لم تظهر علي إلا في السنوات الأخيرة فقط. هل كانت بعد بلوغي الخامسة والأربعين، وترهل بطني، وهشاشة شعر رأسي؟ هل كانت بعد بيعي لبيتي القديم في الحي الشعبي المعربد الزحام، الدائم الصخب، الفضولي الجيران؟ هل كانت بعد اليوم الذي لم أعد أشعر فيه بآلام رأسي أثناء استخدام الموبايل؛ بعد سنوات دأب فيها الصداع على قصفي، وجنحت أعصاب وجهي إلى التشنج، كلما استخدمته؟! لا يهم ... هذا سؤال لن تفيد إجابته أحدا، تماما كسؤال البيضة والفرخة.
وفي صباح معتدل جديد، أنار قلبي وأنعش نبضاتي مثل سابقه، دلفت إلى الشرفة، لأطمئن على زهوري ومتانتها. لكني - لأول مرة - لاقيت فيها عبيرا أحببته. كان أشبه برائحة الملابس الجديدة ، أو مكان مغلق يحكمه التكييف. إنه عبير تألفه بسرعة، وله فخامة من نوع خاص. يا للروعة، يظهر أن هذه الزهور تطلق عطرا خاصا بها بعد فترة ما. تسلمت الراحة مقاليد الحكم، وسمعت زقزقة عصافير بثت سلاما مقدسا، وضممت ولدي إلى أحضاني في لحظة ابتسم لها دون فهم.
السعادة في الاطمئنان. وهي قاعدة علمها لي والدي دون أن ينطقها. فحينما يهدأ كل شيء في البيت، والحارة، والشارع، ونطمئن أن الغد هادئ، مستقر، مثل الأمس، وأن الإجابات لدينا، ولا داعي للأسئلة، وأن أفضل تجديد في ترك القديم يؤدي عمله دون اعوجاج، أو شطط، وأن الصبر على الشدائد هو قمة الإيمان؛ حينما يتحقق كل ذلك، فابتسامة أبي النادرة، الراضية، تفرش حدائقها الزاهرة على وجهه. آآآه، كان يلمس الأشياء فتتحول إلى خشب؛ يا لها من أيام أكثر بركة، وأقل غلاء.
الباسمة
أقابلها بشكل شبه يومي على الفيسبوك، توزع ابتسامتها على الجميع كما توزع الزهرة شذاها. وسط الحروب الأهلية، ومستنقعات الأخلاق، وتلال جثث اللحظات، وعفونة ونتانة حياتنا ... تبتسم بلا رادع. كاد تفاؤلها يمسني كقبلة الأميرة للضفدع، تلك التي ستعيده إنسانا، أو أميرا «لا أذكر بصراحة»، لكن هيهات. من يبتسم ساذج، ولم يسمع الخبر المحزن بعد. والحزن حاكم نشيط، يظهر في التليفزيون والجرائد باستمرار كي ينبئنا أن الألم ليس فرضا شرعيا، وإنما عضو في جسد الإنسان، لا يمكن بتره. العجيب أني وسط سيول التشاؤم الحارة، والتي أغرقت مدينتي منذ 4 عقود، كنت أتذكر صمود هذه الباسمة. إنها في عشرينيات عمرها، فهل ستبقي على ابتسامتها المجاهدة طويلا؟ مر على علاقتنا في الواقع الافتراضي عامان، وهي لا تزال هي. كل شهر، في صور منفردة، أو مع آخرين، تضج ألفة ومودة، باسمة لعين الكاميرا. في مرة رسمتها كعملاق يلكم بركانا على وجهه «أين ذهبت تلك اللوحة؟!»، يبدو أني بدأت في الإيمان بها غصبا عني. نعم أعرف، للإلحاح قوته. وفي مرة أخرى، رأيتها منعكسة في عين الفجر. لا أيها الأحمق، لم أشرع في حبها. وإنما - بصراحة - أحببت إصرارها على الابتسام . من أين تأتي بهذه القوة فوق البشرية على تحدي هراوة الأيام القاصمة؟! وفي مرة ثالثة، وجدت نفسي أفكر - جديا - في طبع صورتها، وتوزيعها على نزلاء المستشفيات، وحبيسي السجون، وموظفي الدولة، وعاطليها، وربما تكبيرها كي يتم تعليقها على كل سحابة تمر في سمائنا، بل لصقها على السماء ذاتها في أماكن متنوعة، حتى ينضبط الحال، ونهفو للمحال.
لا تظن أني ساخط. على العكس، أنا متصالح مع نفسي، ولحظتي، إلى أبعد مدى. منذ سن المراهقة، أدركت أني لا بد أن أكون باردا كي أعرف كيف أهنأ بالحياة، أو أحيا. من شب على شيء؛ شاب عليه. الحكاية باختصار أن المرارة، المزدانة بألوان السخرية، هي ملابسي الداخلية التي لا أستغني عنها. الجميع يرتدي تلك الملابس، وإن بدرجات جودة متفاوتة. حتى حينما سافرت إلى الخارج، واستنشقت هواء لم أعرفه من قبل، أصاب صدري سعال كريه، تصاعد إلى ربو، كاد يكلفني حياتي. لذلك عدت إلى بلدي، حبيبتي، بشوارعها الفاسدة، وناسها المحتقنين. ليعود وجه الباسمة يلاحقني. قبل النوم، عند الاستيقاظ، أثناء صمت المطبخ عند إعداد الشاي، في اللحظة الأولى التي أواجه فيها المرآة قبيل حلاقة ذقني، على درجات السلم الفارغة وقت الخروج، عند سماع زقزقة عصافير شجر الشارع في العصر، حين غروب الشمس على نحو رومانسي هادئ، مع ضجيج أطفال الجيران، بأصوات صراخهم الحلوة، عند الاستماع إلى موسيقى غربية مريحة ساعة تنظيفي للمنزل، عند تغيير الملاءات، وفتح الثلاجة، ومشاهدة الكارتون. كانت مثل روب حريري ناعم، يلفني مخفيا رائحة ملابسي الداخلية تماما. إلى أن هاجت الأوركسترا مرة واحدة، في نغمة عالية، تحمل بشارة نفيسة؛ معرضا للمنتوجات القماشية أعلنت أنها ستشارك فيه!
بدون «هممم»، هرعت إلى حلاقي العجوز، وطلبت منه تغيير فورمة شعري. أصابه القلق، وربما زمجر اعتراضا، لكني هدأته بابتسامة مزيفة، وأخبرته أنه طلب مخرج في قناة تليفزيونية سأظهر بها. اقتنع الرجل في لحظة، موافقا على تغيير يبغضه، لمجرد أني أدخلت لفظة «التليفزيون» في الحوار. حسنا، لا عجب، فالرجل يعبد جهاز تليفزيونه، ويفتحه على القنوات الرسمية طيلة الوقت، لدرجة أن وجهه صار شبيها جدا بوجه مذيع نشرة الأخبار، منقلبا - خلال عامين فقط - إلى أصلع مثله، وفي لون بشرته! بعدها، اشتريت عطرا غاليا. لا، لم أكن بخيلا أتعمد رخص العطور في السابق، وإنما لم تكن هناك مناسبة تستحق. حذاء فاخر كان ضروريا أيضا. لا تزال جملة والدتي ترن في أذني: «البنت بتبص للجزمة الأول.» ربما جاء ذلك من زمن كان الخجل فيه لا يزال على قيد الحياة «ستينيات القرن الماضي تقريبا»، لكني تيقنت أنها ستكون خجلة. هناك ذلك الارتفاع الدائم في كتفها، والذي يجاور رأسها في عدد كبير من الصور، كأنه يكمل لوحة ابتسامتها، في تشكيل يمزج الحياء الواعي بالخجل الطفولي. جررر ... أنا مشتاق إليك بالفعل. أريد مطالعة هذه الكائنة. أهي حقا ودودة هكذا؟! لا تسئ فهمي من فضلك. أنا مفتون - مثلا - بحيوان الباندا؛ حضوره الوديع، حركته الحزينة، عينيه اليائستين، و... ابتسامته العظيمة. وبالتأكيد إذا ما سمعت عن زيارته للبلد، سأختطف نفسي إلى مكانه فورا، كي أطالعه ثلاثي الأبعاد، وأشم رائحته، وأشعر بملمسه، وربما أنال محبته. لطالما شعرت أننا أقارب، بل أصدقاء. ربما كانت روحانا في أجساد أخرى، عاشت معا في زمن قديم، أو مجرة سحيقة، أو لا تزال تعيش في بعد لا نعلم عن وجوده شيئا. نضحك على النكات معا، ونغني الفرحة معا، ونصنع من آلامنا عجين صلصال نشكله على هيئة أطفال بلا هموم. تبا لعصرنا. تبا لهذا المصير. حسبك ... أنا أتكلم عن حيوان الباندا!
وفي اليوم الموعود، استيقظت منتعشا. صحيح حلمت بأني أمشي في طريق صحراوي، وقابلت غزالا تائها تحول إلى أسد يزأر غضبا، لأكمل سيري في الصحراء بكل برود، وصحيح أن المشي استمر بعدها لدرجة مسخية الملل. لكني معتاد على هذه الأحلام القذرة، ولا أحب أن أفكر فيها طويلا، خاصة اليوم. وهناك، وسط ممرات، ومعروضات، وأناس، وأصوات ... قابلتها. لا تنتظر تعبيرات من عينة «توقف قلبي»، «اشتعل دمي»، «اختلجت خطوتي» ... انس أيا من ذلك. الحق أني لم أهتز؛ فأنا عقلاني. المشاعر عندي تسكن المخ. تزور القلب أحيانا للمصيف ، لكنها لا تستقر هناك. تماسكت، وركبت مصفاة على فمي ليخرج حديثي رائقا رشيدا، وقللت من فولت لساني كي لا تتعجل كلماتي وتصطدم ببعضها. وصممت جملة جيدة، فيها ترحاب اللقاء الفيزيقي الأول، بعد لقاءات افتراضية عديدة، وفيها كذب عن اهتمامي بالمعروضات القماشية. شهيق ... زفير؛ متعمدا النظام. ثم دخول وسط دائرة المحيطين بها. ألقيت السلام عليها في نبرة مرحة، غير مألوفة بالنسبة لي. ميزتني مائلة برأسها، مع لمعة خفيفة في عينيها؛ ترجمتها كترحاب ما، ثم مدت يدها كي تصافحني. لا أخفيك سرا، تكهربت لثانية. كهرباء لذيذة، لم أعشها إلا مرات سابقة تعد على أصابع دجاجة؛ منها عندما أخبرتني حب المراهقة، حينما دعوتها إلى مطعم ثم أحبطنا اكتشاف إغلاقه: «كفاية إنك معايا». ومرة حين منحتني حب الشباب - حسبنا الله ونعم الوكيل فيها - فرصة لأطالع عينيها، عندما سمحت لي، في مرة وحيدة، أن أحادثها. هذه المرة، رفع سلامها حاجبي، وربما حرارتي. خشيت جدا أن يحمر وجهي. وبعد حوار أبله قصير، عن منشوراتي على الفيسبوك، وآخر أخبار جاري الذي يرفع صوت مذياعه، وكتبت مرارا عن شجاري معه، ورغبتي في تدمير محطته المفضلة حتى لا يجد ما يسمعه ... لاحظت أنها تقاطعني لتصيح في وجه زميلة لها، ضمن فريق مساعديها حسبما فهمت، وتسبها لبطئها، بينما تعترض الأخيرة - في أثناء ترتيبها المعروضات - بنظرة متظلمة خرساء، وراءها غل يحرق المعرض بأسره. لمحت في الباسمة جفافا، وصدمتني ذبذبات عنيفة تشع منها، من النوعية التي توتر أعصابك، أو تخربها. خمنت أنه حر اليوم، أو عداء قديم. ثم بعد قليل من حوارنا في اللا شيء، ركلت بقدمها ما لم أر أسفل المنضدة التي تقف وراءها، لأسمع نباح تألم. نظرت بانزعاج بديهي إلى أسفل، لأرى جروا صغيرا، من النوع الذي يحتويه كفاك بسهولة، يهرب مذعورا في سرعة لم أميز معها هل اللون الأسود في بياض جلده جزء منه، أم انطباع قدمها!
Bilinmeyen sayfa