وليست هناك امرأة هادئة تستطيع أن تتعزى بأمومتها وحب أبنائها عن هذه العاطفة الطبيعية التي نسميها الحب، هي إذن تريد أن تحب، وتريد أن تجد من يحبها، وهي لا تحب زوجها ولم تحبه قط، ولم تتخذه زوجا لها إلا لأن أبويها اضطراها إلى ذلك. وزوجها لا يحبها ولم يحببها قط، ولم يتخذها زوجا إلا لأنه كان في حاجة إلى مالها، ولأنها كانت تكفي لترزقه هذين الصبيين، ولكن هناك فرقا آخر عظيما بين هذين الزوجين؛ فأما الرجل فسعيد راض بحياته، يرى أنه قد بلغ أقصى ما كان يريده من الأماني، ويرى أن ليس لأحد أن يطمع في خير مما وصل إليه، أما امرأته فشقية تعسة، تفكر دائما في مثلها الأعلى، وتشعر دائما بحاجتها إليه وبأنه لم يتح لها. وزوجها لا يحس منها هذا الشقاء، ولو أحسه لما فهمه، والأمر على هذا النحو بين الزوجين الآخرين اللذين وصفتهما لك منذ حين. «ففرسان» سعيد بحياته المادية، مغتبط بنشاطه ونتائجه، ولكنه يشعر بأن شيئا ينقصه، وأن هذا الشيء هو الحب، أو قل هو المرأة التي تفهمه ويفهمها، وتقدره ويقدرها ، وتشعر أن في الحياة شيئا غير الطعام والشراب والنوم والزينة، وامرأته «شارلوت» لا تشعر بشيء من هذا، بل هي لا تقاسم زوجها نشاطه وعنايته بالعمل المادي، فالحياة عندها مقصورة على هذا الجزء الحيواني الذي رفهته الحضارة بألوان الترف.
الأسرتان إذن متشابهتان تشابها عكسيا: المرأة شقية في إحداهما والرجل سعيد، والمرأة سعيدة في الأخرى والرجل شقي.
وفي القصر رجل آخر هذه الليلة خليق أن نعنى به عناية ما؛ هو «موران»، صديق قديم لصاحب القصر، معني بالفلسفة والبحث عن حياة النفس وظواهرها من الوجهة الاجتماعية، اتصلت الفرقة بينه وبين صديقه أعواما، ثم أقبل يزوره ويقضي عنده أياما، ولنلاحظ أنه عالم قبل كل شيء لا يؤمن بالدين ولا يطمئن إلى أصوله.
ورجل آخر يجب أن نعنى به أيضا؛ وهو القسيس «بلوكان»، قسيس الناحية، وهو من رجال الدين المستنيرين الذين يستطيعون أن يوفقوا بين أصول الدين وأحكامه والحياة الحديثة وما تدعو إليه. كان قسيسا في باريس، ولكنه أظهر شيئا من الميل إلى الحياة الحديثة، فأنكر ذلك الأسقف ونفاه عن باريس إلى هذه الناحية، فهو مقيم فيها منذ عشر سنين، يحب الناس ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، وهو مستنير حقا. انظر إليه يستخدم نوعا من «الموتوسيكل» كلما انتقل من مكان إلى مكان، والناس يعجبون لذلك، والأسقفية تتبرم به؛ لأن استعمال هذا النوع من «الموتوسيكل» لون من ألوان البدع في ذلك الوقت، كما كان اتخاذ الأحذية الإفرنجية لونا من ألوان البدع عند الأزهريين منذ خمسة عشر أو عشرين عاما.
ثم في القصر رجل آخر أقبل زائرا أيضا، وهو «سان فوان»، رجل خفيف الروح، يفهم الحياة كما هي، ولكنه يبسم لها ويتقاضاها حظه من اللذة فيها، ضاحكا أبدا حتى حين لا يدعو شيء إلى الضحك.
ولعل من الخير أن أذكر لك هذا الرجل الآخر «كورزاك»، وهو جار أعزب يحب صاحبة القصر منذ سنين، وهو يتتبعها ويلح عليها فتطمعه وتمنيه دون أن تتجاوز ذلك إلى شيء آخر، وهو شقي بهذا الحب الذي لا ينتهي إلى غايته، وهي سعيدة بهذا الحب الذي يمكنها من أن تعبث، ويشعرها بأن لجمالها سلطانا على القلوب.
أتريد بعد هذا أن ألخص لك حوادث الفصل الأول؟ ولكن ما نفع هذا التلخيص وكل هذا الفصل إنما خصص ليعرض علينا أشخاص هذه القصة ومميزاتهم. لا ألخص لك إذن حوادث هذا الفصل، فلسنا في حاجة إلى هذا التلخيص، ولكنني لا أنسى أن أذكر أن هذا الفصل يشعرنا شعورا قويا - ولكنه دقيق - بأن هناك شيئا غير عادي، فنحن نرى «فلنتين» محزونة متأثرة، يأخذها نوع من الإغماء مرة أو مرتين، ونرى «فرسان» يهتم لذلك ويغتم له، ثم نراهما يتحدثان لحظة، فنفهم أن بينهما حبا، وأن هذا الحب هو مصدر ما نشهد عند «فلنتين» من حزن وضعف، ولا ينتهي السمر حتى يتفق «لمبير» مع أصحابه على أن يجتمعوا عنده للغداء إذا أصبحوا، فهو يريد أن يظهرهم على داره وأرضه وعلى مصنع الورق الذي يديره، والذي يستحق أن يرى لموقعه الطبيعي مشرفا على سيل ينحط في قوة وعنف، مستمدا من هذا السيل قوة كهربائية هي التي تدير أدواته الضخمة. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن عند «لمبير»، وقد فرغ القوم من غدائهم، وأقبلوا على الحديث، وهم يعبثون إلا «فلنتين»؛ فهي كما كانت أمس محزونة كأنها ذاهلة، وقد دعاهم صاحب البيت ليشهدوا مصنعه، فهم يستعدون لذلك و«شارلوت» أشدهم استعدادا؛ فهي تهيئ نفسها وتتزين وتريد أن تأخذ معها أدوات زينتها، فينكر عليها زوجها ذلك ويشتد بينهما خصام، نفهم منه أن الصلة بين الزوجين ليست من المودة واللين على ما ينبغي؛ فالرجل يكره من امرأته خفتها وإسرافها في الميل إلى الزينة، ولا سيما حين تذهب إلى مصنع فيه العمال الكثيرون الذين يشقون اليوم كله ليكسبوا ما يتبلغون به، والذين لا يضمرون الخير للأغنياء ولا للمترفين، وامرأته تزدري هذا كله وتسخر منه، ولا تجيب زوجها إلا لائمة أو مزدرية. وقد انصرفوا جميعا إلا العاشقان «فلنتين» و«فرسان» فيبقيان، ولا يكادان يتحدثان حتى ننتهي إلى عقدة القصة في أقصى أطوارها من العنف والشدة، ولكنه انتهاء لم نفاجأ به؛ فقد أعددنا له الفصل الأول إعدادا كافيا. لا يكادان يتحدثان حتى يظهر حبهما قويا قد بلغ أقصى أطواره، وهما ضيقا الذرع بما يضطران إليه من التكتم والحذر والاحتياط، ولكن الأمر قد تجاوز ألم العاشقين، وضيق ذرعهما بالرقباء وبما يضطران إليه من حيلة، تجاوزا هذا كله إلى شيء آخر أشد منه ألما وأعظم منه خطرا؛ فلفلنتين سر تريد أن تلقيه إلى صاحبها، وهي وجلة مشفقة على أن هذا السر قد نغص عليها الحياة وحرمها النوم، ويوشك أن ينغص عليها الحب أيضا، وما يزال بها صاحبها حتى يفهم هذا السر، وهو أنها حامل، حامل ولا تشك في أن صاحبها مصدر هذا الحمل، فالصلة منقطعة بينها وبين زوجها منذ سنتين، وهي جزعة لهذا لأنها تقدر نتائجه، ونتائجه كثيرة خطرة كلها.
ماذا عسى أن يكون وقع هذا النبأ في نفس صاحبها؟ أليس من المعقول أن يكون هذا الوقع سيئا؛ لأنه ينغص الحياة والحب على هذا العاشق الذي لعله لم يكن يبتغي من الحب إلا لذة النفس والجسم خالية من كل شائبة معصومة من هذه الصعاب التي تنغص الحياة، وتجعل احتمالها عسيرا؟ فلهذا الرجل زوجه وله حياته الخاصة، وإنما كان هذا الحب لذيذا محببا إليه حين لم تكن تشعر به زوجه، ولم يكن يعرض حياته المنزلية للخطر، أما الآن فلن يستطيع هذا الحب أن يظل مكتوما، ولا بد من أن يعرف غدا أو بعد غد. أفيسره هذا النبأ أم يسوءه؟ يسره من غير شك؛ فهو يحب ابتغاء للذة أو التسلية لا إرضاء للشهوة أو الهوى، وإنما يحب حقا، وأي نبأ يسعد له العاشق حقا إذا لم يسعد لمثل هذا النبأ؟ أليس هذا الحمل نتيجة لهذا الحب الذي يكبره ويحرص عليه؟ أليس صلة مادية ومعنوية قوية بينه وبين من يحب؟ هو سعيد مغتبط، وهو لا يخفي سعادته واغتباطه، ولكنه لا يقدر النتائج الأخرى كما تقدرها هي، فماذا عسى أن يكون شأنه مع امرأته؟ وماذا عسى أن يكون شأنها مع زوجها؟ بل هو يقدر هذه النتائج، فهو لا يحفل بامرأته، ولا ينبغي أن تحفل هي بزوجها، وإنما ينبغي أن يستجيبا للطبيعة، وأن يخلص كل واحد منهما لصاحبه، يجب أن يطرح كل منهما رفيق حياته ومصدر شقائه وألمه، يجب أن يفرا إلى حيث يعيشان سعيدين، وإلى حيث يقفان حياتهما على هذا الحب السعيد، وعلى تربية هذا الطفل الذي سيقبل عليهما بعد أشهر.
يجب أن يفرا، وما أيسر الفرار، وما أحبه إليهما! ولكن هناك ما يمنع من الفرار، وهو لم يكن فكر في ذلك؛ هناك هذان الطفلان اللذان رزقتهما «فلنتين» من زوجها، هما ابناها، وهما ابناها بمقدار ما سيكون هذا الجنين ابنها أيضا، وإذن فكيف تستطيع أن تفر مع عاشقها، وتترك ابنيها هذين؟! بدأ الجهاد إذن بين الحب والأمومة، فهي مضطرة إلى أن تختار؛ فإما أن تؤثر حبيبها على ابنيها، وإما أن تؤثر ابنيها على هذا الحبيب، وهذا الجهاد هو الذي أظهرها لنا حزينة ذاهلة، وهو الذي عرضها للضعف وما يعاودها من الإغماء. لم تكن تبتغي بهذا الحب لذة ولا سلوى، وإنما كانت تحب صاحبها حقا كما كان يحبها حقا، وإذن فاضطرابها شديد، وترددها لا حد له، وصاحبها ليس أقل منها ترددا واضطرابا؛ فهو لا يحبها حب الأثر الذي يبحث عن سعادته وحده، وإنما يحبها لنفسه، ويحبها من أجلها أيضا، وهو يشفق عليها من فراق ابنيها، ويتردد في حملها على هذا الفراق، ولكن ما حل هذه المشكلة؟ وأين السبيل للخروج من هذا المأزق؟
Bilinmeyen sayfa