سوف أصف مثالا واحدا على هذا النوع من العوالم، وهو أكبر الكواكب التي تدور حول شمس عظيمة. وإذا كنت أتذكر على النحو الصحيح، فقد كان هذا النجم يقع بالقرب من قلب المجرة المكتظ، وقد ولد في مرحلة متأخرة من تاريخ المجرة، وأنتج عددا من الكواكب حين غلفت الحمم المحترقة العديد من النجوم الأقدم بالفعل. وبسبب قوة الإشعاع الشمسي، أصبح (أو سيصبح) المناخ على كواكبه القريبة عاصفا. على أحد هذه الكواكب، اكتسبت أحد الكائنات الشبيهة بالرخويات التي تعيش في المياه الساحلية الضحلة القدرة على الانسياب في صدفتها الشبيهة بالقارب على سطح البحر؛ ومن ثم تبقى على مقربة من النباتات المنجرفة التي تتغذى عليها. وبمرور العصور، تكيفت صدفتها بصورة أفضل مع الملاحة البحرية. ودعمت عملية الانسياب بشكل أولي من الإبحار من خلال غشاء يمتد من ظهر الكائن. وبمرور الوقت، تكاثر هذا النوع من «النوتيات» إلى مجموعة من الأنواع ظل بعضها صغير الحجم، ووجد البعض الآخر في زيادة الحجم أمرا مواتيا وتطور إلى سفن حية. وتسيد أحد هذه الأنواع الذكية ذلك العالم العظيم.
كان الهيكل يتمثل في مركبة انسيابية الشكل تتخذ هيئة سفينة القرن التاسع عشر الشراعية السريعة في أوجها، ويفوق حجمها حجم أكبر الحيتان على كوكبنا. في المؤخرة، كان ثمة مجس أو زعنفة قد تطورت إلى دفة كانت تستخدم أيضا في بعض الأحيان بمثابة مروحة دافعة كذيل السمكة. ولكن بالرغم من أن هذه الأنواع كلها كانت تتمكن من الإبحار بنفسها دون مساعدة بدرجة معينة، فقد كانت وسيلتها المعتادة للتنقل لمسافات بعيدة هي نشر شراعها الكبير. كانت الأغشية البسيطة التي امتلكتها أنواع الأسلاف قد أصبحت جهازا من الأشرعة الشبيهة بالورق والصواري وقوائم الصواري العظمية، وقد كان يخضع للتحكم العضلي الإرادي. وقد زاد من درجة التشابه بين هذا النوع والسفينة، هو العينان اللتان تتجهان إلى الأسفل كل منهما على أحد جانبي مقدم السفينة. وقد كان رأس الصاري الأساسي يحمل عينين هو أيضا من أجل البحث في الأفق. كانت هذه الكائنات تمتلك في دماغها عضوا يتمتع بالحساسية المغناطيسية يوفر لها وسيلة موثوقة للتوجيه. وعلى الطرف الأمامي من المركبة، كان يوجد مجسان طويلان لتناول الأشياء والتحكم فيها، واللذان كانا ينثنيان باسترخاء على الجانبين في أثناء التنقل. أما عند الاستخدام، فقد كانا يشكلان ذراعين نافعين للغاية. قد يبدو من الغريب أن يكون نوع على هذه الشاكلة قد طور مثل هذا الذكاء الإنساني. بالرغم من ذلك، فقد اجتمع عدد من الحوادث في غير واحد من العوالم التي تنتمي إلى هذا النوع لتؤدي إلى هذه النتيجة؛ فقد تسبب التغير من النظام النباتي في الغذاء إلى النظام الحيواني في زيادة دهاء الحيوانات بدرجة كبيرة سعيا للحصول على الكائنات الغائصة الأكثر سرعة. وتطورت حاسة السمع على نحو مذهل مما مكنها من سماع حركة الأسماك التي تقع على مسافات كبيرة بآذانها التي تقع تحت الماء. وعلى طول جانبي قاع السفينة، تطور خط من أعضاء التذوق كان يستجيب إلى تركيب المياه الدائم التغير، ويمكن الصياد من تتبع فريسته. أدت دقة السمع والتذوق مع النظام الغذائي المتنوع الغذاء والتنوع الكبير في السلوكيات والنزعة الاجتماعية القوية إلى تهيئة الظروف لتطور الذكاء.
أما الحديث، تلك الأداة الجوهرية للعقلية المتطورة، فقد اتخذ نمطين مختلفين في هذا العالم. في التواصل القصير المدى، كان ثمة انبعاثات غازية إيقاعية تحت الماء تصدر من فتحة في مؤخرة الكائن تسمع وتحلل من خلال الآذان التي تقع تحت الماء. أما التواصل الطويل المدى، فقد كان يتم من خلال الإشارات البصرية التي كانت تصدر من مجس سريع الحركة يقع في رأس الصاري.
تنظيم رحلات الصيد المشتركة، واختراع المصائد، وصنع الصنارات والشباك، وممارسة الزراعة في البحر وعلى الشواطئ على حد سواء، وبناء الورش والموانئ الحجرية، واستخدام الحرارة البركانية لصهر المعادن، والرياح لتسيير الطواحين، وشق القنوات في الجزر المنخفضة بحثا عن المعادن والأراضي الخصبة، والاستكشاف التدريجي لعالم ضخم ورسم الخرائط له، واستغلال الإشعاع الشمسي في القوة الميكانيكية، كل هذه الإنجازات وغيرها الكثير قد كانت نتيجة للذكاء وفرصة لتطوره في الوقت نفسه.
لقد كانت تجربة غريبة تلك التي تمثلت في الدخول إلى عقل سفينة ذكية ورؤية الزبد يشكل حلقات تحت الأنف بينما تندفع المركبة عبر الأمواج، وتذوق التيارات المرة أو اللذيذة التي تتدفق بجانبي المرء، والشعور بضغط الهواء على الأشرعة بينما المرء يغالب النسيم، وسماع أصوات همهمة أسراب الأسماك البعيدة واندفاعها تحت الماء، وبالطبع سماع صوت تكوين قاع البحر من خلال الأصداء التي كان يبعث بها إلى الآذان تحت المائية. وقد كان من الغريب والمرعب أن يلقى المرء في إعصار ويشعر بالصواري وهي تتعرض للضغط والأشرعة وهي تهدد بالتمزق، بينما تضرب الأمواج الصغيرة الغاضبة لذلك الكوكب الضخم هيكل السفينة. وكان من الغريب أيضا أن يشاهد المرء السفن العظيمة الحية الأخرى وهي تشق طريقها، وتجنح وتعدل أشرعتها ذات اللون الأصفر أو البني المائل إلى الحمرة وفق اختلافات الرياح، ومن الغريب جدا أن يدرك أنها ليست بأشياء من صنع البشر بل كائنات واعية تسعى وراء غاية.
في بعض الأحيان كنا نرى اثنتين من السفن الحية تتقاتلان، وتمزق أشرعة إحداهما الأخرى بمجسات تشبه الثعابين، وتطعن كل منهما «ظهر» الأخرى اللين بسكاكين معدنية، أو تطلق إحداهما النار على الأخرى من مسافة باستخدام المدافع. وقد كان من المربك والمبهج أن يشعر المرء في الحضور الأنثوي لسفينة شراعية سريعة رشيقة التوق إلى الاتصال وأن تقوم معها في عرض البحر، بالانحراف والتمايل، والمطاردة والصيانة، والملامسة الرقيقة الخاطفة للمجسات، وهو ما كان يشكل فعل الحب في هذه السلالة. وكان من الغريب أن يأتي المرء بمحاذاتها، ويجذبها بالقرب منه موثقا إياها إلى جانبه، ويصعد على متنها بأسلوب جنسي. كان من المحبب أيضا أن يرى المرء واحدة من السفن الأم يحيط بها صغارها. ويجب أن أذكر بهذه المناسبة أن الصغار كانوا ينطلقون من أسطح السفينة الأم عند الميلاد على هيئة قوارب صغيرة، أحدها من جانب الميمنة والآخر من جانب الميسرة. وبداية من ذلك الوقت، يرضعان من جانبيها. عند اللعب، يسبح الصغار بجوار الأم كالأفراخ الصغيرة، أو ينشرون أشرعتهم غير الناضجة بعد. وفي حالات الطقس السيئ أو الأسفار الطويلة، تأخذ الأم الصغار على متنها. وفي وقت زيارتنا، كانت الأشرعة الطبيعية قد بدأت تدعم بوحدة للطاقة ومروحة دافعة تثبتان إلى مقدم السفينة. انتشرت المدن الكبيرة من أسطح السفن الصلبة على طول العديد من السواحل، وانتشلت من المناطق النائية. أبهجتنا الطرق المائية الواسعة التي حلت محل الشوارع في هذه المدن. وكانت تكتظ بالملاحة الشراعية والآلية، ويبدو الأطفال فيها كزوارق الصيد والقطر بين الكبار الضخام.
هذا العالم هو الذي اكتشفنا فيه داء اجتماعيا على أكثر الصور فداحة، وقد يكون هو الأكثر انتشارا بين أدواء العالم كلها، وهو انقسام السكان إلى طائفتين لا تفهم إحداهما الأخرى بسبب تأثير القوى الاقتصادية. لقد كان الاختلاف بين البالغين من الطائفتين عظيما للغاية حتى إنهما قد بدوا لنا في البداية نوعين مختلفين، وقد ظننا أننا نشهد انتصار طفرة بيولوجية قوية وجديدة على سابقتها. غير أن ذلك كان بعيدا كل البعد عن الحقيقة.
من الناحية الشكلية، كان الأسياد يختلفون اختلافا كبيرا عن العمال، مثلما تختلف ملكات النمل وذكوره عن الشغالات في نوعيهما. كان شكلهم الانسيابي أكثر أناقة ودقة. وكانوا يتمتعون بامتداد أكبر للشراع، وبسرعة أكبر في الطقس الجيد. أما في البحار الهائجة، فقد كانوا أقل قدرة على الإبحار نظرا لهيئتهم الممشوقة، غير أنهم كانوا أكثر براعة وشجاعة في الملاحة. كانت مجساتهم التناولية أقل في الكتلة العضلية لكنها أقدر على القيام بتعديلات أدق، وكانت حواسهم أكثر رهافة. وبالرغم من أن قلة منهم فقط هي التي ربما تكون قد تفوقت على أفضل العمال في التحمل والشجاعة، فإن الغالبية العظمى منهم كانت أقل جلدا من الناحيتين الجسدية والذهنية، وكانت عرضة لعدد من الأمراض التحللية التي لم تكن تؤثر أبدا في العمال، وهي أمراض تصيب الجهاز العصبي بصفة أساسية. وعلى الجانب الآخر، إذا أصيب أي منهم بأحد الأمراض المعدية المتوطنة في العمال لكنها نادرا ما كانت تؤدي إلى الوفاة فيهم، فقد كانت تقتله على نحو شبه مؤكد. وقد كانت هذه الطائفة أيضا أكثر عرضة للاضطرابات الذهنية لا سيما المتعلقة منها بأهمية الذات العصابية. لقد كان تنظيم العالم بأكمله والتحكم فيه من مسئولياتهم. أما العمال، فبالرغم من أنهم كانوا يعانون من الأمراض والاضطرابات العصابية التي تولدت من بيئتهم المزدحمة، فقد كانوا في المجمل أكثر قوة على الجانب النفسي. غير أنهم كانوا يعانون من إحساس شديد الوطأة بالدونية. وبالرغم من أنهم كانوا يبدون الذكاء والمهارة في القيام بالحرف اليدوية والمهام الصغيرة النطاق جميعها، فقد كانوا عرضة للإصابة بشلل ذهني غريب حينما تواجههم مهام ذات نطاق أوسع.
لقد كانت العقلية التي تتمتع بها كل من الطائفتين تختلف عن الأخرى اختلافا صارخا. كان الأسياد أكثر نزوعا إلى المبادرة الفردية ورذائل الأثرة. أما العمال فقد كانوا أكثر إدمانا للعقلية الجمعية ورذائل الانصياع إلى التأثير المنوم للقطيع. لقد كان الأسياد في المجمل أكثر حكمة وتبصرا واستقلالا واعتمادا على الذات، بينما كان العمال أكثر اندفاعا وأكثر استعدادا للتضحية بأنفسهم في سبيل قضية اجتماعية، وغالبا ما يكونون أكثر وعيا بالأهداف الصائبة للنشاط الاجتماعي، كما أنهم كانوا يتصرفون تجاه الأفراد الذين يعانون من الشدائد بسخاء منقطع النظير.
في وقت زيارتنا، كانت بعض الاكتشافات الحديثة تلقي بالعالم إلى البلبلة. فحتى ذلك الوقت، كان الاعتقاد السائد أن الطبيعة المختلفة لكل من الطائفتين ثابتة لا تقبل التغيير وفقا للقانون الإلهي وقوانين الوراثة البيولوجية. بالرغم من ذلك، فقد ثبت الآن أن الأمر ليس كذلك، وأن السبب في الاختلافات الجسدية والذهنية بين الطائفتين يعود بالكامل إلى التنشئة. فمنذ زمن سحيق والطائفتان تنشآن بطريقة غريبة للغاية. بعد الفطام، يصبح الأطفال الذين قد ولدوا من جانب الميسرة في الأم، بصرف النظر عن طائفة أبويهم، من طائفة الأسياد، أما الذين ولدوا من جانب الميمنة، فهم يتلقون التربية ليصبحوا من طائفة العمال. ولأن طائفة الأسياد لا بد أن تكون بالطبع أصغر كثيرا من طائفة العمال، فقد وفر هذا النظام عددا غزيرا للغاية من الأسياد المحتملين. وقد تم التغلب على هذه المشكلة على النحو التالي. كان الأطفال المولودون من جانب الميمنة لوالدين من العمال وهؤلاء الذين من جانب الميسرة لوالدين من الأسياد، يتلقون التربية على يد والديهم، أما الأطفال المولودون من جانب الميسرة، والذين قد يكونون في المستقبل أبناء أرستقراطيين لوالدين من العمال، فقد كان يجري التخلص منهم في معظم الأحوال من خلال طقس للتضحية بالأطفال. وقلة منهم فقط هي التي كانت يستبدل بها أطفال الميمنة لوالدين من الأسياد.
Bilinmeyen sayfa