وأنت لا تحتاج إلى كثير من التفكير، بل لا تحتاج إلى شيء من التفكير إذا قرأت هذه القصة؛ لتشعر شعورا قويا واضحا بأنها خليقة ببيت موليير، ففيها كل ما يلائم هذا البيت من شدة الأسر وقوة الفكر، وهذا الجد الذي تلذه دون أن يثقل عليك والذي تمتاز به الآثار الفرنسية القيمة. ولعل من الحق أيضا أن ألاحظ أني لم أقرأ في هذه الأعوام الأخيرة قصة حديثة أحدثت في نفسي من الأثر ما أحدثته هذه القصة، لا أستثني إلا ما يكتبه «فرانسوا دي كوريل» من حين إلى حين.
فلست أقول شيئا جديدا إن قلت إن النقاد الفرنسيين يلاحظون أن فن التمثيل قد أصابه شيء من الفتور غير قليل في هذه الأيام، فقلما تجد في عشرات القصص التي ينتجها الكتاب في كل عام، بل في كل فصل، قصة تملك عليك عواطفك، وتأخذ عليك طرق الحياة والتفكير، وتكرهك على أن تقف عليها وحدها حياتك العقلية والشعرية أثناء قراءتها في مكتبك أو مشاهدتها في الملعب. إنما هي قصص سهلة يسيرة، فيها عبث ولهو أو فيها تفكير غير متقن، وحوار خفيف لذيذ يمس الموضوعات في غير إثقال ولا أناة ولا اعتصار لخلاصتها. فأنت تقرأ أو تشهد هذه القصص، وأنت تجد في هذا شيئا من اللهو والفكاهة أو تحتاج إلى شيء من التفكير لا تلبث أن تنصرف عنه متى انصرفت عن القصة.
وأنت لا تكاد تنصرف عنها حتى تنسى موضوعها وحوارها وأشخاصها، وحتى ليحدثك في أمرها محدث بعد أن يمضي على ذلك شهر أو بعض شهر، فإذا أنت لا تكاد تذكر فيها شيئا. فأما هذه القصص التي تقرءها فإذا أنت تحفظ بعض حوارها حفظا، وإذا أشخاصها كلهم أو بعضهم قد ارتسموا في نفسك ارتساما، فأنت تراهم يقظان، وأنت تتوهمهم نائما، وإذا موضوعها قد نصب أمام عقلك نصبا، وأقسم لا يزول ولا ينتقل حتى تفكر فيه تفكيرا متصلا وحتى تجد له حلا يلائم عقلك وهواك. هذه القصص قد بعد العهد بها منذ مات «بول هرفيو»، وانصرف كبار الكتاب إلى مجدهم يلهون به ويستمتعون بثمراته، كما يهلو إله أرستطاليس لأنه لا يعلم إلا نفسه ولا يعجب إلا بنفسه. حتى بعض الكتاب الذين عرفوا قبل الحرب بالقوة والأيد وشدة التأثير في نفوس النظارة والقراء.
والذين لم ينصرفوا إلى مجدهم، وإنما ظلوا عمالا لفن التمثيل يجدون فيه بعد الحرب كما كانوا يجدون قبل الحرب وأثناءها، قد أصابهم الضعف وأدركهم الفتور. فأنت تقرأ ما يكتبون الآن، فلا تحس ما كنت تحس من قبل، بل أنت تنكر هؤلاء الكتاب إنكارا وإن كان النقاد قد مهدوا لقصصهم بالفصول الطوال ملؤها الثناء والتقريظ اللذان لا حد لهما. ويكفي أن ننظر إلى ما يكتبه «برنستين» الآن وما كان يكتبه قبل الحرب، لنقتنع بأن هذه الظاهرة حقيقة لا بد من ملاحظتها والتماس أسبابها للذين يعنون بهذا الفن من فنون الأدب الفرنسي. ولكني لن أضيع وقتك ووقتي في التماس العلل لهذا الفتور الذي طرأ على كتاب التمثيل، فإن هذا الفتور ليس مقصورا على التمثيل وحده، وإنما يتناول الأدب الفرنسي كله بعد الحرب، ويجب أن تلتمس علله في الحرب نفسها وما تركت في نفس هذا الجيل من أثر. إنما أردت أن ألاحظ أن هذه القصة التي أعنى بها اليوم تمتاز من هذه القصص الكثيرة التي تظهر وتختفي من ملاهي باريس دون أن تترك أثرا قويا أو ضعيفا. هذه القصة خليقة بالبقاء، وستبقى، وما أرى إلا أنها ستعمر طويلا؛ لأنها - كما قلت - قد جمعت هذه الخصال التي تمتاز بها الآثار الأدبية الفرنسية القيمة.
ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة، فليس هو من هذه الموضوعات الضخمة الفخمة التي تخلبك؛ لما لها من ضخامة وعظم شأن. وليس هو من هذه الموضوعات النفسية الدقيقة التي تسرف في الدقة، حتى لا يلاحظها إلا علماء النفس والذين وقفوا أنفسهم على تحليل ما لبعض الناس من ألوان العواطف والشعور الخاصة التي تدرس في المستشفيات. إنما هو موضوع عادي في نفسه يراه كل إنسان ويحسه ويشعر بآثاره، لا يحتاج من ذلك إلا إلى حظ عادي من الذكاء والملاحظة ودقة الحس. وأي إنسان لا يعرف أن كل امرأة، مهما تكن مقسمة النفس بين أسرتها الجديدة وأسرتها القديمة! أي الناس لا يعرف أن كل امرأة تتعرض لهذه الأزمة؛ أزمة الخصومة بين حياتها الزوجية وحياتها المنزلية الأولى؟! ثم أي الناس لا يعرف أن كل أسرة تتأسس، فهي إنما تتأسس على الأنقاض، وهي إنما تقطع شيئا كان متصلا لتصل شيئا كان مقطوعا. فالفتاة حين تدخل في أسرتها الجديدة تقطع الصلة بين أبويها قطعا صريحا أو غير صريح، وتنشئ صلة جديدة مع زوجها، وهذه الصلة يقويها الحب إن كان هناك حب، ثم تقويها الحياة اليومية، ثم يقويها الولد يوم يأتي الولد. وقد أرادت الطبيعة الإنسانية أن يكون الحب والمنفعة المشتركة بين الزوجين، والولد وضعفه وحاجته إلى التربية والتعليم، ثم الأثرة التي فطرنا عليها، عناصر من شأنها أن تقوي الصلة الجديدة، وتهون على الرجل والمرأة احتمال «عملية البتر» التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبويهما. ولكن نفوس الناس جميعا ليست مستوية الحظ من هذا الاحتمال، وظروف الناس جميعا ليست متشابهة، فقد يوجد الحب ويكون من القوة والشدة بحيث يلهي الزوجين عن قديمهما ويفنيهما في الجديد، وقد يكون هذا الحب قويا شديد التأثير ولكنه يصادف مزاجا قويا وفيا يستطيع أن يتسع للقديم والجديد، وأن يزعم الوفاء للأسرة والزوج، وقد لا يوجد الحب أصلا، فيظل الزوجان متأثرين بقديمهما وتكون الخصومة بين هذا القديم وبين المنفعة الجديدة التي تستتبعها الحياة الزوجية.
ونحن لم نفكر إلى الآن في الزوجين، فإذا فكرنا في أسرتيهما، فسنرى أن هاتين الأسرتين لا تقبلان في رضا واطمئنان هذه القطيعة التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبنائهما. فأما أسرة الزوج فساخطة أشد السخط، متألمة أشد الألم، ذاكرة ما بذلت من جهد وما احتملت من تضحية في تربية ابنها وتنشيئه، حتى إذا استقام له كل شيء لم يجز أبويه إلا بالعقوق، وإذا هو يؤثر عليهما امرأته، وإذا هو لا يحس أو لا يكاد يحس ما بينه وبينهما من صلة وما يعطفهما عليه من عاطفة. وأما أسرة الزوجة فساخطة أشد السخط على هذا الزوج نفسه ؛ لأنه قد أخذ ابنتها من ناحية فقطع الصلة بين الأبوين وبين هذه الفتاة التي بذلا في سبيلها ما بذلا من جهد، واحتملا في سبيلها ما احتملا من تضحية. ثم هو لا يقطع هذه الصلة فحسب، ولكنه لا يزال يحب أسرته ويعطف على أمه، وإذن فهو لا يحب امرأته كما ينبغي! وإذن فهو متصل بأسرته القديمة أكثر مما هو متصل بأسرته الجديدة!
كل هذه المعاني معروفة شائعة، يحسها الناس جميعا، وهي من الآلام الطبيعية التي تقوم عليها حياتنا الاجتماعية مهما تختلف الأزمنة والأمكنة. وقد يكون من ألذ المباحث الأدبية التماس ما تركت هذه الخصومة بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة من الآثار الأدبية شعرا ونثرا في مختلف اللغات.
والمعروف أن المرأة أشد اتصالا بأسرتها وأكثر وفاء لأبويها وأحفظ للمودة من الرجل، وأنها في الوقت نفسه شديدة الغيرة من أسرة زوجها، تخاصم أمه خصاما شديدا، وما تزال جادة في هذا الخصام متى تنتهي إلى الفوز وتظفر لأسرتها الجديدة بالاستقلال. ولكنها لا تحاول أو لا تكاد تحاول تحقيق هذا الاستقلال بالقياس إلى أسرتها هي، فالصلة بينها وبين أبويها قوية، والمودة متصلة، وهي تظهرهما من أمرها على كل شيء وتستشيرهما في كل شيء، وزوجها يرضى حينا ويسخط حينا، ويظهر الغفلة حينا، وينتهي دائما إلى الإذعان.
وقد اختار كاتبنا من كل هذه المعاني ومن كل هؤلاء الأشخاص المنبثين في الأرض كلها طائفة ضيقة صغيرة، عرضها علينا في قوة ومتانة ودقة تفكير، وشيء من التعقيد جديد ما كنا ننتظره نحن، ولكنه رفع القصة من مستوى القصص العادية، كما يقولون، إلى مستوى القصص الممتازة بدقة البحث عن عواطف النفس وأهوائها؛ ذلك أن الكاتب محا أسرة الزوج محوا تاما، فنحن لا نعرف أباه ولا أمه، وإنما نعرفه هو وحده، ونعرفه قويا له من الإرادة حظ عظيم جدا، شديد السلطان على نفسه، راغب في التسلط على غيره، موفق في ذلك توفيقا عظيما، وهو في الوقت نفسه هادئ المزاج حاد العاطفة، هادئ في حياته العادية قلما يظهر عليه الاضطراب أو الغضب ، ولكنه حاد العاطفة. يحب فلا يستطيع أن ينظم حبه ولا أن يضبطه، ويريد فلا يستطيع أن يضعف إرادته ويحولها عن وجهها. وتقع الخصومة بين حبه وإرادته، فيندفع في الحب إلى أقصاه، وفي الإرادة إلى أقصاها. ولا يستطيع أن يغلب أحدهما على الآخر، فيظل موضوع النزاع العنيف بينهما، ولولا أن تعنى الظروف بإنقاذه لذهب ضحية هذا النزاع. وهو إلى هذا كله عالم طبيب يعنى بطبه عناية العلماء في المعمل، منصرف إلى تجاربه، محاول أن يستكشف من هذا العلم ما يغير وجه البحث عنه وطرق العلاج فيه. وهو قوي في علمه قوته في حبه وفي إرادته، فهو عبد لهذه الأشياء الثلاثة: الحب، والعلم، والإرادة. هذا الزوج هو «بيير ريجو».
أما امرأته «فريدريك»، فهي في السادسة والعشرين من عمرها، جميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها قوية الإرادة أيضا، شديدة الكبرياء، إذا همت فليس ما يصرفها عن همها مهما تكن النتائج. وهي محبة قوية الحب، ليست أقل حبا من زوجها، كما أنها ليست أقل إرادة منه. ولكن إرادتها فيما يظهر أقوى من حبها، فهي تستطيع أن تسلو، بل هي تستطيع أن تألم، وتألم في غير حد. ولكن حبها هذا مقسم، فهي لا تحب زوجها وحده، وإنما تحب أباها مع زوجها. ولنلاحظ أنها فقدت أمها وهي حديثة السن، فعني أبوها بتربيتها عناية مضاعفة. ولنلاحظ أيضا أن أباها هذا شخص لا كالأشخاص: له حظ من قوة وبأس، هو طبيب عالم كصهر، ولكنه متقدم في السن إلى حد ما، يداني الخمسين، وهو على ذلك قوي له حظ من شباب، حلو الحديث فتان للنساء، مفتون بهن مقرب إليهن، يتهالكن عليه ويتفانين في حبه. وهو قد عني بابنته عناية شديدة، فأحبته ابنته حبا شديدا، وأحبها هو كذلك. ولكن في هذا الحب شيئا غريبا، فهو لا يشبه ما يكون بين الأب وابنته من البر والرحمة، وإنما يشبه ما يكون بين الزوجين من الحنان والفتنة. وآية ذلك أنك تبدأ في قراءة القصة وتمضي في الحوار بين الأب وابنته، فلا تشك في أنه حوار بين زوجين أو بين عاشقين، ويأخذك الدهش حين تستكشف بعد صحف من القصة أنهما أب وابنته.
Bilinmeyen sayfa