Kara Delik Yılları

Hüseyin Mihran d. 1450 AH
37

Kara Delik Yılları

سنوات الثقب الأسود

Türler

أجابها بهدوء تعود عليه من كثرة ما تعرض لذلك النوع من الأسئلة السخيفة في هذه البلد: كلا يا سيدة ويلموت. أنا من مصر، والعربية هي لغتي الأم.

زادت حدة تعبير الاندهاش على وجه المرأة أكثر وأكثر، وبدت عليها الحيرة وهي تجيب فيما يشبه الاعتذار: أوه! ظننت أن مصر تنتمي إلى أفريقيا، كنت أعتقد أنهم يتحدثون اللغة الأفريقية هناك. أليس من يتحدثون العربية هم سكان الشرق الأوسط؟ اعذرني فلا أعرف الكثير عن هذا الجانب من العالم، لم أسافر خارج أمريكا الشمالية إلا إلى البرازيل، وبعض بلدان أوروبا فقط.

لم يرد أن يخوض في هذا الحديث العبثي لأكثر من ذلك فاعتذر لها بأن عليه الانتهاء من ترتيب أغراضه قبل استراحة الغداء، شكرها على التهنئة وتمنى لها الحصول على ترقية مماثلة في أقرب فرصة، استمر في وضع تذكاراته على سطح المكتب، وضع دلة قهوة نحاسية صغيرة تذكره بالسنوات التي قضاها في جدة، ثم وضع مجسما فضيا لبرج العرب يذكره بالفترة التي عاشها في دبي، ثم اختتم مجموعته الصغيرة بنسخة مصغرة من قناع توت عنخ آمون الذهبي، كان قد اشتراها من خان الخليلي صباح يوم مغادرته لمصر قبل ثمانية عشر عاما. •••

عندما وطئت قدماه للمرة الأولى أرض هذه البلاد؛ أدرك مدى اتساع الهوة بينها وبين أي مكان أقام فيه من قبل، هذه بلاد باردة، لا يمكنك أن تخطئ ذلك الانطباع الطاغي منذ اللحظة الأولى، ليست باردة الطقس وحسب، ولكن باردة القلب كذلك، باردة الأسطح والأرضيات والجدران. ربما كان أقرب مثال جعله يدرك طبيعة هذا البلد هو ذلك الهايبر ماركت الشهير ذو الفروع الكثيرة متطابقة الحجم والتصميم، والمنتشرة على أطراف كل المدن في كل المقاطعات، ذلك الفراغ الضخم ذو الممرات العريضة وصفوف الأرفف المعدنية الشاهقة، كل شيء هنا أملس تماما وبارد تماما، الإضاءة بيضاء وساطعة ومحايدة، مجرد بحر من النور الأبيض يغمر كل شيء بالتساوي وكأنه لا شيء هنا متميز عن غيره. هذا المكان المتوحش مصمم بعناية لكي يشعرك بأن كل شيء بداخله في متناول يدك؛ كل البضائع أمامك، كل الخيارات الممكنة، فلتختر ما تريد، ولتدفع ما في بطاقتك الائتمانية من رصيد ولتذهب في هدوء، فلا وقت لدينا هنا لتدليلك بأرضية أنيقة أو جدران ذات ملمس خشبي دافئ، أو حتى بإضاءة أكثر حميمية. إذا أردت بعض التدليل يا صديقي فلتذهب لتنفق المال في متجر فاخر ذي شريحة عالية من الأسعار.

منذ الأسبوع الأول له في هذه المدينة عرف أن سبعة آلاف سنة من الحضارة لن تغني عنه شيئا، وأن كل مخزونه من أغاني الفخر الوطني عن «أول نور في الدنيا شق ظلام الليل»، وعن «ولا شاف النيل في أحضان الشجر، ولا سمع مواويل في ليالي القمر» لن تغير قيد أنملة من حقيقة أنه هنا مجرد مهاجر شرق أوسطي آخر. لا مجال هنا للتفاخر ببطولات أجدادنا في قادش وحطين وعين جالوت وقونية، ولا بما فعله بواسلنا بالسفينتين بيت شيفع وبات يم على رصيف ميناء إيلات الحربي. هذه بلاد باردة لم تسهر أمام أفلام القناة الأولى في ذكرى ثورة يوليو، ولم تنصت لأغنيات مطرباتنا الشهيرات في حفلات أضواء المدينة، هذه بلاد باردة لم ترقص في الشوارع ابتهاجا بالفوز على الكاميرون في بطولة أفريقية، أو تحية لزعيم خالد يطوف الشوارع بصحبة زعيم شقيق - خالد كذلك - ملوحين بكفيهما للحشود المصطفة على الجانبين من المقعد الخلفي لسيارة أمريكية مكشوفة، هذه بلاد باردة بلا تاريخ، أقدم شيء هنا لا يتعدى عمره المائة عام، وكل شيء هنا يبدأ من الصفر؛ بدءا بدرجة الحرارة على مقياس فهرنهايت، وحتى التراث والرياضة والفنون والعادات والتقاليد. عليك أن تخلع ثقافتك وماضيك وذاكرتك على بوابة القادمين في مطارها الدولي كما تخلع نعليك عند الوادي المقدس، فهنا ستقابل إله الحضارة الغربية، وعلى هذه الأرض الموعودة سينعم عليك بحياة جديدة منزوعة الدسم، وخالية من السكريات والدهون، حياة غربية على طراز العالم المتحضر، تنسيك ما عرفته من حياة بائسة في ذلك الجانب المظلم من العالم الذي أتيت منه، ذلك الجانب الغامض المبهم من الكرة الأرضية، حيث ما زال البدائيون يمتطون ظهور البعير، ويتعاطون الخرافات، ويقضون نهاراتهم في مطاردة قطعان الأغنام الشاردة وسط كثبان رمال الصحاري.

لم يستطع قط التأقلم مع برودة هذه البلاد، حتى بعدما امتد مقامه بها لسنوات، لطالما كان يشتاق إلى الشتاء أثناء سنوات تنقله بين مدن الخليج العربي الحارة، لكنه كان يشتاق إلى ما عرفه من شتاء في الإسكندرية، إلى ذلك الشتاء الحميم ذي الصباحات المشمسة المنعشة التي تتخللها بضع نوات ممطرة، لم يعرف معنى الشتاء إلا بعد أن جاء إلى هنا، أذهله مشهد تساقط الثلوج حين رآه للمرة الأولى، ابتهج كثيرا وخرج لتجربة هذا المشهد على الطبيعة والتقاط بعض الصور، لكن ابتهاجه كان أقل في المرة التالية، وظلت فرحته بالثلوج تخبو حتى صار بالنسبة له حدثا روتينيا يعيقه عن ممارسة حياته، ويصعب عليه الانتقال إلى عمله وممارسة رياضته اليومية، صار مشهد الثلج المتساقط بلا انقطاع لأيام متتالية، والصقيع المتراكم على فروع الأشجار العارية، وعلى أسطح البيوت والسيارات، وعلى نجيل حديقته الخلفية الصغيرة يصيبه بالكآبة، لم يعتد أبدا على تلك البرودة الباطشة التي تكاد تجمد أهداب العين إن لم تحركها باستمرار، ليس هذا هو الشتاء الذي كان يشتاق إليه، لكن لكل شيء هنا تعريف مختلف.

عرف أنه سيحتاج إلى أن ينسى كل ما تعلمه في مصر، وكل ما اكتسبه من خبرات في مشواره الوظيفي الذي تدرج فيه بين الشركات في مصر ثم السعودية ثم الإمارات؛ لكي يستطيع أن يتكيف مع عقلية أمريكا الشمالية، ومع نموذجها وقواعدها وأصول العمل بها، لن تغني عنك أكثر من خمسة عشر عاما من الخبرة خارج هذه القارة، فطالما لم تمتلك بعد ما يكفي من الخبرة الكندية؛ فليست ثمة قيمة تذكر لكل تلك الشهادات والخبرات والمؤهلات التي اعتمدتها الحكومة الكندية ذاتها، واعترفت بها ومنحتك بموجبها تأشيرة الهجرة إلى هنا. لتجلس إذن لتتعلم من جديد في مقاعد المتدربين، ولتقبل بتقاضي أجر زهيد، ولتتعلم ممن سبقوك في الوصول إلى هذه القارة - وإن كانوا أصغر منك سنا وأقل كفاءة - حتى يمكنك أن تجد لنفسك بعد سنوات تالية من الكفاح مكتبا مستقلا ذا جدارين قصيرين وسط المديرين والتنفيذيين في الجانب الأيمن من الصالة الكبيرة.

يناير 2015م

على مقعده بجوار النافذة في قطار الضواحي العائد به من عمله بوسط المدينة، إلى منزله على طراز المنازل الكندية التقليدية ذات الطابقين والحديقة الخلفية والسقف المائل، في ضاحية أوك فيل الهادئة على ضفاف بحيرة أونتاريو، والذي اشتراه بقرض بنكي يسدد أقساطه شهريا لمدة عشرين عاما، بينما كان عائدا في رحلته اليومية المعتادة جلس ياسين متأملا كل تلك السنوات، تتداعى على رأسه الذي خطه الشيب بقسوة أطياف الماضي ونسائم الأحلام القديمة، يسرح ببصره طويلا خارج نافذة القطار حيث غطت الثلوج كل شيء؛ الحقول والبيوت والسيارات، لم تظهر الشمس في السماء منذ أشهر، ولم تزل أعمدة الكهرباء اللعينة تتكرر رتيبة مملة لا نهائية، يا الله! كل تلك السنوات! متى ينتهي ذلك التكرار اللعين؟ ماذا أفعل هنا؟ ثم ماذا بعد؟ تخطر بباله تساؤلات وجودية عن ماهية الحياة؛ لماذا على المرء أن يتعايش مع هذه المعاناة التي لا نهاية لها؟ لماذا عليه دائما أن ينتظر؟ ينتظر نهاية الشهر ليحصل على راتبه ثم يبدأ الانتظار للراتب التالي، ينتظر نهاية أقساط السيارة ليبدأ أقساط سيارة جديدة، ينتظر مرور تلك الفترة الصعبة ليجد نفسه في فترة صعبة أخرى، ينتهي من مهمة ليفكر في مهمة جديدة، اكتشف أنه أصبح في حالة انتظار دائم لا يدري له نهاية، رغم أن أشد ما يكره في هذا العالم هو الانتظار. •••

دق جرس هاتفه المحمول وظهر على شاشته وجه زوجته بابتسامتها الهادئة، أجابها ودار بينهما حديث روتيني عن طلبات للبيت، عليه أن يمر بمحل البقالة ليشتريها في طريق سيره القصير من محطة القطار إلى البيت، ينهيان المكالمة بتحيتهما المعتادة، يضع الهاتف في جيب معطفه ثم يفكر بامرأته التي شاركته ذلك العمر، يخطر بباله سؤال بدا له فجأة أنه ينتبه إليه لأول مرة؛ هل يحبها؟ لقد كان زواجهما تقليديا عن طريق بعض المعارف المشتركين، قابلها في مناسبة عائلية أثناء إجازة له خلال عمله بالسعودية، وجد شخصيتها مناسبة له وارتاح إليها بعد عدة لقاءات، تقاربا وشعرا بالتفاهم بينهما؛ فخطبها ثم عقد القران وتم الزفاف في الإجازة التالية، تنقلت معه من بلد لآخر وكانت دائما سندا له، لم تعد علاقته بها بعد كل تلك السنوات مجرد حب، لا يمكن تقييم ذلك بتلك البساطة، كانت قد غدت منذ زمن لا يدرك قدره جزءا أساسيا من حياته، من تفاصيل يومه، غدت جزءا منه هو ذاته بحيث لا يمكنه تخيل نفسه بدون وجودها، لا يذكر كيف كانت حياته قبل أن يعرفها، كانت حاضرة في كل تفاصيله وذاكرته، كانت تبدو كخلفية ثابتة في شريط ذكرياته، يكاد هو وهي يكونان شخصا واحدا، كيانا مفردا لا يتجزأ، كل ما حولهما صنعاه معا؛ البيت والأبناء والشخصية والثقافة والذكريات، بل والأحزان كذلك، كل تلك التحديات التي واجهاها معا. بعد كل هذا العمر لا يمكنه الحديث عن الحب بسذاجة المراهقين وحديثي العهد بالعلاقات الإنسانية، لا يمكنك اختصار حياة كاملة بكل ما فيها من ضجيج ومعاناة وبهجة وألم ونشوة في مصطلحات لا تكاد تعني شيئا أمام كل ذلك الصخب، هي أشياء لا يمكنك إحاطتها بسياج الألفاظ. •••

Bilinmeyen sayfa