Tahran Tutsağı
سجينة طهران: قصة نجاة امرأة داخل أحد السجون الإيرانية
Türler
كانت الرحلة من طهران إلى المنزل الصيفي تستغرق نحو خمس ساعات بالسيارة. كنا نتجه غربا ونواصل سيرنا في الأراضي المنبسطة حتى نصل إلى مدينة قزوين، ثم ينعطف الطريق نحو الشمال باتجاه جبال «ألبرز» التي تبدو سدا منيعا يفصل بين صحاري وسط إيران وبحر قزوين. كنا نمر بأنفاق وممرات ضيقة شديدة الانحدار ومنعطفات مقفرة يتخذها الطريق عبر سلسلة الجبال متبعا وادي «النهر الأبيض»، حيث تغطي الغابات الكثيفة التلال، وتهب الرياح حاملة شذا حقول الأرز.
كان سور معدني شفاف مدهون باللون الأزرق السماوي ويفوق طوله طول أخي يحيط بمنزلنا. وعند وصولنا كان أبي يوقف سيارتنا الزرقاء من طراز أولدزموبيل عند البوابة، وأخرج من السيارة وأفتح البوابة كي تمر السيارة. كان الممر الطويل غير المرصوف يمتد نحو المنزل الصيفي ويختفي خلف أشجار القيقب والصنوبر والحور والتوت، وتحت قدمي يبرز الحصى الملون من بين الثرى ويلمع في ضوء الشمس الذي يخترق الغطاء الكثيف من الأشجار. يؤدي الممر إلى فتحة تبدو ساطعة الإضاءة دقيقة، ثم يظهر فجأة الدرج الحجري الأبيض المؤدي إلى المنزل.
كان المنزل دوما يستقبلنا برائحة رطبة مألوفة ملأت الهواء الراكد في المكان خلال أشهر غيابنا. كانت هناك سجادة باللون الأخضر الداكن تغطي الأرض، وقبل دخولنا المنزل، تأمرنا أمي بخلع أحذيتنا وتنظيف أقدامنا حتى لا نجلب الرمال معنا إلى الداخل. أثث والداي غرفة المعيشة الصغيرة بطاقم حديدي اشترياه من مزاد متنقل. كان مطليا باللون الأبيض، وبه وسادات أرجوانية مخملية ومائدة ذات سطح زجاجي، أما عن غرف النوم فكانت غاية في البساطة، فلم تكن تحتوي إلا على أسرة عادية وخزانات خشبية قديمة، والستائر المعلقة في النافذة مصنوعة من القماش المزين بالورود الزاهية الألوان. وعندما أخلد للنوم ليلا كنت غالبا أترك النوافذ الثلاث في غرفتي مفتوحة كي تتسلل منها صيحات الديوك في الصباح. وعندما تمطر السماء يصيح البط ويلعب في البرك الموحلة، ويفوح عبق أشجار الليمون البرية من أوراقها السميكة.
كان هناك مكان خاص في المنزل الصيفي أتلو فيه الصلاة كل صباح كما علمتني جدتي. من مسافة يبدو ذلك المكان صخرة ضخمة مكسوة بالطحالب، ولكن كلما اقتربت منها تبينت أنها تتكون من العديد من الأحجار الصغيرة. بلغ ارتفاع الصخرة نحو متر، وعرضها نحو مترين، وبها قضبان معدني سميك صدئ يبرز من أحد جوانبها. تعود تلك الصخرة إلى العصور القديمة، عندما كان البحر يغطي معظم الأرض، وكانت ذات يوم مكانا يربط فيه الصيادون زوارقهم، وبدت لي غريبة الشكل وفي غير موضعها عندما اكتشفتها في ركن مهمل من المكان. كنت أحب أن أقف عليها وأفتح ذراعي للنسيم العليل وأغلق عيني، وأتخيل أن البحر يحيط بي، وسطحه الشفاف يضطرم بالحياة ويمور محولا أشعة الشمس إلى سائل ذهبي ينسل نحو الشاطئ، حيث تبدو التلال الرملية كبثرات على الأرض الساخنة. أطلقت على هذا الأثر الغريب اسم «صخرة الصلاة».
كنت عادة أستيقظ مع شروق الشمس وأتجول بالخارج. نهر من الضباب يتدفق بين الأشجار ويرتفع فوق العشب الطويل ويغطي ساقي. عندما أصل إلى «صخرة الصلاة» يبدو وكأن الشمس أطلقت أنفاسها في الضباب فأكسبته اللون الوردي. كان السطح العلوي للصخرة جزيرة تستقر فوق بحر براق. كنت أرقد على الصخرة وأدع أشعة الشمس تغطي جسدي وتشعرني بالخفة؛ كأني مخلوقة من ضباب وضوء.
كل صيف أقضي أنا وأمي نحو شهرين في المنزل الصيفي، لكن لم يكن باستطاعة أبي الحصول على إجازة طويلة كهذه من العمل، فلم يكن يقضي معنا سوى أسبوعين فقط، ثم يزورنا في عطلة نهاية الأسبوع. ولعدة أعوام ظللت أقضي أيامي في المنزل الصيفي ما بين ركوب الدراجة، وبناء قصور من الرمال، والسباحة، ومطاردة البط، واللعب مع الأطفال الذين يسكنون المكان. كنت أفعل ما يحلو لي بحرية طوال النهار، ولم أكن أعود إلى المنزل إلا لتناول العشاء والنوم. وبمرور الأعوام كبرت، وظلت أيامي الصيفية كما هي، فيما عدا أن مغامراتي اليومية قد اتسع نطاقها وأخذت تبعدني عن المنزل أكثر؛ ففي سن الثانية عشرة كنت أقضي نصف النهار أستكشف المدينة على ظهر الدراجة. كنت أسلك الشوارع القديمة الضيقة التي تصطف على جانبيها المنازل البيضاء الصغيرة في طريقي إلى السوق. كان كعك الأرز والكعك المحشو بالجوز المفروم والسكر يقيم صلبي في الأيام العديدة التي أفوت فيها وجبة الغداء. كانت أسواق السمك تغص بأصوات الباعة المرتفعة ورائحة السمك النفاذة وعبق الأعشاب الطازجة.
من بين أماكني المفضلة ذلك الجسر الذي يصل بين جانبي الميناء. كنت أقف على الجسر، وأشاهد القوارب والسفن وهي تعبر المياه، والمياه الزرقاء تمتد نحو الأفق، والسفن الضخمة تشق سطح المياه مخلفة وراءها الزبد الأبيض، بينما الهواء المشبع بالمياه المالحة يملأ رئتي. كنت أحب الضباب على وجه التحديد، فهو يضفي هيئة حالمة غير حقيقية على الميناء. عندما يكون الضباب كثيفا يمنعني من الرؤية، كنت أسمع صوت مجاديف الزوارق وهي تشق عباب المياه، ثم يظهر الزورق نفسه كأنه وجد من العدم.
عندما كنت في سن العاشرة من العمر اشترت خالتي زينيا منزلا صيفيا يبعد نحو أربعة أميال عن غازيان، ويقع في منطقة سكنية حديثة مجهزة بملاعب التنس وكرة السلة، والمطاعم، وحمامات السباحة. كانت المنازل باهظة الثمن محاطة بحدائق خلابة وأسوار معدنية بيضاء يبلغ ارتفاعها الخصر، تلمع بطلاء حديث الدهان، والأطفال يركبون دراجاتهم في شوارع نظيفة.
لم تكن خالتي زينيا تشبه أحدا من عائلتنا، فهي شقراء ذات عينين زرقاوين، وكل ما لديها كان كبيرا؛ فلديها منزل كبير في طهران، وسيارة كبيرة، بل وسائق كبير أيضا. كان زوجها الذي توفي في حادث سيارة بعد وفاة جدتي بعامين يملك مصنعا للحوم المصنعة في مدينة «رشت» التي تبعد اثنين وعشرين ميلا عن منزلنا، وبعد وفاته تولت خالتي إدارة شئون العمل، وقامت بها على خير وجه. كانت ابنتها التي تدعى مارينا أيضا، ويناديها الجميع باسم ماري، أثيرة عند أمي. كانت تكبرني بعشرين عاما، وكانت ضئيلة الحجم، يبدو عليها التوتر دائما عند وجود أمها بالقرب منها. كانتا عنيدتين صعبتي المراس، تتشاجران باستمرار على كل شيء.
عام 1978 وعندما كنت في الثالثة عشرة، قضت ماري وزوجها فترة الصيف بأكملها في منزل خالتي الصيفي، وكنت أنا وأمي نزورهما كل يوم تقريبا. لم تكن خالتي زينيا تمكث في المنزل إلا لماما، وكانت تقضي معظم وقتها إما في المصنع، حيث أعدت مكانا صغيرا مريحا للسكن، أو في منزلها بطهران.
Bilinmeyen sayfa