أهو أنت ...؟
موعد
الشكوك
علاج الشك
الرقابة
وكيف الرقابة؟
مضحكات الرقابة
القطيعة
من هي؟
وجوه
Bilinmeyen sayfa
كيف عرفها
أيام
لماذا هام بها؟
حبان
لماذا أشك فيها؟
جلاء الحقيقة
أهو أنت ...؟
موعد
الشكوك
علاج الشك
Bilinmeyen sayfa
الرقابة
وكيف الرقابة؟
مضحكات الرقابة
القطيعة
من هي؟
وجوه
كيف عرفها
أيام
لماذا هام بها؟
حبان
Bilinmeyen sayfa
لماذا أشك فيها؟
جلاء الحقيقة
سارة
سارة
تأليف
عباس محمود العقاد
أهو أنت ...؟
مضت خمسة أشهر قبل أن يجرؤ على عبور ذلك الشارع مشيا على قدميه.
وليس الشارع مقفرا أو مخيفا؛ لأنه محاط بالعمار مزدحم في جوانبه بالسابلة والسكان.
وليس هو بالبعيد عن طريقه؛ لأنه يوشك أن يحتاج إليه في ذهابه وإيابه إلى حيث يقيم في ضاحية المدينة.
Bilinmeyen sayfa
ولكنه كان شارعا يلتقيان فيه عند ذهابهما إلى دار الصور المتحركة، ثم يلتقيان فيه عند خروجهما منها.
وكانا يجلسان إذا دخلا تلك الدار في مكانين متجاورين، ولكنهما لا يدخلان إليها ولا يخرجان منها متجاورين، بل يرسل هو إلى نافذة التذاكر من يبتاع التذكرتين لكرسيين في مكان قلما يتغير، ثم يلقاها في ذلك الشارع، فتأخذ إحدى التذكرتين وتسبقه إلى الدار، ويظل هو بضع دقائق في بعض الأندية العامة، ثم يلحق بها إلى المكان المعروف.
وكان من عادتها أن تقارن بينها وبين بطلة الرواية إذا أحست منه إعجابا بها أو ثناء عليها، وتسأله في ذلك أسئلة ذكية خبيثة لا تسهل المغالطة في جوابها، إلا على سبيل المزاح والمداعبة.
سألته مرة وقد لمحت منه اهتماما بالروايات التي تظهر فيها إحدى الممثلات: إذا سمحت لك هذه الممثلة بقبلة ... أتقبلها منها؟
فعلم أن الجواب الجد عن هذا السؤال غير سليم العواقب، وعمد إلى العبث والمرواغة.
قال: وهل من الأدب أن أرفض قبلة تعرضها سيدة؟
قالت: دعنا من حديث الأدب فما عن هذا أسأل ... أنا أسألك عن دخيلة نفسك، أسألك عن رغبتك ... فهل ترحب بتلك القبلة إذا وجدتها؟
فعاد ثانية إلى العبث والمرواغة، وطفق يقول: أما إن كنت أمثل معها على الستار الأبيض فأنت تعلمين أن القبلة لا غنى عنها ... تلك واجبات الفن يا صديقتي، ولا تتم الفنون إلا ببعض التضحية!
قالت: أوتضحية هي؟
قال: نعم، كل قبلة غير قبلة المرأة التي يحبها الرجل هي تضحية، بل هي - إن شئت - سخرة!
Bilinmeyen sayfa
فرضيت وهي تعلم أنه يغالط ويراوغ في الجواب، وأحبت أن تشعر أنه لا يقبل تلك الممثلة الجميلة إذا أتيح له تقبيلها ... وهي تعلم أنه لا يقول صدقا ولا يعمد إلى الصراحة! ... وقالت وهي تضحك: لقد نجوت! إن قبلة تتمناها لهي خيانة في الضمير، ولا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ.
وإذا خرجا للرياضة بعد الفراغ من الصور المتحركة فكثيرا ما كانت تمد يدها إلى مفكرته في جيبه فتكتب فيها كلمة تناسب رواية الليلة، أو تناسب الرياضة التي خرجا لها إن كانت مناسبة ملحوظة.
فكتبت مرة وقد شهدا رواية المرأة المترجلة: «هل أعجبتك رواية المرأة المترجلة؟ أما أنا فسأكون لك امرأتك فقط.»
وكتبت مرة أخرى وقد شهدا رواية المرأة المحتالة: «أرجو ألا ترى المرأة المحتالة إلا في السينما، أما في الحياة فحسبك المخلصة ... فلانة.»
وربما مضت سنة أو سنتان على مشاهدة الرواية وهي تذكر كل كلمة قالها في التعليق عليها أو في انتقادها، فاتفق يوما أنهما حضرا الصور المتحركة في إحدى الضواحي الصيفية، حيث تعرض المشاهد القديمة بعد سنة أو سنتين من عرضها في المسارح الكبيرة، وشهدا هناك رواية هزلية عن صياد فاشل يستعيض من فشله في الصيد بالمبالغة في الوصف والحكاية، فكان يرفع البندقية ويطلق الطلقة الواحدة في اتجاه واحد فيقع الطير على يمينه وشماله من جميع الجوانب، ويظل يتساقط من هنا وهناك إلى ما بعد إطلاق البندقية بلحظة غير قصيرة.
فقال لها: أليس الأحسن والأبرع أن يسقط هذا الطير مشويا على الأطباق؟
فضحكت طويلا وقالت: أتذكر؟ إنك قلت هذه الكلمة بعينها عندما شهدنا هذه الرواية في البلد للمرة الأولى!
ولا يندر أن يسمع منها أثناء التمثيل كلمات سريعة وتعليقات مبتدرة تكشف بها - على غير قصد منها - عن أعمق أعماق المرأة، وتهزأ فيها بالرياء الأنثوي الذي يبدو في خجل المرأة وامتناعها.
من ذلك أنهما شهدا رواية من روايات الثورات يبدو فيها طريد جريح مهدد الحياة بجراحه، ومهدد الحياة بمطاردة أعدائه، وقد لاذ بأحد البيوت فأكرمه أهل البيت وكتموا أمره، وتعهدته بالعلاج فتاة فيما دون العشرين من العمر سليمة القلب وسيمة الطلعة ممشوقة القوام، فمالت إليه شفقة ثم مالت إليه حبا، ثم تمالك نفسه بعد طول العلاج، حتى انفردا في بعض الجلسات فبلغ من سرورها به وسروره بها أن نظر إليها ونظرت إليه، وعيونهما تومض بالمحبة، ثم اعتنقا في قبلة طويلة جارفة ...
وكان بين المتفرجين على مقربة منهما سيدة نصف في نحو الأربعين، وفتيات ناهدات في مثل سن الفتاة، فصاحت السيدة: انظرن إلى الخائن! ... إنه خدعها!
Bilinmeyen sayfa
فمالت صاحبتنا وهمست ساخرة ... أتقول خدعها؟ إنه كافأها أحسن مكافأة يستطيعها! •••
وهكذا كانت دار الصور المتحركة عندهما شيئا أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء، كانت محور حياتهما الغرامية، وهل كانت لهما من حياة في ذلك الحين غير الحياة الغرامية؟ وكانت ملتقى الذكريات ووسيلة التقارب والتفاهم فيما يشعران به وما يلاحظانه من أحوال المحبين والمحبات، وكانت ذخيرة من المناظر التي يقترن كل منظر منها بكلمة، أو بخاطرة، أو بمناقشة، أو بأمنية يملكان تحقيقها، أو بأمنية يكتفيان منها بالحلم والخيال.
فلما وقعت الجفوة بينهما وانقطع طريقهما إلى تلك الدار كانت كل خطوة في تلك الطريق كأنما تثقل النفس بآكام فوق آكام من الذكريات والآلام، وكانت كل زاوية من الزوايا كأنما تخفي فيها رصدا من الشياطين الثائرة والعقبان الكاسرة، وكان اجتناب تلك الطريق أسلم الأمور وأهون المحذورات.
ثم مضت الأشهر وخيل إلى صاحبنا أنه لم يعد يخشى أو يذكر، فاجترأ على العبور بالطريق مرة بعد مرة، وعبر بها ثلاث مرات أو أربعا على الأكثر، وكانت الرابعة هي التي فوجئ بها هذه المفاجأة التي لم تكن في الحسبان.
إنه لم ير صاحبته بعد اللقاء الأخير في أثناء تلك الأشهر الموحشة؛ لأنه اجتنب الأماكن التي عساه أن يراها فيها، ولزم بيته في معظم الأيام وقد علم أنه ما من مرتاد أو متنزه يقصد إليه إلا وهو خليق أن يعاوده ببعض الذكريات، إن لم يعاوده ببعض ما يسوءه أن يراه.
فلما عبر الشارع المهجور تلك الليلة مطرقا كعادته حين يسير على غير قصد إلى مكان معلوم، سمع من جانبه صوتا يناديه، صوتا يعرفه بين ألف صوت، بل بين جميع ما خلق الله من الأصوات والأصداء، صوتها هي بعينها يهتف به: أهو أنت؟
أهو أنت؟ سمع هاتين الكلمتين فأحس لهما صدى كانفغار الهاوية تحت السفينة في البحر اللجي من أثر عاصفة أو زلزال، وقبل أن يجيب على السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب، وفي أقل من رجع الصدى، بل في أقل من اللمحة الخاطفة التي انقضت بين ارتفاع رأسه إليها والتقاء نظره بنظرها، هجم على نفسه طوفان من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسم في اللغات الإنسانية؛ لأن اللغات الإنسانية لا تستطيع أن تضع اسما لألوف من النقائض والمفاجآت التي يجتمع فيها الرعب والسرور والشوق والنفور والهيام والاشمئزاز، وتريد فيها النفس أن تقف، وتريد فيها القدم أن تسير، بل تريد فيها النفس أن تقف؛ لأنها لا تقوى على أن تريد.
ولو أنه رآها عند أول الطريق قبل أن يفاجئه من صوتها ذلك الهاتف الطارئ، لعله كان يعرف ما هو مقبل عليه ويستعيد في نفسه شيئا من ذلك العزم الذي أعانه على القطيعة، وأمده بدواعي الإصرار عليها، كلما جنح إلى اللين والإغضاء والمغالطة.
ولكنه أخذ على حين غرة.
فوقف هنيهة لا يدري ما يقول.
Bilinmeyen sayfa
ووقفت هي أيضا لا تدري ما تقول، وكأنما ندمت على الكلمة لأنها لم تسمع لها جوابا سريعا، ولم تزل تخشى ما يجيء به ذلك الجواب، فأومأت إلى مركبة قريبة واقفة بين مركبات كثيرة، وإذا بهما يسيران معا إلى تلك المركبة، فتجلس فيها ويجلس هو إلى جانبها وهي تقول: هذا خير من أن يرانا الناس مشدوهين كالصنمين.
والواقع أن الناس التفتوا فعلا وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويتهامسون.
فقال لها: صدقت ... هو خير!
ثم صاح الحوذي: إلى أين يا بك؟
فلما لم يسمع ردا من «البك» عاد يسأل: إلى أين يا سيدتي؟
فهمست صاحبتنا: ألا تقول للحوذي إلى أين؟
فأجابها وهو يوجه خطابه للحوذي: إلى حيث تشاء!
وكأنما ندمت مرة أخرى على الركوب، وعلى اللقاء، وعلى السؤال؛ لأنها كانت تنتظر من صاحبها لهفة على مكان من أماكن الرياضة المعهودة التي ألفا أن يترددا عليها ... فجلست صامتة.
وجلس كذلك صامتا.
وطال الصمت ... لا لأنه كان يريده، أو لأنه كان يأبى الكلام، ولكن لأنه كان يفتش عن كل كلام في الدنيا فإذا هو يهرب ... أو يستعصي ولا ينقاد.
Bilinmeyen sayfa
كان الكلام الذي يريده هو التواعد إلى غد حيث يلتقيان في المنزل، وحيث يقولان ويعيدان ويتأهبان للعذر ويتأهبان للملام.
ولكن هذا هو بعينه الكلام الذي كان لا يريده.
يمنعه أن يفوه به مانع الكبرياء، ومانع الخوف من تجديد ما فات، ومانع الشك فيمن تصاحب وفيما تضمر وفيما عسى أن تلقى به كلامه في دخيلة نفسها من الزراية والاستخفاف.
وطال الصمت، وقالت وكأنما تناجي نفسها: يحسن بنا أن نقف هنا للنزول.
واعترف هو في طوية ضميره أنه لا يريد أن تنزل قبل أن يقول لها شيئا أو يسمع منها شيئا.
واعترفت هي في طوية نفسها أنها لا تريد أن تنجز تهديدها ولا تريد أن تبرزه في صورة التهديد؛ لأنها تعلم أن جواب صاحبها الوحيد على التهديد هو التحدي ... أو هو تركها تنزل وحدها، وإن كان يود استبقاءها في الحقيقة.
ولعلها أخطأت في حسابها هذه المرة؛ فإن صاحبها بعد أن جلس إلى جانبها، وبعد أن أحس حرارة جسمها، وبعد أن لمس بضاضة معاطفها، وبعد أن تلقى أنفاسها على صفحة خده وهي تميل إليه تنتظر كلامه، وبعد أن غاص في تلك الغيبوبة التي استنام إليها كما يستنيم الساهر البعيد العهد بالنوم إلى أول ضجعة على الفراش، وبعد أن أصبح هو وعزيمته شيئين منعزلين بينهما من البعد ما لا ينجح فيه دعاء ولا استحضار ... بعد هذا كله لعلها كانت لا تخاطر كثيرا إذا هددته بالنزول من المركبة واقتضاب ذلك الصمت العقيم.
ولكنها لم تهدد ولم تنزل ... بل صاحت غاضبة: ما بالك لا تنطق؟ أمعقود اللسان وأنت لك لسان كالثعبان؟
وربما أحب أن ينفي عنه تهمة الاضطراب والحصر والضيق بالكلام في مفاجأة اللقاء.
فقال لها وهو يتلعثم: أين كنت؟
Bilinmeyen sayfa
قالت: في السينما.
قال من حيث لا يشعر بمعنى ما يقول: مع من؟
فأجفلت مقطبة وأجابته بلهجة فاترة ولكنها مفعمة بالتهكم والتأنيب: أولا أذهب إلى السينما إلا مع أحد؟ ألا تزال في ضلالك القديم؟
قال: وماذا بدا لي من الهدى الجديد فأعدل عن الضلال القديم؟ ولماذا صرفت كلامي إلى ما فهمت؟ ألا يجوز أن تذهبي إلى السينما مع سيدة؟ فلماذا تستغربين السؤال؟
قالت: لأنك غريب في هذه الليلة، ماذا أقول؟ لأنك غريب في كل حين.
ثم اقتضبت على غير انتظار وهي تشيح بوجهها وتهمس بصوت مسموع: هذا شرح يطول، ونحن نهيم في الشوارع على غير مقصد، فأولى بنا أن نرجئ الحديث إلى وقت آخر، ألا ألقاك غدا في المنزل؟ ... غدا في الساعة الخامسة، أسمعت؟
قالت ذلك وهي تستوقف الحوذي وتهم بالنزول عند محطة الترام.
وإنها لتنزل من المركبة إذ تعمدت أن تدنو بوجهها من وجهه وتزم شفتيها وتغمض جفونها قليلا وهي تنظر إليه أو تنظر إلى غير وجهة.
فقبلها كأنه أداة كهربائية ديس على مفتاحها وشعر بالندم وشفتاه لا تزالان على شفتيها، ولكنه شعر به وشعر بنفسه في تلك اللحظة غريقا بعيدا كما يشعر بالجسد الغريق الهامد يراه في أعماق الأوقيانوس الهدار، وقال وهو أيضا نادم: غدا في المنزل.
قالت: في الساعة الخامسة موعدنا القديم.
Bilinmeyen sayfa
وافترقا على موعد اللقاء.
موعد
فارقته على موعد اللقاء في الساعة الخامسة «موعدنا القديم».
وكأنما كانت كلمة الموعد «القديم» وحدها طلسما ساحرا نقله من حالة إلى حالة، وأخرجه من الحذر والتردد إلى الراحة والاستبشار ... فاحتجبت عنه صفحة الشكوك والآلام والمنغصات، ولم ير أمامه إلا «الموعد القديم» بل «المواعيد القديمة» في كل يوم، وما كانت تحتويه من سرور ومتعة وصفاء، وذكريات لا تزال مرتسمة في الذهن، سارية في الجوارح كأنها وظيفة من وظائف الأعضاء.
وانطلق من المركبة خفيف الخطى موفور النشاط يكاد لا يعرف أحدا، ويكاد لا يعرفه من كان يراه قبل ذلك بساعة أو أقل من ساعة.
وأول ما خطر له أن يدخل في ذلك المساء دار «الصور المتحركة» التي كانا يلتقيان فيها معظم الأوقات، كأنها باب كان موصدا أمامه ففتح على مصراعيه، أو فاكهة ممنوعة رفع عنها المنع والحرمان.
ومن عجائب العاطفة الإنسانية أنها أبدا مولعة بالمراسم والشعائر، فلا تستولي على النفس حتى ترسم لها «طقوسا» وعادات تذكر الإنسان بطقوس العقائد والعبادات.
فلما خطر له أن يقصد إلى دار «الصور المتحركة» أو إلى ذلك «الحرم» الذي كان ممنوعا حتى ذلك المساء، لم يكتف بتذكرة واحدة، بل طلب له تذكرتين اثنتين، وهو لا ينوي أن يصطحب أحدا، ولو جاءه أحد يصطحبه لفر منه كما يفر المرء من غريم.
وقضى الوقت الباقي إلى الساعة التاسعة في قلق واشتياق كأن موعد التمثيل هو موعد اللقاء المنظور.
ثم بدأ عرض الصور وهو يزعم لنفسه أنه يشهد الرواية ويتتبع الممثلين والممثلات، وليس في خلده من ذلك شيء إلا كما يرى الناعس المهموم ما حوله من الأشباح، أو يسمع ما حوله من الأصداء ... كل ما يثبت في خلده منها أنها أشباح وأنها أصداء!
Bilinmeyen sayfa
ثم جاءت فترة الاستراحة فإذا بالفتى الذي يبيع هناك بعض الحلوى والمرطبات مقبل عليه في دهشة واستفهام يسأله: أكنت مسافرا يا بك؟
وقبل أن يسمع الجواب أسرع فقال: إن السيدة كانت هنا في حفلة الغروب.
وإذا بصاحبنا يسأله وهو لا يقصد السؤال، ولو فكر في سؤاله قبل أن يلفظ به لكتمه وأخفاه: أكانت وحدها؟
وخيل إليه أنه يلاحظ في نظرات البائع ولهجته تلميحا خبيثا يقول له ما لا يريد أن يعرفه، ولا يريد أن يجهله في الوقت نفسه، فسلبته تلك الملاحظة كل طمأنينة إلى ما سيقوله البائع من خبر مقبول أو خبر مرفوض، وود لو أنه يسكت فلا يجيب بشيء.
ولكن البائع لم يزد على أن هز رأسه وقال: لا أدري ... كانت إلى جانبها سيدة ... ولعلها كانت معها.
فاندفع من صاحبنا سؤال آخر كما اندفع السؤال الأول وهو يغالط نفسه، ويحسب أنه يتهكم أو يريد من البائع أن يحسبه متهكما غير جاد في مطاولة الحديث: جانبها؟ أي جانب؟ إن للإنسان جانبين لا جانبا واحدا كما تعلم.
وهنا ظهر من البائع الخبيث أنه فهم كل ما هنالك من الشك والاستطلاع، فقد عودته صناعته أمثال هذه المواقف وأمثال هذه الأسئلة وأمثال هذه الشكوك، فلم يفته أن «البك» يستطلع ويرتاب ... ومن يدري؟ فلعله كان يرى بعينه ما يدله على أن البك جدير بالاستطلاع والارتياب.
فتمهل قليلا وقال: «كان إلى جانبها الآخر هذا الممر ...» وأشار بيده إلى أحد الممرات التي بين الصفوف.
فارتفع كابوس ثقيل عن صدر صاحبنا، وأحب أن يعتقد أن كلام البائع خليق أن يزيل من نفسه جميع الشكوك، لا مجرد الشك الذي خامره عن زيارة السيدة لدار الصور المتحركة في ذلك اليوم.
إلا أنها طمأنينة عاجلة لم تلبث أن ذهبت كما جاءت في طرفة عين، وإذا بصاحبنا يناجي نفسه ذلك النجاء الذي كان غائبا عن خاطره منذ فترة وجيزة، يا عجبا! إني لأجتنب هذه الدار كأنها تجمع شياطين الأرض كلها في حيز واحد، وهي تزورها ولا ترى فيما كان بيننا من القطيعة موجبا لاجتنابها ... لو كان قلبها خاليا من هوى آخر لما استطاعت ذلك، ولفعلت كما كنت أفعل أنا إلى هذا المساء ... والأغلب الأرجح أن هذا البائع يعلم من خفية الأمر أكثر مما يبوح به أو يريد أن يبوح، ألا ترى إلى غمزات عينيه وحركات وجهه ونغمات كلامه؟ فماذا على المنحوس لو أفضى بما عنده وأراحنا من هذا العناء؟
Bilinmeyen sayfa
وعاد صاحبنا يتساءل في ضميره: ما عنده؟ أهكذا جزمت سريعا بأن «عنده» سرا وأنه يستطيع أن يبوح بأكثر مما قال؟ ألا يجوز أنه لم يعرف سرا على الإطلاق، وأن ما حسبته غمزات ونغمات مريبة في صوته إنما هي عادة هذه الطبقة عندما تتحدث لرجل عن امرأة، أو عندما تتحدث في كل شأن بين رجال ونساء؟ - يجوز. - لا يجوز.
وهكذا انطلقت في مخيلة صاحبنا أوهام وأشباح لا عداد لها في تلك الساعة القصيرة، ولا يقاس عليها كل ما شهدته تلك الدار من الأوهام والأشباح ومن المبكيات والمضحكات.
ولم ينقذه مما استغرق فيه إلا انتهاء التمثيل وزحام الخروج ولقاء بعض الأصحاب وسهرة كثرت فيها الشواغل وطال الحديث.
ونام تلك الليلة على أثر انفضاض السهرة وكان يقدر أنه لن ينام.
ولكنه لو قضى الليل كله ساهرا لما عمل في اليقظة إلا الذي عمله وهو نائم، حلم وتفكير وهواجس وخيالات تضطرب وتصطخب ويتبع بعضها بعضا، ولا تميل إلى جانب الرضا لحظة حتى تعود إلى جانب الوسواس والمنغصات.
ثم استيقظ في الصباح وهو يسأل نفسه كأنما يسأل مخلوقا غريبا يجهل ما عنده من نية وشعور: أتنوي أن تنتظرها في الموعد؟
فما هو إلا أن وضح السؤال في خاطره حتى شعر بأنه سؤال غريب يدل على ما وراءه، وحتى بدت الدهشة من أن تكون هناك نية معقولة غير الانتظار.
وهنا دارت في سريرة هذا الرجل - هذا الرجل الواحد - مناقشة عنيفة طويلة كأعنف ما تدور المناقشة بين رجلين مختلفين، كلاهما مصر على عزمه، وكلاهما يحاول جهده أن يخدع الآخر ويستميله إلى رأيه، وكلاهما يبذل كل ما هو قادر عليه في هذا الحوار من أساليب الإقناع والإغراء والرياء والتصريح: كيف لا تنتظرها؟ أتعطي سيدة موعدا ولا تنتظرها فيه؟ أهذا يليق برجل؟ - ولكنها ليست سيدة كسائر السيدات، ولا زائرة من زائرات المجالس العامة اللواتي تقع بيننا وبينهن هذه التكاليف ... إن هذه المجاملات أو هذه القيود لا حساب لها في العلاقات التي انطلقت من جميع القيود. - ولكن مم عساك أن تخاف؟ انتظرها وقل لها أنك لا تريد أن تراها بعد هذا الموعد. - عجبا ... أتجهل ما أخافه؟ أتجهل تلك الآلام التي لا حيلة فيها لمخلوق ولا تزال تبتدئ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبتدئ؛ لأنها تبتدئ وتنتهي من الشكوك، وليس للشكوك قرار حاسم، ولا مقطع بيقين؟
أتجهل تلك الأشباح اللئيمة التي تطل عليك في أطيب أوقاتك فتنغص عليك كل لذة وتكدر عليك كل صفاء؟ - لكن علام كل هذه الشكوك التي ليس لها من أول ولا آخر؟ ... اصرفها عنك مرة واحدة وافرض أسوأ الفروض، وقدر أنها تخونك وأنك تلهو بها في ساعات فراغك، ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاص ولا خداع. - أأنت مخلص فيما تقول؟ وكيف تنقلب هذه المرأة التي كانت كل نساء الأرض عندي، وكل ما يخفق له قلبي، فتصبح بين مساء وصباح وهي لهو ساعة ومتعة فراغ؟ أهذا خداع يجوز على إنسان؟ أوتضمن إذا أنا اتخذتها لهوا ومتاعا ألا يتمكن اللهو ويطيب المتاع، وأننا لا ننكفئ بعد أيام أو بعد أسابيع إلى استغراقنا القديم وشكوكنا القديمة وعذابنا الأليم؟ لا لا، هذا محال باطل، واستدراج لا يستر ما وراءه وتزوير لا أرضاه. - لكن الفتاة مليحة مع ذاك ... تصور بضاضتها وهي جالسة إلى جانبك في المركبة، وأنفاسها وهي تهب على خدك فتسري في جميع أوصالك، وقبلتها وهي ترتعش على شفتيك، وحلاوتها وقد زادها النحول في هذه الأشهر حلاوة على حلاوة، ونحولها نفسه وما ينبئ عنه ويكشفه لك من المودة والحنين، وتصور ذلك كله بين يديك في مدى بضع ساعات وأنت مع هذا تفكر ... تفكر في ماذا؟ في نبذ هذه النعمة التي تسعى إليك، وفي الخوف والجبن والفرار. - هذا حق كله، إن الفتاة لمليحة ولا نكران ... ولكن! - ولكن ماذا يا أخي ...؟ انتظرها واله بها ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال ... ولا تستضعف عزيمتك هذا الاستضعاف المهين وأنت رجل ذو عزيمة ومضاء ... فإذا عاودتك الشكوك فأنت قادر على قطع العلاقة بينك وبينها كما قطعتها من قبل، وإلا فأنت رابح ما استرجعت من متعة وسرور. - عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هذا النزاع العنيف؟ - إنها تنجدك في كل حين ولكنك أنت لا تريدها الآن ... لا تريد عزيمة الجفاء والقطيعة، ومتى أردتها غدا فهي حاضرة لديك، وهي في كل ساعة طوع يديك ... ومع هذا ألا يشوقك أن تستمع إلى حديثها عن أيام القطيعة بينكما؟ ألا يجوز أن تفسر لك بعض الغوامض، وتريك من البواطن ما ينقض الظواهر وتصف لك من حالها في غيابها عنك ما يهمك ولو من باب الدراسة والاستقصاء؟
وتعاقبت الساعات ساعة بعد ساعة في هذا الحوار الحثيث ولا قرار.
Bilinmeyen sayfa
وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار.
وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار.
نعم، لا قرار فيما يشعر به صاحبنا أو صاحبانا المتحاوران على أصح التعبيرين، غير أن الذي حدث بعد ذلك يدل دلالة لا شك فيها على أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، بل يدل على أن صاحبينا المتحاورين لم ينفردا بالميدان فيما شجر بينهما من عراك عنيف، وإنما كان معهما ثالث لا يدريان به وهما ماضيان في الإقناع والإنكار.
ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق - والحوار على أشده بغير قرار - وجد صاحبنا أنه يلبس ملابس الخروج ويفتح باب حجرته وينحدر على الدرج إلى حيث لا يعلم إلا أنه خارج من المنزل وكفى، ومضى في طريقه مهرولا كمن يمضي إلى غاية معلومة يخشى أن يفوته لحاقها، وركب سيارة لم يعرف إلى أين تحمله إلا بعد أن استقر فيها، واستطاع أن يمكث حيث ذهب ساعات ثلاثا لا ساعة واحدة ولا نصف ساعة كما كان يتمنى وهو يعالج أن ينجو من الموعد المحدود.
ثم ساوره القلق ودلف إلى منزله بالسرعة التي فارقه بها، واستحالت كل حيرته قبل الخروج إلى حيرة أخرى، أو شوق آخر، وهو أن يعرف ما حدث في غيابه بجميع تفصيلاته، هل حضرت في الساعة الخامسة؟ أو حضرت قبلها أو بعدها؟ وماذا قالت حين علمت بخروجه؟ وما بدا على وجهها وهي تصدم بهذه «المقابلة»؟ وإذا كانت لم تحضر فما الذي عاقها عن موعدها؟ ولماذا ضربت ذلك الموعد باختيارها؟ هل ضربته وهي تنوي أن تخلفه من اللحظة الأولى، أو طرأ الحائل بعد ذلك على الرغم منها؟
وأنه ليفتح الباب بالمفتاح الذي في جيبه ولا ينتظر أن يدق الجرس كعادته في الأوقات الأخرى، إذا بالخادم يصادفه وراء الباب، وهو يظن - بل يرجو - أن يخبره على الفور أن سيدة حضرت في غيبته ولا تزال في انتظاره، ويغلو به هذا الوهم حتى يعجل بالالتفات إلى حجرة الاستقبال ليلقى السيدة التي تنتظره فيها.
ولم تمض في ذلك إلا لمحة خاطفة والخادم شاخص لا ينبس بحركة ولا يلوح عليه أنه يحمل خبرا من الأخبار يستحق أن يقال، ويساوي تلك اللهفة التي تعتلج في صدر صاحبنا.
فأسرع صاحبنا سائلا: ألم تحضر إلى هنا السيدة؟ ألم تقل شيئا؟
فقال الخادم في فتور غريب: لا أعلم!
فانفجر صاحبنا غاضبا: كيف لا تعلم؟ ألم تكن هنا؟ هل هي أوصتك بأن تقول ذلك؟
Bilinmeyen sayfa
قال الخادم وفي صوته احتجاج من يستغرب ولا يفقه معنى هذا الاتهام: يا سيدي قلت لا أعلم؛ لأنك نزلت من هنا وأنا نزلت وراءك حسب المعتاد في سائر الأيام.
فاشتعل صاحبنا غيظا، وهم أن ينقض عليه لولا أن هرب الرجل من أمامه فتبعه إلى باب الخدم، وهو يعلنه بالطرد وألا يعود ليريه وجهه مرة أخرى، ولم يصفح عنه إلا بعد ثلاثة أيام، وبعد أن شفع له أن الرجل معذور؛ لأنه لم يأمره بالبقاء في المنزل، وقد أنساه أن يأمره بالبقاء فيه ما كان مشغولا به من حوار.
الشكوك
من النادر جدا أن يتواعد محبان على اللقاء بعد فراق طويل ثم لا يسرعان إلى موعد اللقاء بلهفة شديدة واشتياق عظيم، إن لم يكن حبا أو حنينا أو رغبة في المتعة والسرور، فعلى الأقل من قبيل الفضول والاستطلاع والرغبة الملحة عند كل منهما في الوقوف على أخبار صاحبه وأحواله في الغياب الطويل: هل أحبت غيره؟ وهل أحب غيرها؟ وهل سلت؟ وهل سلا؟ وبماذا يشعران في الحب الجديد؟ أو ماذا بقي عندهما من الحب القديم؟ وماذا تقول له حين تخلو به؟ وماذا يبدر من كلامه حين يخلو بها؟ وأشباه ذلك من الأسئلة التي يلقيها كلاهما على نفسه ويحسب أنه في أشد الحاجة إلى الوقوف على جوابها، فربما كان هذا الفضول من أقوى مظاهر الحب، ومن أوثق روابط الاتصال بين كثير من الناس؛ محبين كانوا أو غير محبين.
فإذا حدث غير ذلك واجتهد أحد العاشقين أو كلاهما في اجتناب الموعد المنتظر بعد طول العزلة والجفاء، فلا بد أن يكون بينهما شبح قائم من الآلام والأكدار يغطي على جميع المشوقات والمرغبات، ويعكس الفضول والاستطلاع؛ فيستحيل إلى صمم ونفور، ويصبح كل شيء أهون من تجديد تلك الحالة المكروهة والعودة إلى ذلك الشبح المرهوب.
وهكذا كانت الشكوك التي تمثلت لصاحبنا؛ فانساق بغير وعي ولا إرادة إلى اجتناب الموعد، والفرار من المنزل، والهزء بكل إغراء وتشويق ينبعث في أعماق حسه من شيطان ذلك الشغف القديم.
كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا، ولا يزال ينطبق وينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها، فينفرج وينفرج وينفرج حتى يتسع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف، بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذبا عنيفا بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة، ولا إلى الاتهام ... بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب، حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية وإلى غير راحة ولا استقرار.
وضاعف هذه الحالة ذكاؤها من ناحية، وطبيعة ذهنه وتفكيره من ناحية أخرى؛ فهي من الذكاء بحيث لا تقدم على عمل واحد أو حركة واحدة لا يختلف فيها وجهان، ولا تقبل التضليل والنكران، وهو في تفكيره وطبيعة ذهنه يخلق الاحتمالات الكثيرة، فلا يجوز عنده احتمال راجح إلا جاز عنده في اللحظة نفسها احتمال راجح في قوته ووزنه وجوازه، ولا يدفع هذا أو ذاك إلا بدافع حاسم لا تردد فيه.
ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حالة الأب المستريب الذي يشك أفجع الشك في وليد منسوب إليه: هل هو ابنه أو هو ابن غيره؟ ومن هو ذلك الطفل الصغير الذي يتقاضاه حقوق البنوة على الآباء؟ هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أو هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار؟ هل هو مخدوع في عطفه عليه، أو هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منهما، وكلاهما لا يطاق.
Bilinmeyen sayfa
بذلك كان يشبه حيرته وهو يحاول الاستمتاع بعاطفته التي هو مستغرق فيها، ويحاول في اللحظة بعينها أن يبترها وينساها ولا يعود إليها، ثم لا يدري في أي المحاولتين هو مصيب، ولا بد أن يدري، وهيهات لا سبيل إلى الدراية بحال!
وإذا كان بعض الشكوك في العشق من وساوس الأوهام، فمما لا نزاع فيه أن العاشق أصدق الناس في شكوكه حينما يبنيها على أسباب صحيحة وحقائق ملموسة؛ لأنه يعرف صاحبته معرفة لا يخفى معها عارض من عوارض التغير، ولا لمحة من لمحات العين، ولا همسة من همسات الضمير: يعرف نظراتها ويعرف كلماتها، ويعرف ما تقوله عن سجية وما تقوله بتكلف واصطناع، ويعرف أن بعض الخشونة أدل على الحب والإخلاص من بعض المجاملة، ويعرف نفسها وكيف تستتر فيها الخفايا، ويعرف جسدها وكيف تختلج فيه النوازع والشهوات.
وقد يسأله من يسأله كيف خامرتك الشكوك؟ فيضحك من نفسه أن يجيبه بما يلوح له أو يطلعه على بعض تلك الأسباب، وقد يؤثر في معظم الأحيان أن يكتمها ويموهها على أن يفضي بها إلى إنسان كائنا ما كان.
وبعد، فهل الغدر في الحب مستحيل؟
كلا، ليس هو بمستحيل ولا مما يقارب المستحيل، وليس صاحبنا بالذي يصدق ولا صاحبتنا بالتي تصدقه وتدعيه.
لقد اعترفت له بعلاقتين سابقتين: إحداهما متينة مستحكمة طويلة، والأخرى هوجاء حامية سريعة، وإحداهما مع كهل يقارب الأربعين، والأخرى مع فتى في نحو الخامسة والعشرين، وإحداهما صيدت فيها ولكن على غير كره منها، والأخرى كانت هي فيها الصائدة، وهي التي نصبت الشباك، فوقع الصيد على عجل وأسرع الحراس الحانقون فأطاروه!
اعترفت له بما كانت تحتال به من الحيل البارعة لتلقى عشيقها الأول، وبما كانت تعمي به على من حولها حتى لا يرتابوا في أمرها، وإذا استرابوا لم يجدوا عليها ما يثبت الريبة ويقطع اللسان.
واعترفت له بالردود المفحمة التي تدبرها لترغم المتهمين على السكوت.
واعترفت له بما تخجل منه المرأة المعتزة بجمالها ومكانتها، فقالت له إنها لم تكن على يقين من حب عاشقها الأول، ولم تكن تبالي أن يحبها اكتفاء بعلمها أنها هي تحبه، وذهبت في امتهان كرامتها - وهي مغرورة بفتنتها وامتيازها - إلى حد من الخضوع لا يحمد إلا في التدين والإيمان، فقالت إنها لمحت منه مرة أنه يطيل النظر في مجلسها إلى امرأة أخرى من صديقاتها ... فخطر لها أن تناجي نفسها سائلة: هل يجسر على أن يطلب منها الوساطة بينه وبين تلك المرأة في التقريب والتمهيد؟! ... قالت: «فراعني هذا السؤال، ولكني، عدت فشعرت أني سأفرح بأن أسره، وإن جاء سروره من هذا الطريق المهين!»
ثم انقطعت هذه العلاقة على الرغم منها وعلى الرغم منه، وتمادت بها الوحدة وهي في دهشة مخيفة، فجعلت تلتفت إلى شاب وسيم من الجيران، ثم تمعن في الالتفات إليه حتى أصبح انتظاره وهو عائد إلى منزله في الهزيع الأخير من الليل شغلا لها شاغلا في اليقظة والمنام، وأخذت تحاسبه في طويتها على هذه السهرات وتتخيل مع من تكون وكيف تكون ...! ويزيدها ذلك لجاجة في الولع ولجاجة في الانتظار، ولم يلبث هذا الالتفات منها أن أدى إلى الالتفات منه ثم إلى التحية ثم إلى لقاء جنوني في المنزل الذي يحيطها فيه الآل والأقربون، وكانت هذه المغامرة العجيبة هي العلاج الباتر لذلك الجنون العجيب!
Bilinmeyen sayfa
وراح صاحبنا يذكر كيف اجتمع بها أول مرة، ويذكر ما تحدثت به إليه في أول خلوة، لم يطل بهما الجلوس يومئذ حتى استأذنت في الانصراف؛ لأنها ذاهبة إلى موعد مع صديق، وأرته خطابا من ذلك الصديق يقول لها فيه إنه يشتري في ذلك اليوم سيارة ويحب أن يستأنس برأيها وبذوقها في اختيار اللون والطراز، فأذن لها صاحبنا وهو يقول مازحا: «هذا موعد يرشحك لصناعة مفيدة ... فلا تهمليه ...»
قالت له في أول لقاء بعدها: «لشد ما كنت أترقب منك أن تستبقني وتؤخرني عن ذلك الموعد، ولو قلت لي: لا تذهبي! لما ذهبت ... ولو مزقت الخطاب أو خطفته من يدي لجزيتك على صنيعك أحسن الجزاء!»
وكانت تحب الضحك وتفطن إلى الفكاهة وتضحك أحيانا حتى تشرق عيناها الواسعتان بالدموع، ولكن صاحبنا لا يذكر أنها ضحكت يوما كما ضحكت أمامه وهي تمثل الصديق صاحب السيارة، وتروي ما جرى بينها وبينه حين اجترأ أول مرة على اقتراح خطير، بعد تمهيد وتحضير، وحذر وتحذير.
وما هو الاقتراح الخطير؟
قبلة ...!
نعم، قبلة، وأكدت الكلمة وهي تروي الحكاية مرتين.
قالت: إنه كان ينتظرني في طريق الزمالك، فلمحت أول ما وقع نظري عليه أنه مهموم قلق يخفي على أطراف شفتيه نية من النيات، وكان ذلك بعد أن التقينا عدة مرات وانفردنا في الخلوات ساعات، فلم يعسر علي أن أستشف تلك النية، وراقني أن أستدرجه إلى الإفصاح عنها لأرى كيف يتدرج في الكلام، فأضجرني كثيرا قبل أن يستجمع في قلبه القدرة على أن يقول: يا فلانة!
قلت: نعم يا فلان.
قال: إن لي أمنية أحب أن أفاتحك فيها، وأرجو ألا ترفضيها ولا تسيئي تأويلها.
قلت: إنني أحب أن أرى أمانيك كلها تتحقق، ولا سيما الأماني التي فيها لك الخير والنجاح.
Bilinmeyen sayfa
قال: أشكرك ... لكن هذه الأمنية في يديك أنت؟
قلت كالمستغربة: في يدي أنا؟ ما علمت قبل الآن أنني رئيسة عليك، ولا أنني قادرة على نفعك وتوفير ما تتمناه!
فأحجم قليلا، وخشيت أن يعدل عن مجرى حديثه فعدت أقول: ومع هذا أسمع منك هذه الأمنية فلعلي أشير عليك بما يفيد.
وبعد جهد جهيد صرح وهو يستغفر ويتلعثم بأنه يتمنى على الله أن أسمح له بقبلة!
فسكت هنيهة لا أدري هل أضحك أم أتغاضب، وظن أنني أتجهم وأقطب وأنني أهم أن ألومه وأخاطبه بما يسوءه، فأسرع إلى الاعتذار، وأسرعت أنا إلى الكلام لئلا أضحك، قائلة: أوهذا يحسن بك يا فلان؟ لكأني بك غدا تتمادى إلى أكثر من ذاك ...
فصاح كمن مسته نار: أنا؟ أتظنين يا فلانة أنني من هؤلاء؟ معاذ الله يا فلانة! معاذ الله! •••
لم ينس صاحبنا كيف كانت تضحك وهي تحكي له هذه الحكاية، واستدل من ضحكها أكثر مما استدل من كلامها على مبلغ استخفافها بما يسمونه الصداقة بين النساء والرجال، فما الذي يمنعه أن يصدق أنها تستخف بالوفاء وتمضي مع أيسر الأهواء؟
لا، بل هي قد اعترفت له بما هو أدعى إلى الشك والريبة من جميع ما تقدم ... فقد غضب منها وغضبت منه قبل الغضبة الأخيرة مرات عديدات، بعضها يعقبه الصلح في يومها وبعضها يتجاوز الأيام وقد يتجاوز الأسابيع، ففي إحدى المرات افترقا بعد عراك عنيف بالغ في العنف والتهجم فوق ما تعودا من عراك وصدام، وسافر إلى مصيفه وسافرت إلى مصيفها، ولا مطمع لهما في لقاء، وبلغ من يقينه بالفراق الفاصل أنه عاد من سفره وهو لا يترقب منها سلاما ولو سلام المجاملة والتكليف، ولكنه بعد أيام قليلة تلقى غلافا فيه صور شمسية تمثلها إلى جانب بعض المشاهد الخارجية التي يرحل إليها المصطافون والسائحون، ومضت أيام معدودات وإذا بجرس التليفون يدق، وإذا بالمتكلم ذلك الصوت الذي لا يلتبس عليه بين ألوف الأصوات: الحمد لله على السلامة! - سلمك الله وعافاك! - هل لي أن ألقاك اليوم؟ - نعم، تفضلي! - أتفضل؟ لا، لست أتفضل، ولكني أزورك لألتمس الغفران ... هل في وسعك أن تمثل دور الكاهن في الديانة المسيحية؟
قال: أخشى أن يكون دورك إذن هو دور الخاطئة؟
قالت: هو ذاك، فإلى اللقاء ... فالتليفون لا يتسع لمثل هذا الحديث.
Bilinmeyen sayfa
لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا باستغفال ولا احتقار ، ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضا يلجأ إليه، واستقبلها عاطفا عليها متطلعا إلى ما وراء حديثها مستعدا للتسامح في الإصغاء إليها، فدخلت وهي تقول في غير احتجاز ولا امتناع: لا قبلات ولا تحيات حتى تعرف قصتي وأعرف رأيك. «اسمع يا فلان، إنني لا أؤمن بصداقة المرأة للمرأة ولا عزاء لي في معاشرة الصديقات المزعومات على الإطلاق، فإن لم يكن إلى جانبي رجل أهابه وأحبه وأعتمد على سنده فأنا في وحشة الهالكين، وأنا ضعيفة ضعيفة ضعيفة لا طاقة لي على دفع الغواية، وقد افترقنا يائسين ليس لك حق عندي وليس لي حق عندك، وأنا لا أحاسبك على شطحاتك في مصيفك إن كانت لك شطحات، ولكني أسمح لك أن تحاسبني على الصغيرة والكبيرة وأبوح لك بأنني زللت في المصيف وانغمست في صلة غرامية ليس فيها غرام في الحقيقة، ولم أحضر إليك اليوم، بل لم أرسل إليك الصور إلا وقد قطعت تلك الصلة وهيأت نفسي لاستئناف مودتنا القديمة، هأنذا الساعة بين يديك فماذا أنت قائل؟ هل تقبلني؟»
فاستزادها من خبر تلك الصلة التي لا غرام فيها كما تقول، واسترسلت هي في تفصيلات لم تستر فيها سرا ولم تصبغ فيها أمرا بغير لونه، ولم تقف دون معرة أو نقيصة كأنها تفرغ قلبها بين يدي الكاهن على حسب «إنذارها» في حديث التليفون.
قال بعد أن أصغى إليها في صمت وإبهام: إنني يا فلانة لا أملك أن أجيبك هذه الليلة، إن أنا قبلتك فلست آمن أن أندم، وإن أنا رفضتك فلست آمن كذلك أن أندم، ولكن دعيني بضعة أيام ريثما أروض سريرتي على عزم وثيق وأخبرك بما صحت نيتي عليه، غير خائف من عواقب العجلة.
وما انقضت تلك الأيام حتى استقبلها صافحا، وسألها أن تذكر أبدا أنه قد يفهم عذرها من الضعف، ولن يفهم لها عذرا من الختل والخداع، وحمد لها صراحتها، ولكنه في الواقع لم يسلم من الاحتراس والتوجس منذ تلك الساعة، ولم يزل على تفاهم دخيل بينه وبين طواياه أنه لا يأوي إلى حصن حصين، وأنه مع ذلك هو حصنه الذي لا بد أن يأوي إليه!
فلما ساورته شبهات الشك توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان وشوارد الخواطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، وما إلى ذلك من علامات هي لمن يعهدها أثبت من البراهين وأصدق من الشهود، ورانت السآمة على كل لقاء، وتغلغلت اللواعج والأشجان في كل فراق، وغلبت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء، ولم يبق إلا أن يقبلها على أن يستغرق هو في حبها، ويسمح لها هي أن تفرغ لغيره وهذا مستحيل، أو يقبلها على أن يلهو بها وتلهو به وهذا أيضا مستحيل، أو يسوم نفسه قطيعتها، وهذا ما قد عول عليه، وظن أنه استطاعه وقدر عليه خمسة أشهر.
وأنه لفي حسبانه هذا يوشك أن يودع القلق والأسر ويقبل على الطمأنينة والحرية، إذا به يهاجم في الصميم، وإذا بالظواهر والبواطن كلها تضمن له وهي تتدفق عليه أنه عائد لا محالة إلى ما ودع من شقاء وألم، وليس بين تلك الظواهر والبواطن كلها ما يضمن له أقل ضمان أن يعود إلى ما ودع من ثقة ونعيم، فماذا عساه أن يصنع؟ لا تسل فكره ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سل كل وشيجة من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمت عزمها بغير اكتراث لفكره أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها وهي لا تترجم عن تلك الإرادة إلا بالعمل الواقع دون التفكير ودون التعليل ودون التفسير، فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وحملت الجسد الذي هي قوامه إلى خارج المنزل وهي لا تعي ولا تفقه إلى أين تسير، ولا لوم على من يطلب النجاة، فإنما هكذا تطلب النجاة!
علاج الشك
مواجهة الحقيقة من أصعب المصاعب في هذه الدنيا.
أولا:
لأننا في الغالب لا نعرف ما هي الحقيقة.
Bilinmeyen sayfa
وثانيا:
لأننا في الغالب لا نحب أن نعرفها إلا مضطرين، حين نيأس من قدرتنا على جهلها ونشك ثم نشك ثم نرى آخر الأمر أن الشك أصعب وأقسى من مواجهة الحقيقة والصبر عليها.
وثالثا:
لأننا إذا عرفناه ففي الغالب - أيضا - أنها تكلفنا تغيير عادة من العادات، وليس أصعب على النفس من تغيير ما اعتادت ... فالموت نفسه لا صعوبة فيه لولا أنه يغير ما تعودناه، وفراق الموتى لا يحزننا لولا أنه تغيير عادة أو عادات كثيرة.
وقد كانت الحقيقة أنهما - أي صاحبنا وصاحبتنا - قد تغيرا كثيرا بعد أن مضت على صحبتهما برهة من الزمن، ولكنهما لبثا برهة أخرى من الزمن وهما لا يريدان أن يعترفا بهذا التغيير.
تغيرا فلا سرور لهما في اللقاء، وقد كان اللقاء عندهما أكبر سرور يشعر به الإنسان.
ولكنهما لم يزالا يتلاقيان. •••
تغيرا واشتد بهما التغيير، وهما لا يجسران على مواجهة الحقيقة ... فلو سأل نفسه هل يريد اللقاء حقا أو يريد الفراق لما استطاع الجواب، أو لقال في نفس واحد أنه يريد اللقاء ويريد الفراق.
ولو سألت هي نفسها هذا السؤال لكان جوابها أنها لا تعلم لماذا تحضر في الموعد كل يوم، ولماذا لا تفضل الانقطاع عن الحضور.
هو لم يجزم بخيانتها كل الجزم؛ فلماذا يتركها؟ ... ولكنه لا يسر بلقائها؛ فلماذا يلقاها؟
Bilinmeyen sayfa