من هدي الرسول ﷺ المسمى سفر السعادة
تأليف
العلامة الشيخ
أبي طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي
(المتوفى سنة ٨١٦ هـ)
ضبط وتحقيق
الدكتور: أحمد عبد الرحيم السايح
الدكتور: عمر يوسف حمزة
Bilinmeyen sayfa
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
مركز الكتاب للنشر
مصر الجديدة: ٢١ شارع الخليفة المأمون - القاهرة
ت: ٢٩٠٨٢٠٣ - ٢٩٠٦٢٥٠ - فاكس: ٢٩٠٦٢٥٠
مدينة نصر: ٧١ شارع ابن النفيس - المنطقة السادسة - ت: ٢٧٢٣٣٩٨
1 / 2
المقدمة
الحمد لله رب العالمين. الذي هدى السالكين طريق الحق إلى اليقين، وفتح أمام عباده أبواب الرحمة، ووهب الإنسان ما به أشرقت على النفس أسرار الوجودات.
والصلاة والسلام على محمد رسول الله المبعوث رحمة للعالين، وهداية للناس أجمعين. قدوة أهل الحق، والباحثين عن اليقين.
أما بعد
فإن من شأن النابهين، والباحثين عن العلوم، والدارسين للذخائر الإسلامية، وما تركه العلماء المسلمون، وأئمة الهدى. أن يقفوا على هذه الأعمال، التى عمرت بها قلوب، وجاهدت في سبيلها نفوس.
وإن الأمة الإسلامية، وهى تتطلع إلى مجد مشرق - إن شاء الله - لابد وأن تخطو وهي على بصيرة من أمرها. فتنظر إلى ما خلفه الأسلاف، من تراث منير. في ذكر حال رسول الله ﷺ قبل نزول الوحي، وبعد نزوله: من عبادة، ومعاملة، ومعالجة أمراض القلوب، ومداواة الأجسام.
لقد أضاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كل الجوانب، بسلوكه، وخلقه، وعمله، وتوجيهاته. لأنه قدوة أهل الحق. قال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾ [الأحزاب: ٢١].
ولهذا انطلق العلماء، وأئمة الخير، يبحثون في سيرة النبي ﷺ وشمائله وأحواله، ويؤلفون فيها المصنفات الشامخة. لتكون العلامات الضيئة في الطريق.
1 / 3
وأمة تملك هذا الرصيد الضخم، من سيطرة الرسول ﷺ وسلوكه، وأحواله، وعمله .. لابد وأن تعود إلى رشدها، ورشادها. عندما تتحسس طريق الرسول، وتسترشد فيه الرشاد والحكمة.
ويعلم الله ﷾ أنما الأمة الإسلامية - وقد تكالبت عليها قوى مسعورة - في أشد الحاجة، إلى أن تعود إلى سيرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.
فكان لابد من مطالعة السيرة، في أصولها التي تفيض بالعطاء والتجديد، وتأخذ بنا إلى طريق النجاة والفلاح.
إننا مطالبون بأن نقتدي برسول الله ﷺ، لنتمكن من جني ثمار هذا الاقتداء، الذي يأخذ بالمسلمين إلى الجد الذي نحن في أشد الحاجة إليه.
ولا يخفى أن الانتكاسات التي أصابت المجتمعات الإسلامية، ما كانت إلا نتيجة حتمية، لابتعاد المجتمعات، عن السلوك العملي، الذي كان عليه الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.
وإن أمة تخطو على مجد مشرقي، لابد وأن تعود إلى سيرة رسولها، تلتقط منها ما يناسبها لتعيش حركة حية، ووعيًا تامًا.
وإن الصحوة العملية التي تنتشر في المجتمعات الإسلامية، لابد وأن يصاحبها وعي، بحركة الرسول ﷺ، حتى لا تتعرض هذه الصحوة لهزات الأعداء والعملاء، الذين يتربصون لكل عمل إسلامي، يأخذ بالمسلمين إلى طريق الوحدة والتضامن والأخوة.
حقا: إن كتاب: (سفر السعادة) للعلامة: الفيروزابادي، من الكتب النافعة المفيدة، والتي نحن في أشد الحاجة إلى التداوي بها، والاطلاع عليها.
1 / 4
لقد دفع بنا إلى تحقيق هذا الكتاب القيم، ما رأيناه من حاجة المجتمعات الإسلامية، إلى رؤية هذا النبراس المضئ، الذي يحمل مشاعل النصر، والسداد لمن أراد النصر والسداد.
لقد اطلعنا على مخطوطات الكتاب، لنعود إلى الأصول الأصلية، وكان لهذا فائدته في تصحيح الكثير من العبارات.
وعملنا قدر الإمكان، على تخريج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وهذا كله اقتضى جهدا، ومعايشة تامة، لأمهات كتب التفسير، والأحاديث النبوية، والمعاجم اللغوية.
ولا يخفى: أن الرحلة التي قضيناها، في تحقيق كتاب "سفر السعادة" كانت وبحمد الله تعالى رحلة علمية رائعة، رغم ما لقينا فيها من صبر، وجهد.
وإن المرء الذي يقلب بطون أمهات الكتب، باحثًا، ودارسًا، يجد نفسه في قمة السعادة، لأنه يعثر على كنوز دفينة، من حقها أن تبرز إلى القارئين، والدارسين، والباحثين. ليفيدوا منها فيما يقولون، ويتناولون.
ومن شأن الأمة الإسلامية، وهي تتطلع إلى حضارة تربط بين ماض أصيل، وحاضر يحتاج إلى جهود. أن تعرف هذه الكتب الراسخة.
نسأل الله ﷿ أن ينفع به. وهو ولي التوفيق
الدكتور/ أحمد عبد الرحيم السايح
الدكتور/ عمر يوسف حمزة
1 / 5
الفيروزآبادي
الفيروزآبادي، مؤلف كتاب (سفر السعادة) علم من الأعلام المشهورين، الذين ظهروا في أوائل القرن الثامن الهجرى. في وقت كانت الحاجة إليهم ماسة. وهو الإمام الشيخ: أبو طاهر محمد، بن يعقوب، بن إبراهيم، بن عمر، بن أبي بكر، بن محمود، بن إدريس، بن فضل الله، بن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي، بن يوسف قاضي القضاة مجد الدين الصديقي الفيروزآبادي الشيرازي، اللغوي.
قال الحافظ ابن حجر: (وكان يرفع نسبة إلى أبي بكر الصديق ﵁، ولم يكن مرفوعًا فيما قاله ....).
ولد الفيروزآبادي (بكارزين) سنة ٧٢٩ من هجرة الرسول ﷺ ونشأ بكارزين. وفيها حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين. وكان - كما يحكى عنه -: سريع الحفظ. ويروى أنه قال: (لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر).
وانتقل من (كارزين) إلى (شيراز) وهو ابن ثمان سنين، وأخذ العلم عن والده، وعن العلامة عبد الله بن محمود، وغيرهما من علماء (شيراز) وانتقل إلى العراق. فدخل (واسط) و(بغداد). وأخذ عن قاضيها، ومدرس المدرسة النظامية بها: الشرف عبد الله بن بكتاس. وجال البلاد الشرقية والشامية، ودخل بلاد الروم، والهند، وسافر إلى مصر، وأخذ عن علمائها، ولقى الجمع الغفير من أعيان الفضلاء. وأخذ عنهم علمًا وفيرًا.
والفيروزآبادي، كان بارعًا في الفنون العلمية المختلفة، ولاسيما اللغة العربية، فقد برز فيها، وفاق الأقران.
تقول المعاجم عنه: (لقد اطلع على النوادر، وجود الخط، وتوسع في الحديث، والتفسير).
1 / 7
وبذل جهدًا في خدمة السلطان: (أبا يزيد بن السلطان مراد العثماني) وقرأ عليه، وأكسبه مالًا عريضًا، وجاها عظيمًا. ثم دخل (زبيد) في رمضان سنة ٧٩٦ هـ. فتلقاه الملك (الأشرف إسماعيل)، وبالغ في إكرامه، وصرف له ألف دينار، وأمر صاحب (عدن) أن يجهز بألف دينار أخرى، وتولى قضاء اليمن كله.
واستمر القاضي الفيروزآبادي بزبيد عشرين سنة، وقدم مكة مرارًا. وجاور بها، وأقام بالمدينة المنورة، وبالطائف، وعمل بها مآثر حسنة. وما دخل بلدة إلا أكرمه أهلها ومتوليها.
وبالغ في تعظيمه وتقديره: شاه منصور بأن شاه شجاع في (تبريز). والأشرف صاحب مصر، وأبي يزيد صاحب الروم، وابن إدريس في بغداد، وتيمورلنك، وغيرهم.
وقد كان (تيمورلنك) مع عتوه، يبالغ في تعظيم الفيروزآبادي.
وكان العلامة (الفيروزآبادي) واسع الرواية. سمع من محمد بن يوسف الزرندي المدني صحيح البخاري. وسمع من ابن الخباز، وابن قيم الجوزية، وابن الحموي، وأحمد بن عبد الرحمن المرادوي، وأحمد بن مظفر النابلسي.
والتقى بالشيخ السبكي، وولده: التاج، ويحيى بن علي الحداد، وغيرهم بدمشق. وفي القدس أخذ من العلائي، والفارقي، والعز بن جماعة، وابن جهيل، وغيرهم كثير، وفي شيوخه كثرة.
وللفيروزآبادي تصانيف كثيرة، كلها نافعة، وفائقة، ومفيدة .. منها:
- (القاموس المحيط) وهو كتاب عجيب في موضوعه.
- (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة منذ سنوات، محققا في ست مجلدات.
- (تنوير المقياس في تفسير ابن عباس) طبع بإدارة التراث الإسلامي بدولة قطر منذ عدة سنوات.
1 / 8
- (تفسير فاتحة الإهاب في تفسير فاتحة الكتاب).
- (الدر النظيم المرشد إلى مقاصد القرآن الكريم).
- (حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص).
- (عدة الحكام في شرح عمدة الأحكام).
- (المغانم المطابة، في معالم طابة).
- (سفر السعادة).
وغير ذلك من مطول ومختصر. لقد ترك للمكتبة الإسلامية عشرات الكتب والرسائل في مختلف العلوم والفنون.
وقد توفي ﵀ بمدينة (زبيد) في ليلة الثلاثاء الموفية عشرين من شوال سنة سبع أو ست عشرة وثمانمائة من الهجرة، ودفن بتربة الشيخ إسماعيل الجبرتي، أسكنه الله فسيح جناته.
* * *
1 / 9
تقديم كتاب "سفر السعادة"
كتاب (سفر السعادة) للفيروزآبادي. كتاب جليل القدر. عظيم الفائدة. جعله صاحبه محتويا على فاتحة، وأبواب تحتوي على فصول.
وقد وضعه (الفيروزآبادي) انطلاقا من قول الرسول ﷺ: "الدين النصيحة" فكان أن لجأ إلى امتثال إجابة ملتمس كبير، من الذرية المقدسة النبوية ونبعة من الدوحة المكرمة المصطفوية، في إثبات أبواب، ثبتت في صحاح الأخبار المقدسة، من الطريقة الأنيقة المحمدية، والسنة السنية النبوية.
يقول الفيروزآبادي: (فأجرينا القلم بها - بالسنة - لتكون دستورًا لمن أراد دلك هذه السعادة. فليعتمد عليها، في باب العبادات، اعتمادًا كليا).
والكتاب (سفر السعادة) الذي اعتمد فيه مؤلفه على أحاديث الرسول ﷺ. ينأى بالمسلمين عن الخلاف والاختلاف. والذي ابتليت به بعض فئات المجتعات الإسلامية.
إن هذا (السفر الجليل) انطلاقة كبرى بالعابدين، وعباد الرحمن، الذين يلتزمون بمنهجية الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، في الأخذ بالتيسير، والأيسر.
إن الكتاب يأخذك إلى حال الرسول، وطهارته، وصلاته، وقيامه، وخطبه، وصلاته العيد، وعاداته في حال قراءة القرآن، وسماعه، وبكائه. وعادته في تفقد المريض. كما ينبهك إلى صيامه صلوات الله وسلامه عليه، وحجه. والسنة النبوية في العقيقة. ويبين لك حقيقة أذكار النبي ﷺ في الأذن، والسلام، والاستئذان، والسفر.
ويوضح لك عموم أحوال الرسول صلوات الله وسلامه عليه ومعاشه: من اللباس، ومعاشرة الزوجات، والنوم، والركوب، وعلاج الطاعون، والوباء، والاستسقاء، وذات الجنب، وإصلاح الطعام والشراب، وعلاج
1 / 11
السم، والمعالجة بالأدوية الروحانية، والطبيعية، وعلاج الكرب، والغم، والهم، والحزن.
ويحكى لك الكتاب (سفر السعادة) العادة النبوية، والجماع، والباه، والقرض، والسلف، ومشيه ﷺ، وكلامه، وسكوته، وضحكه، وبكائه. وهناك الكثير من فصول الكتاب التي تفرعت عن فصول أخرى.
إن الكتاب موسوعة شاملة، وذخيرة من الذخائر. وقد ختمه الفيروزآبادي بخاتمة سماها: (خاتمة الكتاب).
وخاتمة الكتاب: فريدة في موضوعها. وقد بدأها بقوله: (في الإشارة إلى أبواب روى فيها أحاديث، وليس منها شئ صحيح، ولم يثبت منها عند جهابذة علماء الحديث، وإن كانت في غاية الاختصار. لكنها تشتمل على علوم تدخل في حد الإكثار).
والخاتمة التي وضعها العلامة الفيروزآبادي، لكتابه: (سفر السعادة) وضعت الأمور في مواضعها. من قضايا يدور حولها اختلاف، وخلاف، ويشغل الناس أنفسهم بهذه الخلافات، التي تبعثر جهود الدعوة الإسلامية، والدعاة.
وتأمل ما جاء في هذه الخاتمة من قضايا تجد عجبا. والتي منها على سبيل المثال:
* لا ينبغي أن يعلم أن باب الإيمان. وما هو مشهور. كالإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والايمان لا يزيد ولا ينقص. لم يثبت عن حضرة الرسول فيه حديث).
* (وباب كلام الله قديم غير مخلوق. وفي هذا المعنى وردت أحاديث بألفاظ مختلفة. ولم يصح عن حضرة صاحب الرسالة فيها شيء).
* (باب فضائل القرآن: من قرأ ورة كذا فله كذا. مجموع ذلك مفترى
1 / 12
وموضوع بإجماع أهل الحديث. والذي صح من باب فضائل القرآن". كذا وكذا. وقد بينه.
* (وباب القنوت في الفجر والوتر. لم يصح فيه حديث).
* (وباب زكاة الحلي لم يثبت فيه شيء).
ونحن لا نريد أن نسترسل، في ذكر الأمثال .. فخاتمة كتاب (سفر السعادة)، مليئة بالإشارة، إلى هذه الأمور التي يدور حولها اختلاف بن شبابنا وليست هي من الدين بل هي كمال قال الفيروزآبادي: (من وضع الزنادقة) والمفترين، والوضاعين.
إن الكتاب: (سفر السعادة) جد ثمين، ومفيد في موضوعه. وسوف يجد فيه كل مسلم مبتغاه.
* * *
1 / 13
اللوحة الخطية التي تحمل اسم الكتاب "سفر السعادة"
1 / 14
اللوحة الأولى من مخطوط "سفر السعادة"
1 / 15
اللوحة ما قبل الأخيرة من مخطوط "سفر السعادة"
1 / 16
اللوحة الأخيرة من المخطوط
1 / 17
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المؤلف
بعد الحمد والثناء على حضرة ذي الكبرياء، والصلاة بلا نهاية على رئيس الأنبياء، وخلاصة الأصفياء، وآله وأصحابه الأتقياء، وعلى أرواح التابعين من الصالحين الأولياء.
فلتعلم طائفة الأحباب والأصحاب، وزمرة العقلاء من ذوي الألباب، أن طريق الحق، الذي هو الصراط المستقيم، من أجل أن غاية ذلك هو الحق جل شأنه، أشرف الطرق وأجلها، وأنور السبل، وأكملها، وسلوكها بغير متابعة هاد ماهر، وخريت (١) باهر، لا يمكن بل لا يتصور. لا جرم أن من تشرف بدرك هذا المعنى، علم أن اتباع سيرة رئيس الهداة، وكبير من اختير من حضرة الرحمن محمد المصطفى ﷺ، والاهتداء بسنة جنابه المقدس، هو سبب النجاة الأبدية، وموجب القرب والوصول إلى الحضرة الربانية.
ولا وسيلة منها أشرف ولا طريقة منها أقرب، ومصداق ما قلنا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)﴾ (٢) ومفهوم الكلمة الجامعة النبوية "الدين النصيحة" (٣) ألجأني إلى امتثال إجابة ملتمس كبير من الذرية المقدسة النبوية،
_________
(١) الخريت: الدليل الحاذق بالدلالة. كأنه ينظر إلى خرت الإبرة. قال رؤبة العجاج:
أرمي بأيدي العيس إذ هويت ... في بلدة يعيا بها الخريت
(٢) سورة آل عمران آية رقم ٣١.
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (٥٥)، وأخرجه أبو داود في سننه برقم (٤٩٤٤)، أخرجه النسائي في سننه (ج ٧ ص ١٥٦)، وأورده النووي في رياض الصالحين (ص ١٢٤ برقم ١/ ١٨١). والحديث أخرجه مسلم وغيره كاملًا بلفظ: "الدين النصيحة" قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه لرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم" عن تميم بن أوس الداري.
وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (باب قول النبي ﷺ): "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ... (ج ١ ص ٢٢) عن زيادة بن علاقة. بنحو ما أخرجه مسلم، وأخرجه من وجه آخر عن قيس أبي حازم، عن جرير.
1 / 19
ونبعة من الدرجة المكرمة المصطفوية في إثبات أبواب ثبتت في صحاح الأخبار المقدسة، من الطريقة الأنيقة المحمدية، والسنة السنية النبوية، فأجرينا القلم بها لتكون دستورًا لمن أراد دروك هذه السعادة، فليعتمد عليها في باب العبادات اعتمادًا كليًا ولا يعبأ بخلاف زيد وعمرو.
فإن هذه المسائل ستكسب على وجه ثبت عن رسول الله ﷺ بأسانيد صحيحة، وكل متعبد أتم لسلوك هذا المنهج المستقيم، بطريق الإخلاص أمكن يد طلبه التعلق بطرف مقصوده وتخلقت طينته الطيبة بالأخلاق المقدسة النبوية إن شاء الله تعالى.
وهذا سفر (١) السعادة جعلناه محتويًا على فاتحة. وخاتمة. وأبواب تحتوي على فصول ونأمل أن تحيط أنوار أسراره بالكافة. وتكتنف (العامة) إن شاء الله تعالى.
* * *
_________
(١) السفر: بالكسر الكتاب والجمع (أسفار)، قال الله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ سورة الجمعة آية ٥. وانظر مختار الصحاح (ص ٣٠٠).
1 / 20
فاتحة الكتاب في ذكر حال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل نزول الوحي وبيان عباداته في تلك الأيام
لما بلغ ﷺ سبع سنين، وتوفي جده عبد المطلب، وافتخر عمه أبو طالب بشرف كفالته وتربيته، أمر الله تعالى - شأنه - إسرافيل ﵊ أن يقوم بملازمته، فكان قرينه دائما إلى أن أتم إحدى عشر سنة، ثم أمر جبريل ﵊ بملازمته تسعا وعشرين سنة، بطريق المرافقة والمقاربة، لكن لم يظهر له.
وفي بعض الروايات الصحيحة: أن إسرافيل ظهر له في ملازمته مرارًا وكلمه بكلمة وكلمتين، وقبل نزول الوحي بمدة خمس عشر سنة، كان يسمع صوتًا أحيانًا، ولا يرى شخصًا. وسبع سنين كان يرى نورًا، وكان به مسرورًا ولم ير شيئًا غير ذلك.
ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة، والانفراد فكان يتخلى في جبل حراء وهو على ثلاثة أميال (١) من الكعبة، وبه غار صغير، طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض الواضع، وفى بعضها أقل. واختار محل الخلوة هناك.
وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر، وقال بعضهم بالذكر، وهذا القول الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه، لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق، لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كونًا من
_________
(١) اختلاؤه في غار حراء أورده كثير من أهل العلم والمحققين انظر: صحيح البخاري بشرح فتح الباري (ج ١ ص ٢١) وانظر الجزء العاشر من فتاوى الشيخ ابن تيمية ﵀، وعيون الآثار لابن سيد الناس (ج ١ ص ٥٣)، وانظر تاريخ الطبري (ج ٥ ص ٤٩٨).
1 / 21
الأكوان، أو فكر فيه فليمس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة، ومن ثم يعلم سر "أنا جليس من ذكرني" (١)، وشرط هذه الخلوة، أن يذكر بنفسه وروحه لا بنفسه ولسانه.
الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر، لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم، من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة.
وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم بالذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان. ومهما وجد الفكر طريقًا إلى صاحب الخلوة، فينبغى أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة، ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهى، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.
الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة، من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا. فلذلك اختاروا الخلوة.
الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة، توجد في الخلوة، وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيدًا جدًّا من جميع المخالطات، حتى من الأهل، والمال، وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة، بتذكر من لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي، تزداد من الصفاء والصقال، حتى بلغ أقصى درجات الكمال، فظهرت تباشير صبح الوحي، وأشرقت وانتشرت بروق السعادة وتألقت، فكان لا يمر بشجر، ولا حجر، إلا قال بلسان فصيح: السلام عليكم يا رسول الله.
_________
(١) أخرج الشيخان حديثًا بنحوه ولفظه: أن رسول الله ﷺ قال: "يقول الله أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منهم" متفق عليه أخرجه البخاري (ج ١٣ ص ٣٢٥، ٣٢٦)، ومسلم برقم (٢٦٧٥)، وأخرجه الترمذي برقم (٣٥٩٨).
1 / 22
فكان ينظر يمينا وشمالًا، ولا يرى شخصا ولا خيالا، فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء، إذ ظهر له شخص فقال: أبشر أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصع بالجواهر ووضعها في يده ﷺ وقال: اقرأ. قال: "والله ما أنا بقارئ ولا أرى في هذه الرسالة كتابة" (١) قال: فضمنى إليه وغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أطلقنى وقال: اقرأ: فقلت: "لست بقارئ" فغطنى حتى بلغ منى الجهد. فعل بى ذلك ثلاثا وهو يأمرنى بالقراءة.
ثم قال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الًاكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ (٥)] (٢) ثم قال: انزل عن الجبل، فنزلت معه إلى قرار الأرض، فأجلسنى على درنوك وعليه ثوبان أخضران، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ جبريل منها: تمضمض واستنشق وغسل كل عضو ثلاثا، وأمر النبي ﷺ أن يفعل كفعله. فلما تم وضوؤه أخذ جبريل كفا من ماء يفرش به وجه الرسول، ثم قام وصلى ركعتين والرسول مقتد به ثم قال: الصلاة هذا.
ولما فرغ من الوضوء والصلاة والتعليم غاب جبريل، وجاء الرسول إلى مكة وقص على خديجة القصة، وعلمها الوضوء والصلاة (٣). فناسب بعد تمهيد هذه الفاتحة أن نبتدئ أبواب العبادات النبوية بذكر كيفية الوضوء والصلاة، ونلحق بها الصيام، والأدعية وغيرها من العبادات إن شاء الله الكريم.
_________
(١) هذا جزء من حديث طويل أخرجه الشيخان وغيرهما بتمامه، انظر صحيح البخاري كتاب الحيل، باب التعبير (ج ٨ ص ٦٧)، ومواضع أخرى انظر فتح الباري لابن حجر (ج ١٢ ص ٣٥١ - ٣٥٢) و(ج ١ ص ٢٢)، (ج ٨ ص ٧١٥، ٧٢٢) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي (ج ١ ص ١٣٩).
(٢) سورة العلق: ١ - ٥.
(٣) ما ورد في الصحيحين فيه اختلاف في بعض ألفاظ الحديث الذي أورده المصنف في كتابه، وبعد البحث لم أجد الفاظ المصنف بعينها في كتب الحديث إلا أن أصل الحديث بنحو الفاظ المصنف قد ورد في دواوين السنة انظر: صحيح البخاري (ج ٨ ص ٦٧) وصحيح مسلم (١/ ١٣٩).
1 / 23