حين مثل لي حلمي هذه الصورة البدائية الهمجية، شعرت بالرعب والتشكك في بادئ الأمر. كيف يمكن لصانع النجوم، حتى وإن كان في مرحلة الرعونة، أن يحكم على مخلوقاته بالمعاناة بسبب نقاط الضعف التي وضعها هو نفسه فيهم؟ كيف لهذا الإله المحب للعقاب أن يأمر بالعبادة؟ وعبثا حاولت أن أخبر نفسي أن الحلم ولا بد قد زيف الحقيقة تماما؛ إذ إنني كنت مقتنعا أنه في هذا الجانب لم يزيف الحقيقة، بل كان على نحو ما صحيحا، وإن كان ذلك بصورة رمزية على الأقل. بالرغم من ذلك، فحتى حين واجهت هذا الفعل الوحشي، حتى في نفوري شفقة ورعبا، كنت أمجد صانع النجوم.
ولكي أبرر عبادتي، أخبرت نفسي أن هذا اللغز المريع يتجاوز قدرتي على الفهم، وأن حتى هذه القسوة الشنيعة لا بد أن تكون على نحو ما هي الصواب إن جاءت من صانع النجوم. هل من الممكن أن تكون الهمجية من سمات صانع النجوم في مرحلة رعونته فحسب؟ أيتجاوزها بعد ذلك حين تتحقق ذاته بالكامل؟ كلا! كنت أعرف في أعماقي بالفعل أن هذه القسوة سوف تظهر حتى في الكون النهائي. أيمكن إذن أن تكون هناك حقيقة أساسية يمكن تبرير هذه الأفعال التي تبدو انتقامية في ضوئها، لكنني قد أغفلتها؟ أيكون الأمر ببساطة هو أن كل هذه المخلوقات ليست سوى صور من القوة الخالقة في حقيقة الأمر، وأن صانع النجوم في تعذيبه لمخلوقاته إنما يعذب نفسه على مدار مغامرته في التعبير عن الذات؟ أم يكون الأمر أن صانع النجوم نفسه، بالرغم من عظمته، محدود في جميع خلقه ببعض المبادئ المنطقية المطلقة، وأن أحد هذه المبادئ يتمثل في الرابطة الأزلية بين الخيانة والندامة في الأرواح نصف المتيقظة؟ أيكون قد تقبل في هذا الكون الغريب القيود الحتمية لفنه واستخدمها؟ أم أن احترامي لصانع النجوم كان موجها لروحه «الخيرة» دونا عن «الشريرة»؟ وهل كان يحاول في حقيقة الأمر أن يطرد الشر من نفسه من خلال خطة الانفصال تلك؟
كان التطور الغريب في هذا الكون يطرح مثل ذلك التفسير؛ فنظرا لأن معظم سكانه كانوا يمتلكون درجة منخفضة للغاية من الذكاء والنزاهة الأخلاقية، سرعان ما ازدحم الجحيم، بينما ظلت الجنة فارغة تقريبا. بالرغم من ذلك، فقد كان الجانب «الخير» من صانع النجوم يحب مخلوقاته ويشفق عليهم؛ ومن ثم فقد دخلت روحه «الخيرة» إلى العالم الدنيوي لتطهر المذنبين بمعاناته. وبهذا، فقد عمرت الجنة أخيرا بالسكان، غير أن الجحيم لم يخل منهم.
ألم أكن أعبد إذن سوى الجانب «الخير» في صانع النجوم؟ كلا! على نحو لا عقلاني لكن عن اقتناع، توجهت بعشقي لصانع النجوم بصفته التي تضم جانبي طبيعته المزدوجة؛ توجهت بالعشق إلى كلا جانبيه: «الخير» و«الشرير»، اللطيف والمريع، الإنساني على نحو مثالي واللاإنساني إلى أبعد الحدود. وكعاشق مفتون ينكر العيوب الفجة في محبوبه أو يختلق لها الأعذار، سعيت جاهدا إلى التلطيف من الجانب اللاإنساني لدى صانع النجوم، بل إنني افتخرت به على نحو إيجابي. أكان هناك إذن جانب قاس في طبيعتي؟ أم أن قلبي قد أدرك على نحو مبهم أن الحب، الذي هو الفضيلة الأسمى في المخلوقات، لا ينبغي أن يكون مطلقا في الخالق؟
واجهتني هذه المشكلة الملحة العويصة مرارا وتكرارا على مدار حلمي؛ فقد كان هناك كون على سبيل المثال سمح فيه للروحين بأن يتصارعا بطريقة جديدة وأكثر خفاء. في مرحلته المبكرة، لم يظهر في هذا الكون سوى السمات الفيزيائية، غير أن صانع النجوم قضى بأن تفصح إمكاناته الحيوية عن نفسها بصورة تدريجية في شكل أنواع محددة من الكائنات الحية التي ستظهر جيلا بعد جيل من السمات الفيزيائية الخالصة، وتتطور نحو الذكاء والصفاء الروحاني. وفي هذا الكون، سمح صانع النجوم لروحيه: «الخيرة» و«الشريرة» بأن يتنافسا حتى في عملية صنع الكائنات نفسها.
في العصور الأولى الطويلة، تصارعت الروحان على تطور الأنواع الكثيرة. عملت الروح «الخيرة» على إنتاج كائنات تتمتع بدرجة أعلى من التنظيم والفردانية والارتباط الدقيق بالبيئة، والبراعة في الفعل والوعي الواضح والشامل بالعالم وبأنفسهم وبالآخرين. أما الروح «الشريرة» فقد حاولت إحباط هذا المشروع.
تبدى الصراع بين الروحين في تركيب أعضاء جميع الأنواع وأنسجتها. أحيانا كانت الروح «الشريرة» تضع ما يبدو أنه سمات تافهة في الكائن لكنها خبيثة سامة تؤدي إلى هلاكه. كانت طبيعته تتضمن قابلية خاصة لإيواء الطفيليات، أو بعض مواطن الضعف في آلية الهضم، أو شيء من عدم الاستقرار في التنظيم العصبي. وفي بعض الحالات الأخرى، كانت الروح «الشريرة» تزود بعض الأنواع الأدنى بأسلحة خاصة لتدمير طلائع التطور حتى يذعنوا إما إلى مرض جديد أو إلى الأوبئة التي تسببها آفات هذا الكون، أو إلى الأكثر وحشية من أفراد نوعهم.
كانت الروح «الشريرة» تستخدم أحيانا خطة أكثر براعة تؤدي إلى تأثير عظيم. حين تكون الروح «الخيرة» قد توصلت إلى خطة واعدة، وطورت من بدايات صغيرة في الأنواع المفضلة لها تركيبا عضويا أو نمطا سلوكيا ما، فإن الروح «الشريرة» كانت تخطط لأن تبقي على استمرار عملية التطور لفترة طويلة للغاية بعد أن تكون قد بلغت المرحلة المثالية في تلبية احتياجاته. فتنمو الأسنان حتى تصبح كبيرة للغاية فيصبح تناول الطعام أمرا شديد الصعوبة، وتصبح الأصداف الواقية ثقيلة للغاية مما يعيق التنقل الحركي، وتصبح القرون ملتوية للغاية حتى إنها تضغط على الدماغ، ويصبح الدافع إلى الفردانية ملحا للغاية حتى إنه يدمر المجتمع أو يصبح الدافع الاجتماعي متملكا للغاية حتى يسحق الفردانية.
وبهذا ففي عالم تلو الآخر في هذا الكون، والذي كان قد تجاوز جميع الأكوان السابقة في التعقيد، كانت الغالبية الساحقة من الأنواع تتعرض عاجلا أو آجلا إلى الهلاك. بالرغم من ذلك، فقد وصل نوع واحد في بعض العوالم إلى المستوى «البشري» من الذكاء والوعي الروحانيين. وكان من المفترض أن تحميه هاتان القوتان من جميع الهجمات المحتملة، غير أن الروح «الشريرة» قد شوهت الذكاء والوعي الروحانيين كليهما على نحو شديد البراعة. ذلك أنه بالرغم من تكاملهما بحكم الطبيعة، فإنهما قد يتصارعان أيضا، أو يمكن المبالغة في أحدهما أو كليهما ليكون مهلكا كالقرون والأسنان الشديدة الطول في الأنواع السابقة؛ ومن ثم فالذكاء، الذي كان يؤدي من جانب إلى التحكم في القوى المادية وإلى البراعة الفكرية على الجانب الآخر، يمكن أن يؤدي إلى حدوث كوارث إذا انفصل عن الوعي الروحاني. غالبا ما كان التحكم في القوى المادية يؤدي إلى توليد هوس بالسلطة وتقسيم المجتمع إلى طبقتين غريبتين؛ الأسياد والعبيد. أما البراعة الفكرية فكانت يمكن أن تؤدي إلى توليد هوس بالتحليل والتجريد مع إغفال جميع ما لا يمكن للفكر أن يفسره. أما الوعي الروحاني نفسه، فحين كان يرفض النقد الفكري ومتطلبات الحياة اليومية، فإنه يصبح مختنقا بين الأحلام. (2) الخلق الناضج
وفقا للأسطورة التي تصورها عقلي حين عشت اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، فقد دخل صانع النجوم أخيرا في حالة من التأمل المستغرق مرت فيها طبيعته بتغير ثوري؛ ولهذا فأنا على الأقل كنت أحكم على الأمور من خلال هذا التغير العظيم الذي حل الآن بنشاطه الإبداعي.
Bilinmeyen sayfa