فإن جاهرت الأمة بالدعوة للأمير فيصل فما ذلك إلا لأنها تراه جامعا للصفات المذكورة، وتعترف بما سبق له على الأمة العربية من الأيادي الطائلة بالذب عن حريمها والذود عن حياتها، وشهره السيف للمطالبة بحقوقها وإحياء مجدها القديم، عدا ما اكتسبه من التجارب السياسية في طول احتكاكه بساسة الغرب، وما حصل عليه من المكانة الرفيعة عند أهل الحل والعقد.
ثم انثنى صاحب «الفلاح» إلى نزعته العلمية فقال:
غير أن الفلاح ليست جريدة سياسية محضة، بل لها فوق غايتها السياسية أغراض عالية علمية، ترمي إليها، ومقاصد شريفة أدبية تسعى نحوها ... إلخ.
وفعلا كانت هذه الجريدة على صغر حجمها حافلة بالبحوث الثقافية والفوائد، وتفننت في نشر شذراتها العلمية في جوانب من العدد وبطريقة متسلسلة محكمة الطبع، بحيث يستطيع القارئ أن يقتطعها ويجعل منها كتيبا كلما أنجز مبحث خاص منها، كما تناولت الصحيفة من أول عهدها موضوع البعثات العلمية وتأسيس مجمع علمي في العراق وغيرها من الأبحاث الفنية والعلمية، وحفلت أعدادها بأخبار مقدم الأمير فيصل ووصف مهرجانات استقباله وحفلات تكريمه ومجالس مبايعته بالملك، مثبتة خطبه وأقواله في هذه المواقف.
ولم تستطع بوسائلها الطباعية أن تظهر يوميا، بل ثلاث مرات في الأسبوع، ولم تكن واسعة الانتشار، إنما امتازت فوق عنايتها بشئون الثقافة عامة بنزاهة الكتابة وعفة القلم، منعكسة عليها أخلاق صاحبها الرفيعة، فما كتبت كلمة نابية أو تعبيرا قارصا، ولم تعمر طويلا؛ إذ نشر آخر عدد منها في 22 كانون الثاني (يناير) سنة 1922، مع أن مؤسسها أعد لها مطبعة خاصة، ولكنه كف عن إصدارها فوظف مديرا للشرطة، ثم اشتغل بتدريس التاريخ في بعض المعاهد العالية، وألف كتبا في موضوعات دروسه، وانتخب نائبا في المجلس النيابي، وكتب في حياته البرلمانية مقالات تربوية في جريدة حزبه، بينما أشرف على سير الجريدة وطبعها.
جريدة لسان العرب
أما «لسان العرب» فجريدة «إبراهيم حلمي العمر» الذي ورد ذكره مرات في هذه المحاضرات، فعندما سقطت دمشق بأيدي الجيش العربي في الحرب العالمية كان يحرر في جريدة «الشرق» كما ذكرنا، فأصدر في عهد سورية الفيصلي جريدة بدمشق باسم «لسان العرب» سنة 1918. وقد شاركه في أشغاله الصحافية فترة خير الدين الزركلي، فلما تبدلت الحال في العراق نقل «لسان العرب» إلى بغداد حتى إنه في أول الأمر جعل عددها متسلسلا مع تلك 401، كما حسب سنتها (الرابعة)، ولكنه عاد في العدد الخامس فجعل رقمها وسنتها جديدين، ومع أن لسان إبراهيم حلمي هذا في دمشق بعد أن حطمت قوة الاستعمار الغادر العرش الفيصلي قد انطلق بما لا يرضي العرب، نراه أقبل إلى بلده يساهم في التمهيد لوضع التاج العراقي على مفرق فيصل الهاشمي، وكتب في رأس «لسان العرب» الذي ظهر في 23 حزيران (يونيو) سنة 1921 أنها «جريدة يومية سياسية حرة»، واتخذ لها بعد ذلك شعارا في صدرها، غايتها خدمة الأمة العربية، وها أنني أورد فقرات من خطته السياسية التي أعلنها، ومنها تدركون الطرق المتمعجة التي سلكها الكاتب قال:
إن الخطة التي تجري عليها هذه الصحيفة هي الخطة التي نشأنا عليها وأيدناها، وهي الخطة العربية المثلى بخدمة العرب عامة والعراق خاصة، على أن الناس يجب ألا ينتظروا منا الميل إلى حزب والانحياز إلى فريق، إن جريدتنا عامة شعبية، لا تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا عن حزب تنتسب إليه، بل هي حقل لآراء أبناء الأمة.
وفي العدد الأول مقال عن الأمير فيصل بمناسبة وصوله البصرة، والمقالات الافتتاحية في «لسان العرب» مكتوبة بأسلوب كتابي بارع عز نظيره في صحف العراق عهدئذ، لمران منشئها وكفاءته الكتابية. أما بقية مواد كل عدد فليست ذات شأن في الفن الصحفي.
ونشأ صاحب الجريدة منذ العدد الثالث يتحدث عن «الصحافة البائسة» والسبب الذي حدا به إلى جعل ثمن النسخة من جريدته آنتين - وكانت العملة الهندية هي المتداولة في العراق - بينما تباع الصحف الأخرى بآنة واحدة، وتطرق إلى سخاء كرام الوطن وجودهم في مؤازرة المشاريع الوطنية.
Bilinmeyen sayfa