وقد كانت تلك المرحلة، التي استبدلت فيها السلالة السمكية الأصلية وحلت محلها السلالة السمكية الفائقة، هي التي فقدنا فيها الاتصال بهذا العالم في النهاية. كانت خبرة السلالة المزدوجة قد جاوزت تماما قدرتنا على استيعابها. وفي مرحلة متأخرة للغاية من رحلتنا، اتصلنا بهم ثانية على مستوى أعلى من الوجود. كانوا قد اشتركوا في ذلك الوقت بالفعل في ذلك المشروع الضخم المشترك، والذي كان يضطلع به، مثلما سأذكر لاحقا، «اتحاد عوالم المجرة». في هذا الوقت، كانت السلالة التكافلية تتألف من مجموعة ضخمة من المغامرين العنكبوتيين المنتشرين في العديد من الكواكب، ومجموعة يبلغ عددها قرابة الخمسين ألف مليون من سلالة السمكيات الفائقة والذين يعيشون حياة من المباهج المائية والنشاط الذهني المكثف في محيط عالمهم الأصلي العظيم. وحتى في هذه المرحلة، كان لا بد من الحفاظ على التواصل الجسدي بين الشركاء التكافليين، وإن كان ذلك على فترات زمنية طويلة. وكان هناك تدفق مستمر من السفن الفضائية بين المستعمرات والعالم الأصلي. ودعم أفراد السلالة السمكية مع ذلك الجمع الغفير من زملائهم على عدد من الكواكب؛ وجود عقل للسلالة. وبالرغم من أن السلالة التكافلية بأكملها قد غزلت خيوط الخبرة المشتركة، فقد كانت السلالة السمكية وحدها هي التي كانت تحيك هذه الخيوط في نسيج واحد في موطنهم الأولي في المحيط، ثم يتشارك فيها بعد ذلك نوعا السلالة كلاهما. (2) كائنات مركبة
أحيانا في مسار مغامرتنا، كنا نأتي على عوالم تسكنها كائنات ذكية، كانت شخصيتها المطورة تعبيرا عن مجموعة من الكائنات الحية لا عن كائن فردي فحسب. وفي معظم الأحيان، يكون هذا الوضع قد نشأ عن ضرورة الجمع بين الذكاء وخفة الجسد الفردي. إذا كان هناك كوكب كبير قريب بعض الشيء من شمسه أو يؤرجحه قمر كبير للغاية، فسوف تجتاحه تيارات المد والجزر الضخمة من المحيط. وسوف تخضع مساحات شاسعة من سطحه إلى الغرق والتعري بصفة دورية. في هذا العالم، يكون الطيران أمرا مرغوبا للغاية، لكن نظرا لقوة الجاذبية، فلن يتمكن من الطيران سوى كائن صغير؛ أي أن كتلة صغيرة نسبيا من الجزيئات هي التي ستتمكن من الطيران؛ ومن ثم فلم يكن من الممكن حمل دماغ كبير بالدرجة التي تكفي لإجراء الأنشطة «البشرية» المعقدة.
في تلك العوالم، كان الأساس العضوي للذكاء في معظم الأحيان هو سرب من الكائنات الطائرة التي لا يزيد حجمها عن حجم العصافير. وقد كان عقل فردي واحد فقط من المرتبة البشرية يتملك مجموعة من أجساد الأفراد. لقد كان جسم هذا العقل متعددا، أما العقل نفسه فقد كان على تلك الدرجة نفسها من التماسك التي يتمتع بها العقل البشري. ومثلما كانت أسراب طيور الدريجة والطيطوي تتدفق وتتدحرج وتحلق وتختلج على مصبات الأنهار في كوكبنا، كذلك كانت تفعل تلك الغيوم المتحركة من الكائنات الطائرة فوق المناطق المزروعة الكبيرة التي غمرها المد في هذه العوالم، وكل غيمة منها تمثل مركزا واحدا للوعي. وبعد وقت قصير، مثلما هي الحال مع طيورنا الخواضة المجنحة، تستقر تلك الطيور الصغيرة، ويتضاءل حجم الغيمة الكبير إلى محض غشاء فوق الأرض، كرواسب على طول هامش المد المنحسر.
كانت الحياة في هذه العوالم تقسم على إيقاع تيارات المد والجزر. فخلال التيارات الليلية، كانت غيوم الطيور تنام جميعها على الأمواج. وخلال التيارات النهارية، كانت تنغمس في الرياضات الهوائية والممارسات الدينية. بالرغم من ذلك، في المرتين اللتين تجف فيهما الأرض خلال اليوم، كانت تزرع الطين المنقوع، أو تباشر جميع عمليات الصناعة والثقافة في مدنها المصنوعة من الخلايا الخرسانية. لقد كان من المثير لنا أن نرى كيف أنهم كانوا يتمكنون ببراعة من إبعاد جميع أدوات الحضارة عن تلف المياه قبل عودة تيارات المد والجزر.
اعتقدنا في البداية أن الاتحاد العقلي بين هذه الكائنات الطائرة الصغيرة ذو طبيعة تخاطرية، غير أنه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. لقد كان يقوم على أساس اتحاد في مجال كهرومغناطيسي معقد؛ في واقع الأمر على موجات «راديو» تتخلل المجموعة بأكملها. لقد كانت كل موجة من أمواج الراديو التي يرسلها كل كائن فردي أو يستقبلها؛ تماثل التيار العصبي الكيميائي الذي يحافظ على اتحاد الجهاز العصبي البشري. كان كل دماغ يدوي بالإيقاعات الأثيرية لبيئته، وكان كل منها يساهم بطابعه المميز في النمط المعقد للمجموع الكلي. وما دام السرب في نطاق لا يتجاوز ميلا مكعبا، ظل الأفراد في اتحاد ذهني، يؤدي كل منهم دوره بصفته مركزا متخصصا في «الدماغ» المشترك. وإذا حدث وابتعد بعض الأفراد عن السرب، مثلما كان يحدث أحيانا في الطقس العاصف، فقدوا تواصلهم العقلي وصاروا عقولا متفرقة ضعيفة للغاية، بل كانوا ينحدرون في ذلك الوقت إلى حيوانات غريزية بسيطة للغاية أو إلى نظام من الاستجابات اللاإرادية الموجه بالكامل من أجل مهمة استعادة التواصل مع السرب.
قد يكون من السهل تخيل أن الحياة العقلية لهذه الكائنات المركبة تختلف للغاية عن كل ما صادفناه حتى الآن. لقد كانت مختلفة ومتماثلة في الوقت ذاته؛ فمثل البشر، كانت غيمة الطيور قادرة على الغضب والخوف والجوع والرغبة الجنسية والحب الشخصي وجميع العواطف التي يشعر بها القطيع، غير أن وسط هذه الخبرات كان مختلفا عن أي شيء عرفناه حتى إننا وجدنا صعوبة كبيرة في تمييزها.
كان الجنس على سبيل المثال محيرا للغاية؛ فقد كانت كل غيمة ثنائية الجنس، وبها المئات من الوحدات الجنسية المتخصصة من الذكور والإناث، التي يتجاهل بعضها بعضا لكنها تكون على درجة عالية من الاستجابة لحضور غيوم الطيور الأخرى. وقد وجدنا أن مشاعر السرور والخزي من التواصل الجسدي لدى هذه الكائنات المتعددة الغريبة لا تكتسب بالاتحاد الجنسي الفعلي بين الأعضاء الجنسيين المتخصصين فحسب، بل تحدث أيضا على نحو في غاية اللطف، من خلال التداخل الهوائي لغيمتين تطيران في أثناء أداء تمارين الغزل في الهواء.
الأهم لنا من هذا التشابه السطحي معنا هو ما يكمن من تشابه في المرتبة الذهنية. لا شك بأننا لم نكن لنتمكن من التواصل معهم على الإطلاق لولا التشابه الجوهري في المرحلة التطورية الخاصة بهم مع تلك التي كنا نعرفها جيدا في عوالمنا. لقد كانت كل غيمة من هذه الغيوم ذات العقول المتنقلة المؤلفة من طيور صغيرة تمثل بالفعل فردا في رتبتنا الروحية تقريبا، أو كائنا بشريا للغاية ممزقا بين الوحش والملاك، وقادرا على الشعور بنشوات الحب والكراهية تجاه ما سوى غيمته من غيوم الطيور، وقادرا على الحكمة والحماقة ونطاق المشاعر البشرية بأكملها من الاحتيال إلى التأمل الوجدي.
حين أمعنا النظر بقدر استطاعتنا فيما وراء هذا التشابه الشكلي للروح الذي مكننا من التواصل مع غيوم الطيور هذه، اكتشفنا على نحو مؤلم معنى الرؤية بمليون عين في الوقت نفسه، ومعنى الشعور بنسيج الغلاف الجوي بمليون جناح في الوقت نفسه. تعلمنا كيفية تأويل المدركات المركبة للسهول الطينية والمستنقعات والمناطق الزراعية الواسعة التي كان يرويها تيار المد والجزر مرتين يوميا. أعجبتنا التوربينات الضخمة التي تعمل بفعل تيار المد والجزر، ونظام النقل الكهربي للحمولات المشحونة. واكتشفنا أن الغابات المؤلفة من الأعمدة الخرسانية العالية أو المنارات والمنصات القائمة على الركائز والتي كانت تقف في أكثر مناطق المد والجزر ضحالة، هي دور حضانة يحظى فيها الصغار بالرعاية إلى أن يتمكنوا من الطيران.
وشيئا فشيئا، تعلمنا أن نفهم جانبا من التفكير العجيب لهذه الكائنات الغريبة، والذي كان في نسيجه التفصيلي مختلفا كل الاختلاف عن تفكيرنا، غير أن نمطه ودلالته العامين متشابهان للغاية. المجال لا يسمح، وما ينبغي لي أن أحاول حتى أن أرسم مسودة لما كانت عليه أكثر هذه العوالم تقدما من تعقيد ضخم؛ فلا يزال هناك الكثير مما ينبغي قوله عن أمور أخرى. وسوف أكتفي فقط بأن أذكر أنه نظرا لأن الفردانية في غيوم الطيور هذه كانت أكثر خطورة من الفردانية البشرية، فغالبا ما كانت تفهم على نحو أفضل، ويحكم عليها على نحو عادل. لقد كان الخطر المستمر على غيوم الطيور هو التفكك الجسدي والذهني؛ ومن ثم فقد كان مبدأ الذات المترابطة بارزا للغاية في جميع ثقافات هذه العوالم. وعلى الجانب الآخر، كان الخطر المتمثل في تعرض ذات إحدى غيوم الطيور للغزو والانتهاك الماديين على يد جيرانها، مثلما يحدث حين تتداخل إحدى محطات الراديو مع محطة أخرى، قد أرغم هذه الكائنات على أن تحتاط من غرق الذات الفردية للغيمة وسط حشود الغيوم بأكثر مما كنا نحتاط من إغراءات القطيع. مع ذلك، ولأن هذه السلالة كانت تحتاط جيدا من هذا الخطر، تطور مبدأ المجتمع العالمي دون صراع مصيري مع القبلية الباطنية ، كما حدث معنا في ذلك الصراع الذي نعرفه جيدا في عوالمنا، وإنما كان صراعا بين الفردانية والمبدأين التوءمين المتمثلين في المجتمع العالمي والعقل العالمي.
Bilinmeyen sayfa