ولكنك لم تفهم بعد معنى هذا العنوان الذي وضع لهذه القصة، وليس فهمه عسيرا؛ فأنت تعرف القيثارة ومكانها من الأدوات الموسيقية، وأنها أداة متواضعة هادئة تلذ وتطرب ولكن في غير عنف ولا شدة، أما «الجازباند» فاسم لهذا النوع من الضجيج والعجيج الذي نقله الأمريكيون إلى أوروبا ثم الشرق، وهو ضرب من العنف أكره أن أسميه بالموسيقى؛ لأنه بريء من الموسيقى يرافق ألوان الرقص الحديث، ولا تكاد تخلو منه حانات باريس، ولقد ضحكت منه غير مرة. ولست أنسى ليلة في السفينة أراد المسافرون فيها أن يلهوا هذا اللهو الأمريكي، فجلست سيدة إلى البيانو وأخذت تستخرج أغلظ أصواته في غير نظام ظاهر، ووقف من حولها رجال يحمل بعضهم زجاجات فارغة يضربون عليها بملاعق صغار، ويحمل بعضهم الآخر أطباقا يضربون بعضها ببعض، ويحمل آخرون مراجل صغارا استعاروها من المطبخ وهم يضربون عليها بالملاعق ومقابض السكاكين، وهم يرافقون هذا الضجيج كله بضجيج آخر يحدثونه حين يضربون الأرض بأقدامهم ضربا عنيفا، والناس يرقصون على هذا الضجيج رقصا مضطربا، فيه فحش وفتور لا يبعث في النفس إلا حزنا وانقباضا. وأما القيثارة في قصتنا فهي هذه الفتاة المريضة الوادعة الصادقة في كل شيء، وأما «الجازباند» فهو هذه المرأة الباريسية المضطربة المتكلفة في كل شيء. •••
نحن في باريس في دار رجل من رجال الأعمال اسمه «ماكسيم برترو»، وقد أقام حفلة راقصة فأقبل عليه الناس من أهل اللهو والعبث. ونحن لا نرى صاحب الدار ولا امرأته إذا رفع الستار، وإنما نرى منظرا يضحكنا حينا؛ نرى شابا قد خلا في المقصف إلى فتاة يحبها وهو يريد أن يعلن إليها حبه فلا يستطيع؛ لأن الحياء قد عقد لسانه فهو يتلجلج، وهي تسخر منه وقد تركته لتعود إليه بعد حين، فدخل عليه صديق له يجب أن تحتفظ باسمه؛ لأنه من أبطال القصة وهو «ديني كرانسلان»، محام في محكمة الاستئناف، غني، جميل الطلعة، رشيق الحركة، معروف بفتنة النساء، فإذا رأى صاحبه في هذا الاضطراب سأله عن أمره، فإذا أنبأه أخذ يلقي عليه درسا في إغواء النساء والطرق التي تسلك إليه. وهما كذلك إذ تقبل الفتاة، فما أسرع ما يتملقها المحامي فيفتنها، فتدعوه إلى الرقص، فينصرفان ويتركان الفتى محزونا مغضبا. وإذا صاحبة الدار قد أقبلت، ويجب أن تحفظ اسمها؛ فهي من أبطال القصة، وهي «مارتين»، جميلة، فاتنة، لعوب، مسرفة في حب العبث، لا تكاد تتحدث إلى هذا الفتى حتى يأتي زوجها، فينصرف الفتى، ويخلو الزوجان. ثم لا يكادان يتحدثان حتى تحس أنهما غير مؤتلفين، وأن كلا منهما قد استرد حريته، فهو يلهو ويعبث كما يريد بسمع صاحبه وبصره، ولكن الزوج قد أقبل الآن ليعلن إلى امرأته نبأ ذا خطر؛ ذلك أن أعماله تضطره إلى أن يترك باريس وإلى أن يقضي في مراكش ثلاثة أشهر، وهو لا يريد أن تظل امرأته في باريس وحدها، ولا أن تذهب إلى ساحل البحر وحدها؛ لأنه يكره أن تظهر امرأته لاهية عابثة في غيبته فتعرض كرامته للخطر.
هو يبيح لها أن تعبث ولكن بمحضر منه لا في أثناء غيبته، وإذن فهو يعرض على امرأته أن تقضي هذه الأشهر الثلاثة في الريف عند أبيه الشيخ وأخته الفتاة، وهي تأبى ذلك، وتظهر مقاومة شديدة، ثم لا تلبث أن تطيع. وقد انصرف زوجها، وأقبل المحامي الذي رأيناه في أول القصة، فلا يكاد يحييها حتى نعلم أنه خليلها، وقد أخذا يتحدثان، فتقص عليه في سرعة ومزاح سفر زوجها واضطرارها إلى الحياة في الريف، وهي لا تريد أن تفارق خليلها، وخليلها لا يريد أن يفارقها، وإذن فلا بد من رسم خطة لهذا اللقاء . وما أسرع ما ترسم الباريسية هذه الخطة، فهي ذكية قاسية لا خلق لها ولا كرامة. تنبئ صاحبها بأنه سيرى بعد حين أبا زوجها وأخته: فأما الأب فشيخ من أهل الريف كلف بالزراعة ينفق حياته في درس الأسمدة وتحسينها، وإذن فيجب أن تظهر علما بالزراعة وميلا إلى تحسين الأسمدة، وأما الأخت ففتاة تخرجت في الجامعة، وهي تنفق بياض يومها في درس الفلسفة، وإذن فيجب أن تظهر علما بالفلسفة وميلا إليها. والشيخ يريد أن يزوج ابنته، والفتاة حديثة لا تعرف الحب، ولا تكره أن تتزوج، وإذن فيجب أن تظهر إعجابا بالفتاة ورغبة فيها، ويجب أن تظهر ذلك الآن وأن ترقص مع الفتاة وأن تسحرها، وأنت ماهر في سحر النساء، ولا ينبغي أن تتردد في ذلك إن كنت تحبني حقا وتحرص على ألا نضيع الصيف.
وهو مطيع، وقد أقبل الشيخ فتعارف الرجلان، وأظهر المحامي ميلا إلى الزراعة فأحبه الشيخ، ثم أقبلت الفتاة فقدم إليها المحامي على أنه فيلسوف، وما أسرع ما تظهر الفتاة ميلا إليه، وما أسرع ما يدعوها إلى الرقص فتجيب، وقد خرج فغاب حينا ثم عاد، فإذا الفتاة ذاهلة يأخذها الدوار، وإذا أبوها مضطر إلى أن يسعفها بما يرد إليها الحياة، وإذا نحن نفهم أن المحامي قد نفذ الخطة فأظهر في أثناء الرقص من بوادر الحب ما هز أعصاب الفتاة الريفية الجاهلة. وإذا نحن نشعر أن هذه الفتاة قد أخذت تحب المحامي وتزدري نفسها؛ لأنها ريفية، ولأن زيها الريفي بعيد كل البعد عن أزياء البدع الجديد، وقد أظهر المحامي عطفا عليها فأعجبها ذلك ورد إليها القوة. وقد علمنا أن هذا المحامي سيقضي الصيف في قرية قريبة جدا من القرية التي تقيم فيها الفتاة، فسيتزاور القوم، وإذا الفتاة سعيدة تنصرف مع أبيها وهي تبتسم للحياة، أما العاشقان فلا يكادان يخلوان حتى يسخرا من الفتاة والشيخ، وحتى نشعر بأنهما ينتهزان انصراف الراقصين ليقضيا ليلة حب ولذة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في الريف في قصر الشيخ وابنته الفتاة، وقد تقدمت الأشياء تقدما سريعا ، فتزاور القوم، ثم دعي المحامي للإقامة حينا في قصر الشيخ، فهو في القصر مضيف، ونحن نفهم أن صلات الحب الآثم ما زالت قوية بينه وبين صاحبته «مارتين»، ولكننا نفهم من جهة أخرى أن الفتاة الريفية واسمها «أستيل»، مازالت تحب هذا المحامي، وما زال حبها ينمو ويعظم. نفهم هذا كله، ونرى «مارتين» ضيقة الذرع بحياة الريف، تكرهها كرها شديدا، وتريد أن تعود إلى باريس، فإذا ذكر لها جمال الطبيعة وروعة الريف إذا جن الليل، اضطربت لذلك اضطرابا شديدا؛ لأنه يخيفها ويفزعها، وهي تفضل أضواء الكهرباء على ضوء القمر، وتؤثر ضجيج الحانات على هدوء القرى، وقد خرجت بعد العشاء مع صاحبها يمشيان في الحديقة حينا، وخلا الشيخ إلى ابنته، فإذا هي تتمنى عليه أن يمسك المحامي حتى لا يسافر غدا، وإذا الشيخ يقبل ذلك ليرضي ابنته، أما هو فلا يحفل بهذا المحامي؛ لأنه يعلم الآن أنه جاهل بالزراعة. وقد أقبل المحامي فطلب إليه الشيخ أن يبقى أياما وقبل. ثم ينصرف الشيخ وتأتي الفتاة، فيكون بينها وبين المحامي حديث نفهم منه أن الفتاة تحبه حبا قويا عنيفا، وأن المحامي نفسه قد أخذ يحب الفتاة ويكبرها، وهو الآن يدافع نفسه لا يريد أن يقع في الشرك الذي نصبه، والفتاة تتحدث إليه فتظهره على نفسها وأخلاقها وآمالها، فإذا هدوء ودعة، وإذا قوة وصبر، وإذا قدرة على احتمال الصدمات، وإذا كل هذا قد ملك على الفتى نفسه فيوشك أن يعلن حبه، ولكن الفتاة قد تركته وانصرفت مسرعة، ولا يكاد الشلب يخلو إلى نفسه حتى تقبل خليلته «مارتين» باسمة متهالكة تعرض اللذة وتطلبها والشاب عنها منصرف، وقد أحست ذلك فهي تلوم الفتى هذا اللوم المطمع المغري، وتسخر من الفتاة والشيخ، ولكن صاحبها قد فتح النافذة وهو ينظر إلى جمال الطبيعة ويفنى فيها، وصاحبته تصرفه عن ذلك، فما تزال به حتى يقفل النافذة ويضيء الكهرباء، وهي تعرض نفسها وهو يأبى، فتنصرف وهي مغضبة، وقد أعلنت إليه أنها تنتظره في غرفتها، فإن لم يذهب فلن تراه بعد، ولا يكاد الفتى يخلو إلى نفسه حتى يسمع نغما هادئا لذيذا هو نغم القيثارة، فيفتح النافذة فلا يرى شيئا، ولكنه يسمع النغم؛ ذلك لأن «أستيل» تلعب بقيثارتها بين الأشجار، والفتى يسأل: ما هذا؟! فتجيبه الفتاة، فيتحدثان، ثم تأتي الفتاة إلى غرفة الفتى وهنا لا تستطيع أن تخفي حبها فتعلنه، وهو لا يستطيع أن يمضي في عشقه فينبئها بأنه لا يليق بها، وبأن ماضيه لا يخلو من إثم، وقد نهضت الفتاة لتنصرف محزونة يائسة، ولكنه يدعوها ويلح في الدعاء كأنه يستغيث بها لتطهره من إثمه وقد لحقها وضمها إليه، وإذا كلاهما يعلن حبه إلى الآخر. •••
فإذا كان الفصل الثالث فسيفتضح كل شيء؛ سيفتضح أمر العاشقين الآثمين، وسيفتضح أمر هذا الحب الطاهر الجديد. تقبل خادم فتنبئ الشيخ بأنها رأت الضيف يقبل مولاتها، ويقبل رجل أجنبي فينبئ الشيخ بأنه لا يشك في أن صلة آثمة تجمع بين ضيفه وامرأة ابنه، وإذا الشيخ قد وقف هذا الموقف العنيف، يرى ابنته ضحية لهذه المؤامرة الآثمة التي دبرها العاشقان، وهو مشفق على ابنته أن يقتلها الحب، وهو مغضب لهذه الإهانة التي لحقته، وهو يريد أن يعاقب امرأة ابنه، ولكنه لا يكاد يتحدث إليها حتى تظهر له كتابا من زوجها يرد إليها حريتها ويعرض عليها الطلاق، وإذن فهي حرة تريد أن تعيش مع عاشقها، أما الشيخ فيطردها وسيطرد ضيفه، ولكن ابنته قد أقبلت وعلمت كل شيء، وهي والهة ذاهلة، ولكنها ابنة الطبيعة الهادئة المبتسمة، فهي ليست يائسة، وإنما هي معتزمة أن تجاهد لتحتفظ بحبها وخطيبها، وهي ترى أن هذا الحب قد غير الفتى وطهر نفسه من الآثام، وإذن فالجهاد عنيف بين المرأتين. وقد انصرفت الفتاة مع أبيها، وأقبل المحامي، فأعلنت إليه صاحبته كل شيء، وانصرفت وقد ضربت له موعدا يلتقيان فيه ليسافرا معا إلى باريس، أما المحامي فيريد أن يعتذر إلى الشيخ وأن يظهره على جلية الأمر، ويريد أن يرى الفتاة، ولكن الشيخ يطرده طردا عنيفا، ويحول بينه وبين ابنته. ونحن نعلم أن الفتاة كانت تريد أن تراه، وأنها ما زالت شديدة الحرص على أن تراه. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في المحطة في غرفة الانتظار في أول النهار، وقد انهمر المطر طول الليل وما زال ينهمر، ولم تكد تفتح الغرفة حتى أسرعت إليها فتاة هي «أستيل»، كانت قد هربت من قريتها وقضت الليل كله أمام المحطة تنتظر القطار لترى المحامي حين يسافر، وهي الآن تأوي إلى هذه الغرفة تنتظره فيها، ولست ألخص لك ما يجري بينها وبين العامل وبائعة الصحف من حديث مؤلم مضحك، ولكن الجرس قد دق وخرجت الفتاة تلتمس صاحبها، ولم تكد تخرج حتى أقبل العاشقان، فأما «مارتين» فراضية مبتهجة، وأما صاحبها فمذعن للقضاء وقد خرج ليأخذ القطار، وأقبل الشيخ مضطربا يبحث عن ابنته، وعادت الفتاة إلى غرفة الانتظار تبحث عن صاحبها فيلقاها أبوها، يلومها في رفق، ويهدئ من اضطرابها، ولكن اضطرابها شديد، فقد يوشك القطار أن يتحرك وهي لم تر حبيبها. انظر إليها؛ لقد أخذها شيء من الهلع، رأت صاحبها ورأته يصرف وجهه عنها! انظر إليها؛ قد استحال هلعها إلى جنون، فأفلتت من يد الشيخ إلى القطار وقد هم بالحركة! ثم انظر ماذا ترى؟ ترى المحامي مقبلا مضطربا يحمل الفتاة مغمى عليها ويمدها على أحد المقاعد؛ كانت تريد أن تقتل نفسها! والفتى الآن جالس أمامها يتلطف لها ويتحدث إليها في حنان عذب، والحياة تعود إليها شيئا فشيئا، والأمل يعود إليها كذلك، والشيخ يرقب من كثب هذا الحب الناشئ القوي الذي استطاع أن ينتصر على الأحداث، وأن يطهر النفس الآثمة من إثمها، وأن يكفل الفوز لهذه الطهارة الهادئة المطمئنة، على ذلك الفساد المضطرب العنيف الذي يمضي القطار به الآن إلى باريس.
نوفمبر سنة 1924
في ملاهي باريس
نعم فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلى الذهاب إلى باريس، ولم أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا، إنما يتخذ اللهو غرضا من الأغراض السياسية في برنامج رحلته؟! وهل كان السفر نفسه إلا ضربا من اللهو وفنا من فنون العبث يعمد إليه المتعبون ليستريحوا ويرغب فيه المستريحون؟! وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني وبغضت إلي الحياة. وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس علي وأن من الحق لي على نفسي أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغض إلي الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظ عظيم، وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هين لين لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه، وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه، وأنه سيزهد في، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو، وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل، وكذلك حياتنا: نتعب لنستريح، ونستريح لنتعب، حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.
Bilinmeyen sayfa