فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في القصر نفسه وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وفي القصر حفلة راقصة أراد صاحب القصر أن تكون آية بين حفلات الرقص، ودعا إليها جمهور أصحاب الثروة والمكانة «ليذر الرماد في العيون» كما يقولون، وليخيل إلى الناس أن هذه الأنباء التي تذاع لا خطر لها، ولكن الناس لا يصدقون من هذا شيئا، وإنما أقبلوا يلهون ويرون ويشمتون، وهم يتحدثون بهذا ويتوسمون في الرجل وامرأته أمارات الاضطراب، وقد خلت في لحظة من اللحظات «ماري تريز» إلى السكرتير «دنيال» فهي مضطربة جزعة، وقد سمعت باعة الصحف يصيحون، فطلبت إلى السكرتير أن يسرع فيبتاع الصحف. وهي كذلك إذ يقبل «موران»، أقبل خلسة دون أن يشعر به أحد وأقبل جزعا مضطربا؛ لأنه سمع أن أحد النواب سيلقي سؤالا في مجلس النواب هذه الليلة، وسيكون موضوع السؤال هذه الفضيحة المالية، وسيشير هذا النائب في سؤاله إلى الصلة بين «موران» وبين البارون، والنواب يتحدثون فيما بينهم بأن لموران حظا في هذه الفضيحة ويذكرون صلته «بماري تريز»، ويذكرون أنه أوحى إلى النيابة بتأجيل التحقيق، وهم يريدون أن يفضحوا هذا كله الليلة؛ ولذلك أقبل صاحبنا مسرعا غير حذر لينبئ صديقته وليعلن إليها أن زوجها قد يقبض عليه من حين إلى حين.
ولكنه أقبل لشيء آخر أيضا؛ أقبل لأنه علم أن لدى هذا الرجل أوراقا بخطه، وأنه يريد أن يرى البارون، ولا يزال يلح حتى أتى البارون، فإذا التقى الرجلان كان بينهما حوار ثم خصام عنيف؛ لأن البارون أنبأه بما في هذه الأوراق التي كتبها بخطه والتي ازدرى فيها حزبه وسخر منه، وهزأ فيها بالنظام الجمهوري كله، وكتب أنه يميل إلى قلب هذا النظام، وأن أقدر الناس على قلب الجمهورية هم أنصارها الحقيقيون، فإذا نشرت هذه الأوراق فقدر وقعها في الحزب السياسي وفي مجلس النواب، وفي الكثرة الجمهورية التي يعتمد عليها صاحبنا ليكون رئيس الوزارة؛ لهذا يشتد الخصام بين الرجلين، ويلح الرجل السياسي ليأخذ أوراقه، فيلح الرجل المحامي ليؤجل التحقيق، ثم يشتد بينهما العنف حتى يهجم الرجل السياسي على خصمه فيأخذ بعنقه حتى ليكاد يخنقه، ثم يتركه وقد أخذ الجهد من رجل المال الذي هو ضعيف مشرف على الخطر كما قدمنا، وإذا هو يضطرب وإذا هو يمشي إلى صاحبه متثاقلا ثم ينكب على وجهه، فيسرع إليه «موران» وتسرع إليه زوجه، ولكنه قد فقد الحركة. فإذا أجلساه أخذا يتجسسان نبضه ويتسمعان قلبه، ولكنه قد مات! ولست أصف لك اضطرابهما وجزعهما، فأنت تقدره، وقد استطاعت المرأة أن تقنع صاحبها بالانصراف إلى مجلس النواب، واتفقا على أن تنصرف هي إلى الحفلة فتنفق الليلة في لهو ورقص.
وقد أغلقت على الميت باب مكتبه، حتى إذا كان الصبح أظهرت أنه مات وهو يعمل، وقد أراد النائب أن يأخذ الأوراق التي جاهد من أجلها، فلما ظفر بها لم يجدها إلا صورة مطابقة للأصل. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت «دنيال» سكرتير البارون، وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وعني الجمهور الباريسي بهذه الحادثة، وأخذ القضاء في التحقيق، والصحفيون يختلفون إلى هذا السكرتير يسألونه ويتحدثون إليه، وهو محتفظ لا يجيب إلا بأن البارون قد مات موتا طبيعيا، ولكن «ماري تريز» قد أقبلت وهي تذكر ما هي فيه من حزن وحرج، وتذكر هذه الجماعات التي تحيط بقصرها، وهذا الجند المرابط حول القصر، وهذه الجماهير التي تنظر إليها وتزدريها إذا خرجت، فهي متهمة بقتل زوجها، وهي تذكر هذا كله فلا تسمع من السكرتير إلا ألفاظ عطف ومودة وحنان، فيطمعها ذلك فتطلب إلى السكرتير أن يدفع إليها الأوراق التي ائتمنه عليها زوجها. يأبى الشاب لأنه يريد أن يدفع هذه الأوراق إلى قاضي التحقيق، ولا يكاد ينبئها بذلك حتى تجزع وتلح عليه وتضرع إليه في أن يدفع إليها هذه الأوراق، ثم تعترف بحبها «لموران» وتبالغ في التضرع، فيأبى الشاب، ولكنها تعلم موضع ضعفه، فتذكر حبه إياها وتسأله إن كان يحبها حقا أن يدفع إليها الأوراق. وقد فقد الشاب كل مقاومة فدفع إليها الأوراق، وأنبأها بأن امرأة أخرى طلبت إليه هذه الأوراق وعرضت نفسها ثمنا لذلك فأبى، فإذا سألته عن هذه المرأة ذكر «مدام دي فونتانج» التي ذكرناها في الفصل الأول.
يقع هذا النبأ من «ماري تريز» موقعا سيئا، وتحاول أن تبحث عن السر في علم هذه المرأة بهذه الأوراق وسعيها في أن تظفر بها، ولكنها لا تتكلف البحث، فقد أقبلت المرأة نفسها مرة أخرى تستأنف طلب الأوراق إلى الشاب، فتخلو إلى «ماري تريز» ونفهم من حديثهما أن هذه الأوراق كانت ملكا لهذه المرأة؛ لأن «موران» كان يحبها وهي التي مكنته بمالها من الفوز في الانتخاب، وأنه كتب إليها هذه الكتب أثناء حبهما ثم كانت بينهما قطيعة، فأرادت أن تنتقم فدفعت هذه الرسائل إلى البارون، ثم استؤنف الحب بينهما الآن فهي تريد أن تسترد هذه الرسائل. ولا تكاد «ماري تريز» تسمع هذا الحديث حتى تكذبه، فهي تعلم أن الرجل يحبها هي، ولكن أنى لها أن تمضي في تكذيبها والبرهان قائم على أن المرأة لم تكذب! أليس «موران» ينتظرها في العربة أمام البيت! تبعثان إذن فتطلبانه، وإذا هو قد أقبل فلم يبق شك عند ماري تريز في أنه يخونها، وقد تركتها المرأة فكانت بينهما خلوة، وجرى بينهما حديث طويل فيه تمثيل صادق لضعف هذه المرأة التي ترى نفسها محتقرة مزدراة، وتشعر بأن صاحبها يخونها، وتريد أن تكون كريمة أبية، وأن تقطع الصلة بينها وبين هذا الخائن، ولكنها لا تستطيع؛ لأن سلطان الحب عليها أقوى من سلطان الكرامة، وفيها تمثيل صادق أيضا لهذا الرجل الذي لا يحب ولا يعشق، وإنما يريد أن يلهو ويستمتع باللذة على ألا يحول ذلك بينه وبين مطامعه السياسية؛ فهو لا يحب تلك المرأة وإنما يداريها ويتقيها، وهو لا يحب هذه المرأة وإنما يخادعها لأنه يشتهيها، وهو منتصر عليهما معا لأنهما ضعيفتان وهو قوي. وقد استطاع أن يخرج بعد أن تم له رضا صاحبته وضربت له موعدا للقاء، وقد سمع الشاب كل هذا الحديث حيث كان مستخفيا، فأقبل إلى «ماري تريز» وأعلن إليها - تدفعه الغيرة - أنه منصرف إلى القاضي فمنبئه بكل ما سمع. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت ستة أشهر على هذا كله، وقد قدمت «ماري تريز» إلى المحاكمة، ولكنها برئت، ثم كانت كل هذه الحوادث قد أثرت فيها تأثيرا قويا، فاضطربت أعصابها وأصابها شيء يشبه الجنون، فهي الآن في مستشفى، وقد أقبل الطبيب فعادها لآخر مرة وأعلن أنها قد برئت وأنها تستطيع أن تترك المستشفى. وهو يعلن ذلك إلى الممرضة وقد أقبل «دنيال»، فلم يكد يسمع ذلك حتى ابتهج له، وهو يريد أن يرى «ماري تريز» وأن يخرجها من المستشفى، ولكن غلاما يقبل ومعه بطاقة، فإذا نظر فيها «دنيال» رأى اسم «موران»، فيأذن له ويتحدثان قليلا، فإذا هما رجلان مختلفان أشد اختلاف؛ أحدهما، وهو النائب، شديد الطمع يضحي في سبيل أطماعه بكل شيء، والآخر، وهو دنيال، متواضع قانع لا يطمع في شيء إلا أن يعيش شريفا. وقد صدم النائب صدمة عنيفة بهذه الحوادث كلها، فاستقال من الوزارة وعاش عيشة المستخفي، وهو الذي كان ينفق على هذه المريضة في هذا المستشفى، وقد علم أنها برئت فأقبل يراها، أما «دانيال» فلم ينفق عليها، ولكنه أخلص لها، فعني بتنظيم التركة وما نشأ عن موت زوجها وإفلاسه، وكان يأتي كل يوم ليراها ويتعرف أخبارها، وقد اتفق الرجلان على أن يراها «دنيال» أولا ثم يراها بعد ذلك «موران».
وانظر إليها وقد أقبلت ضعيفة ناحلة شاحبة، ولكنها فرحة مبتهجة؛ لأن الطبيب قد رد إليها حريتها، فهي تستطيع أن تخرج وأن تعيش عيشة هادئة خاملة بعيدة عن الناس. أما «دنيال» فيذكر أنه قد أقبل اليوم لوداعها؛ لأن عمله قد انتهى، فتغضب لذلك وتعاتبه فيه، فإذا ذكر لها «موران» أنكرت هذا الاسم، وكيف تعرفه وقد نسيها منذ ستة أشهر، فإذا أنبأها بأنه لم ينسها وأنه أقبل يراها، نسيت هي كل شيء، ونسيت «دنيال» ومودته وألمه، وتعجلت لقاء «موران»، فينصرف الشاب محزونا كئيبا، ويرسل إليها موران، ولا أصف لك ابتهاجها بلقائه، وسعادتها بالتحدث إليه، ولا أصف لك هذه الآمال الواسعة اللامعة التي تملأ نفسها؛ فستعيش مع «موران» عيشة سعيدة، وستكون زوجة، وهي مغتبطة بابتعاده عن الحياة السياسية، فسيكون لها وحدها، وستكون له وحده، وكان يلاطفها ويلاعبها ويظهر الحب ، ولكنه لم يكد يسمع هذه الآمال حتى أنكرها، وأخذ يرد إلى صاحبته شيئا من العقل، فهو لم يترك السياسة وإنما تجنبها تجنبا، وهو يريد أن ينسى الناس ما كان من أمره، ثم يستأنف عمله حتى يصل إلى رياسة الوزراء، وإذن فلن يستطيع أن يتزوجها، بل لن يستطيع أن يظهر معها في باريس، وإنما استأجر لها بيتا في الضواحي يريد أن يئويها إليه على أن يزورها من حين إلى حين، وهو كلما نطق بشيء من هذا هدم أملا من آمالها ورد إليها الكآبة قليلا قليلا، حتى تعود محزونة كئيبة كما كانت.
وقد ذكرت تلك المرأة فينبئها بأنها هجرته؛ لأنها لم تكن تحبه هو، وإنما كانت تحب مركزه السياسي، فلما ترك هذا المركز انصرفت عنه، وقد ذكر الكتب حين ذكرت هذه المرأة، فهو يسأل عنها وينبئ أنه أقبل وهو يفكر في استرجاعها، فتشعر «ماري تريز» بأنه لم يئوها إلى المستشفى ولم ينفق عليها، ولم يقبل الآن ليراها، ولم يظهر لها الحب والمودة إلا لأنه يريد أن يظفر بهذه الكتب التي تعرض مستقبله السياسي للخطر. تقوم متثاقلة إلى مكتب فتخرج منه الغلاف وتفضه وتستخرج ما فيه من الكتب فتمزقها، وتلقي بها في النار، ثم تطلب إلى صاحبها في رفق ودعة أن ينصرف، فهي لا تريد أن تتبعه ولا تستطيع أن تتبعه؛ وإن خارج هذه الحجرة لشابا هادئا مخلصا متواضعا قانعا، يحبها ولا يطلب على حبه أجرا، وما أشد حاجتها إلى أن تعيش مع رجل يحبها ولا يرجو منها شيئا. يلح عليها صاحبها إلحاح المتكلف في أن تتبعه، فإذا أبت عليه انصرف مستخزيا، وأقبل «دنيال» فتلقته في لطف ورفق، وطلبت إليه في لهجة الواثقة أن يعينها على أن تعيش.
يونيو سنة 1924
المذهبان
Bilinmeyen sayfa