في بعض الأحيان كنا نميل إلى تصوره على أنه «قوة» خالصة، ونرمز إليه بيننا وبين أنفسنا بجميع الآلهة المتنوعة للقوة، والتي كنا نعرفها في عوالمنا الكثيرة. وأحيانا، كنا نشعر يقينا أنه «العقل» الخالص، وأن الكون ليس سوى تمرين من الرياضي الإلهي. وأحيانا، كان يبدو لنا أن الحب هو سمته الجوهرية، وتخيلناه على هيئة جميع شخصيات المسيح في جميع العوالم؛ المسيح البشري، ومسيح الشوكيات، ومسيح النوتيات، والمسيح المزدوج لدى السلالة المركبة، ومسيح الحشود لدى السلالة الحشرية. بالرغم من ذلك، فقد كان يبدو لنا بالقدر نفسه على أنه «إبداع» جامح أعمى وبارع في الوقت ذاته، ورقيق وقاس في الوقت ذاته، لا يعبأ إلا بأن يخلق ويخلق تلك المجموعة المتنوعة اللامتناهية من الكائنات، ويضع هنا وهناك بين ألف من التفاهات جمالا هشا. قد يرعى هذا الجمال لبعض الوقت بعناية أمومية، وفي نوبة غيرة مفاجئة من روعة مخلوقه، يدمر ما قد صنع.
غير أننا كنا نعرف جيدا أن هذه الخيالات كلها كانت خاطئة للغاية؛ فقد ظل شعورنا بحضور صانع النجوم مبهما، بالرغم من أنه كان ينير الكون على نحو متزايد، كضياء الشمس المحتجبة في الفجر.
الفصل التاسع
اتحاد العوالم
(1) عوالم طوباوية منشغلة
حل وقت حظي فيه ذهننا الجماعي الجديد بدرجة عالية للغاية من الصفاء حتى إنه تمكن من التواصل مع عوالم قد تفوقت على عقلية الإنسان الأرضي بدرجة كبيرة. ومن هذه التجارب السامية، لست أحتفظ، أنا الذي تقلصت مرة أخرى إلى حالة الكائن البشري الفردي مرة أخرى، إلا بذكرى مشوشة للغاية. لقد أصبحت كمن يعاني من أشد درجات الإرهاق الذهني ويحاول تذكر ألمع ما توصل إليه من أفكار ثاقبة وهو في حالة الحيوية الذهنية التي فقدها؛ فلا يستطيع أن يستعيد منها سوى أصداء خافتة وتألق مبهم. بالرغم من ذلك، فحتى الذكريات الأكثر تشتتا عن التجارب الكونية التي تعرضت لها وأنا في تلك الحالة من الصفاء الذهني تستحق الذكر.
كان تسلسل الأحداث في العالم الذي نجح في تحقيق اليقظة بوجه عام على النحو التالي بنحو أو بآخر. أعتقد أن نقطة البدء كانت مأزقا كالذي تعيشه أرضنا في الوقت الحالي. لقد طرحت جدلية التاريخ العالمي أمام السلالة مشكلة لم تتمكن العقلية التقليدية من التغلب عليها على الإطلاق. لقد غدا الوضع العالمي معقدا للغاية على محدودي الذكاء، وكان يستلزم درجة عالية من النزاهة الفردية في الحكام وفي المحكومين، والتي لم تتحقق حتى الآن إلا لعدد قليل من العقول. كان الوعي قد تعرض ليقظة عنيفة من سباته البدائي ليصبح في حالة من الفردانية المفرطة، والوعي الشديد بالذات لكنه محدود النطاق للغاية مع الأسف. وقد صارت الفردانية مع الروح القبلية التقليدية تهددان الآن بتدمير العالم. فقط بعد عذاب طويل الأمد من الضيق الاقتصادي والحروب الجنونية، تحققت المرحلة الثانية من اليقظة بينما تطاردها رؤية تزداد وضوحا لعالم أسعد. ولم تتحقق هذه المرحلة في معظم الحالات؛ إذ لم تتمكن «الطبيعة البشرية» أو ما يكافئها في العوالم العديدة من تغيير نفسها، ولم تتمكن البيئة من صياغتها من جديد.
بالرغم من ذلك، ففي عدد قليل من العوالم، استجابت الروح لما كانت فيه من مأزق بائس بمعجزة. أو لنقل، إذا كان القارئ يفضل ذلك، إن البيئة قد أعادت تشكيل الروح على نحو معجز. لقد حدثت هناك يقظة واسعة الانتشار وشبه مفاجئة إلى حالة جديدة من صفاء الوعي ونزاهة الإرادة. وتسمية هذا التغيير بالمعجز ليس سوى توضيح لحقيقة أنه لم يكن للعلم بأن يتنبأ به حتى مع تحقيق أكبر قدر ممكن من المعرفة ب «الطبيعة البشرية» مثلما تبدت في العصر السابق. غير أنه لم يبد للأجيال التالية إعجازيا، وإنما محض يقظة متأخرة من سبات معجز إلى تعقل عادي.
لقد ظهر هذا التحقق غير المسبوق للتعقل في البداية في صورة شغف واسع النطاق لنظام اجتماعي جديد يكون عادلا ويستوعب الكوكب بأكمله. ولم تكن تلك الحماسة الاجتماعية جديدة تماما بالتأكيد؛ فقد تصورتها أقلية صغيرة قبل وقت طويل، وحاولت، على فترات متقطعة، أن تكرس أنفسها لتحقيقها. أما الآن، فبسبب ضراوة الظروف وقوة الروح نفسها، سادت هذه الإرادة الاجتماعية أخيرا. وبينما كانت لا تزال متقدة، وكانت الأفعال البطولية لا تزال ممكنة لدى هذه الكائنات التي تيقظت دون سبب معروف، أعيد تنظيم البنية الاجتماعية بأكملها؛ لكي يتمكن كل فرد على الكوكب في خلال جيل أو جيلين من التعويل على وجود سبل العيش والفرصة في ممارسة حقوقه على نحو تام من أجل المتعة الشخصية أو من أجل خدمة المجتمع العالمي. وقد أصبح من الممكن الآن تربية الأجيال الجديدة على الشعور بأن نظام العالم ليس حكما استبداديا غريبا، بل تعبيرا عن الإرادة العامة، وأنهم قد ولدوا بالفعل في عالم نبيل، وهو أمر يطيب في سبيله العيش والمعاناة والموت. من الوارد جدا أن يرى قراء هذا الكتاب ذلك التغيير على أنه معجزة وذلك الوضع على أنه طوباوي.
هؤلاء الذين أتوا منا من كواكب أقل حظا، وجدوا في مشاهدة العالم تلو العالم وهو ينجح في الخروج من مأزق كان يبدو أنه لا فكاك منه، ومشاهدة الكائنات المحبطة المسممة بالكراهية من سكان العالم يتحولون إلى جماعة سكانية قد حظي كل فرد فيها بتربية سخية وذكية؛ ومن ثم لم يتشوه بالحسد والكراهية دون وعي، تجربة مبهجة ومريرة في الوقت ذاته. وبالرغم من أن تغييرا لم يحدث في السلالة الحيوية، فسرعان ما أنتجت البيئة الاجتماعية الجديدة جماعة سكانية قد تبدو على أنها تنتمي إلى نوع جديد. لقد كان الفرد الجديد يتفوق كثيرا على القديم من الناحية الجسمانية والذكاء والاستقلال الذهني والمسئولية الاجتماعية، وكذلك في نزاهة العقل والإرادة. وبالرغم من الخوف في بعض الأحيان من أن غياب كل أسباب الصراع الذهني الشديد قد يحرم العقل من جميع محفزات العمل الإبداعي ويؤدي إلى إنتاج بشر متواضعي الإمكانيات، فسرعان ما ظهر أن روح السلالة كانت بعيدة كل البعد عن الركود، وقد تمكنت الآن من اكتشاف مجالات جديدة للنضال والانتصار. راح سكان العالم من أفراد «الطبقة الأرستقراطية» التي ازدهرت بعد التغيير العظيم، يعيدون النظر في العصر السابق بفضول وتشكك، ووجدوا صعوبة كبيرة في تخيل الدوافع المتشابكة المشينة غير المقصودة في الغالب، والتي كانت هي المحرك الأساسي للتصرف لدى جميع البشر حتى الأكثر منهم حظا بين أسلافهم. لقد أدركوا أن جميع البشر في عصر ما قبل التغيير كانوا مصابين بأمراض ذهنية خطيرة وأوبئة متوطنة من التوهم والهوس بسبب التسمم وسوء التغذية العقلية. ومع تقدم البصيرة النفسية، أثارت النفسية القديمة ذلك النوع نفسه من الاهتمام، مثلما كانت الخرائط القديمة التي تظهر فيها الدول مشوهة بدرجة يكاد يستحيل معها تمييزها، تثيره لدى الأوروبيين في العصر الحديث. كنا ننزع إلى الاعتقاد بأن الأزمة النفسية التي يمر بها عالم اليقظة ما هي إلا ذلك الطريق الوعر من المراهقة إلى النضوج؛ إذ كانت تتمثل بصورة جوهرية في تجاوز الاهتمامات الصبيانية، ونبذ الدمى والألعاب الطفولية، واكتشاف الاهتمامات الموجودة في حياة البالغين. الوجاهة القبلية والسيادة الفردية والمجد العسكري والانتصارات الصناعية، كل ذلك قد فقد ما كان له من بهاء يبعث على الهوس، وبدلا من ذلك كله، أحبت الكائنات السعيدة الاندماج في التواصل الاجتماعي، والأنشطة الثقافية وفي المشروع المشترك المتمثل في بناء العالم. خلال المرحلة التاريخية التي تلت التغلب الفعلي على الأزمة الروحانية في عالم اليقظة، كان انتباه السلالة ينصب بصفة أساسية على إعادة بناء المجتمع بالطبع. كانت هناك العديد من المهمات البطولية التي ينبغي إنجازها. لم تقتض الحاجة نظاما اقتصاديا جديدا فحسب، بل أنظمة جديدة للتنظيم السياسي والقانون العالمي والتعليم. في العديد من الحالات، كانت هذه الفترة التي تشهد إعادة البناء تحت إرشاد من العقلية الجديدة، تشهد نزاعا خطيرا أيضا؛ فحتى الأفراد الذين يتفقون بصدق على هدف النشاط الاجتماعي، قد يختلفون بعنف على الوسيلة. بالرغم من ذلك، فقد كانت هذه النزاعات حين تظهر، برغم طبيعتها المحمومة، ذات طبيعة مختلفة للغاية عن النزاعات السابقة، والتي كانت بسبب الفردانية الشديدة والكراهية الشديدة للجماعات.
Bilinmeyen sayfa