فرمقها الطبيب بنظرة سريعة ثم قال لها برقة: تجملي بالصبر يا سيدتي!
وألقت علي المرأة نظرة مشتعلة بالغضب، ثم عادت إلى الطبيب تقول برجاء: إن المتوفاة كريمة رجل من كبار موظفي الدولة، جبر بك السيد، كبير مفتشي الوجه البحري، لعلك تعرفه يا سيدي، فارحم ضعف امرأة مثلي وانتظر عودته، لقد أبرقت له بالفاجعة.
فقال الطبيب برقة: ينبغي فحص الجثة بلا إبطاء حتى يمكن التصريح بدفنها في الوقت المناسب، لا تفزعي يا سيدتي فسينتهي كل شيء في دقائق.
وارتمت المرأة على مقعد مغلوبة على أمرها وراحت تنشج باكية، على حين سرت أنا بين يدي الطبيب إلى حجرة رباب! ولما بلغت الباب جاءني نحيب صباح من الداخل، فدفعت الباب وناديتها دون أن تواتيني الشجاعة على النظر صوب الفراش، ولبت الجارية ندائي فنحيتها جانبا موسعا للطبيب الذي دخل الحجرة بلا تردد، ثم رددت الباب وراءه، وسألتني الجارية عن الرجل الذي جئت به، فنهرتها في جزع ودفعتها خارج الصالة. ورحت أذرع المكان جيئة وذهابا في اضطراب شمل أعصابي جميعا، ورانت على صدري كآبة قاتلة، فتصورت جثة زوجي الحبيبة بين يدي هذا الطبيب الغريب، ينزع عنها الأستار، ويعبث بها في برود لا يعرف الرحمة.
لقد ند عني أنين موجع، وشعرت بألم حاد يمزق قلبي إربا، ومرت بي لحظات ذهول فخيل إلي أني فريسة كابوس شيطاني، وتلفت فيما حولي كأنما أتلمس منفذا للنجاة. ولكن هل نسيت الوجه الشاحب المعصوب يجثم على جبينه شبح الموت الرهيب؟ رباه .. إني أثوب إلى نفسي رويدا رويدا، تاركا دنيا الجنون الذي ركبني إلى عالم الفجيعة الواقع، تمثلت لي الحقيقة المروعة في شيء من الهدوء المحزن، فكأنني أدرك لأول مرة أن رباب قد ماتت حقا .. لم تعد من الأحياء. وخلت منها حياتي إلى الأبد .. لن تعود إلى بيتي كما قالت أمها، ولن أصحبها صباحا إلى الترام، ولن أستقبلها مساء عقب عودتها من المدرسة وهي تغالب التعب بابتسامة حلوة .. انتهى الشباب الريان، وانطفأ الحب الباهر، وصوحت آمال وآمال، أين مني ذاك التاريخ السعيد الذي بدأ على طوار المحطة، فنسج ذكرياته من مادة الحب الأثيرية، وطاف بي في وديان السعادة، ثم خلقني خلقا جديدا، أين مني هذا التاريخ الساحر؟ هل انتهى حقا في دقيقة من الزمان بخطأ طبيب أحمق؟ .. وما ذنبي أنا؟ .. الموت كارثة فظيعة بيد أنه غير مقنع! .. ألم أكن أحدثها منذ ساعتين؟ ألم تكن كالوردة اليانعة منذ يوم أو يومين؟ فكيف أصدق أنها صارت وأول ميت منذ ملايين السنين سواء. ثم إنها حية في نفسي، إني أراها رؤية العين، وأسمعها! وألمسها، وأشمها، إنها ملء النفس والقلب، فهل من سبيل إلى إصلاح خطأ بسيط؟!
وحدثت حركة - لا أدري إن كانت جاءت من الصالة الخارجية أو من الحجرة المحزونة - ولكنها أعادتني إلى وعيي، فعلق خاطري بالطبيب وما يفعله. عاودني اضطرابي وقلقي ومخاوفي، ماذا أفعل لو لم يعثر الطبيب بشيء ذي بال؟ كيف ألقى القوم فيما بعد؟ لشد ما تمنيت أن ينزل الله عقابه بالقاتل؟ بيد أنني لبثت على حال من الاضطراب لم تترك لي سبيلا إلى نفسي أو عقلي. وطال الزمن واستطال حتى خيل إلي أني شخت وهرمت وأني أموت. ثم فتح باب الحجرة ولاح وراءه الطبيب بوجه جامد لا يبين عن شيء، وتقدم خطوات فصار في منتصف الصالة، فوقفت حياله فاغر الفم شاخص البصر، ومسح بأنامله على جبينه ثم قال بنبرات واضحة: لقد انتهيت من كتابة تقريري، وسأحوله إلى النيابة في الحال، وأظنه يستوجب تحقيقا عاجلا!
63
كان ينبغي أن أشعر بارتياح وتشف، ولكن خارت قواي فجأة فارتميت على أقرب مقعد ومددت ساقي واستسلمت لما يشبه النوم. ولم يحدث في فترة الانتظار التي أعقبت خروج الطبيب إلا اندفاع نازلي هانم وصباح إلى حجرة المتوفاة، وتصاعد النواح والبكاء، ولاحت مني نظرة إلى الصالة الصغرى فرأيت الدكتور أمين رضا يذرعها في بطء وتثاقل، وقد جلس الشرطي على كرسي عند باب حجرة الاستقبال.
وعند منتصف الساعة الواحدة دق الجرس، فنهض الشرطي وفتح الباب، ودخل وكيل النائب يتبعه كاتب وشرطي، وخفق قلبي في ارتياع لرؤية رجال الحكومة، ونهضت قائما واتجهت صوب الرجل، ثم رفعت يدي بالتحية. وسأل وكيل النائب عن حجرة المتوفاة، ثم مضى إليها توا يتبعه الكاتب، ولم أجد الشجاعة للحاق بهما، فانتظرت خارجا. ولم يطل غيابهما فعادا مرة أخرى، ونظر الرجل فيما حوله ثم سار إلى حجرة الاستقبال وأنا في أثره، وجلس على كنبة، واقتعد الكاتب كرسيا قريبا باسطا أوراقه على نضد، ووجه إلي أسئلة عن اسمي وعمري ووظيفتي، وطلب إلي أن أروي معلوماتي عن الحادث . فصدعت بأمره، والكاتب يسجل كل كلمة أقولها. ثم استدعى الدكتور أمين رضا، فجاء الدكتور جامد الوجه شاحب اللون، وسمح له بالجلوس أمامه، ثم وجه إلي الخطاب قائلا: بوسعك أن تبقى معنا إذا شئت!
وخيل إلي أني وجدت في لهجته ما يشبه الأمر، وكانت رغبتي في حضور التحقيق لا توصف، فجلست على مقعد ملاصق للكنبة التي جلس عليها المحقق وقد ملكتني الرهبة والتأثر. وبدأ الرجل يلقي عليه أسئلة عامة عن الاسم والعمر والمهنة، ثم قال له: أخبرني كيف اتصلت بهذا الحادث من بادئ الأمر؟
Bilinmeyen sayfa