وقد وفيت بالوعد، وذهبت لأقضي مع الصحاب شم النسيم في حديقة أحد أصحاب سعيد من أعيان طنطا، وكان يوما لطيفا، وقص علي سعيد ما لم يخبرني به من قصة شقيقته؛ فقد كانت متزوجة برجل محترم يشغل منصبا كبيرا، ثم دب بينهما الخلاف أخيرا؛ إذ نقلت إليها إحدى صديقاتها نبأ علاقة بين زوجها وإحدى الراقصات مما أثارها، وعبثا ذهبت الجهود لإصلاح ما بين الزوجين؛ فقد أصرت على الطلاق، وتم الطلاق فعلا، وقد دعاها سعيد للإقامة معه فترة لتسري عن نفسها ... فقد كانت المسكينة تحب زوجها برغم كل ذلك، وبعد شم النسيم جاءتني رسالتان من سعيد خلال شهر، وإني أعترف أن شيئا في الرسالتين لم يسترع اهتمامي أول الأمر ؛ في الأولى يجيء ذكر عبد الجواد وزوجته في سطر واحد، مجرد ملء خانة تعود أن يملأها سعيد ... ... سافرت شقيقتي إلى مصر؛ لأن موعد نظر القضية التي رفعتها لضم طفليها إليها قد حان، وقد زرنا عبد الجواد، وودعتهما شقيقتي، وهما بخير، وقد قال لي عبد الجواد إنه كتب لك ليهنئك بالدرجة.
أما الرسالة الثانية، فقد كانت بعد ذلك بأسبوعين، وكنت قد سمعت أن شقيقته قد ربحت قضيتها، وحكمت المحكمة لها بضم الطفلين، فكتبت لسعيد أهنئه بهذا النصر السخيف خصوصا، وأنه كان مهتما بالقضية اهتماما كبيرا، مصدره لهفة أخته على طفليها الصغيرين اللذين انتزعهما الأب منها وأخفاهما عنها، وكتب سعيد يرد على رسالتي وينبئني بمساعي الصلح التي يبذلها زوج شقيقته، وأنه كتب لأبيه بألا يتشدد، وأن الأولى أن يتصالح الزوجان بعد أن رأى بعينيه مدى حالة أخته بعد الطلاق، وفي هذه الرسالة ورد ذكر عبد الجواد مرة واحدة، وفي جملة واحدة. ... زرت عبد الجواد أمس، وهو يهديك أزكى تحياته ...
أما ما وراء هذا التطور في رسائل سعيد فهو أن عبد الجواد اضطر إلى أن يزيد نشاطه في مكتبه في المحلة، وأصبح يذهب إليها أربعة أيام في الأسبوع، وبدأ يركز قضاياه في يومين في طنطا هما الأربعاء والخميس، ثم يسافر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء إلى المحلة، يسافر كل يوم بأول قطار، ويعود آخر النهار؛ ولذلك وجد سعيد أنه من الإرهاق أن يزوره في غير أيام الخميس أو الجمعة، وكان يحضر إلى مصر في كل أسبوعين مرة، فأصبح بذلك لا يزور عبد الجواد إلا كل أسبوعين مرة ... إن الحياة مشاغل ... هكذا قال لي سعيد، وهو يحدثني عن تزايد عمل عبد الجواد، وعن انشغاله هو في عمله المصلحي:
تصور أنني أذهب إلى مكتبي صباحا ومساء بعد أن مرض أحد زملائي، وتحولت علي أعماله.
إن كل شيء يمضي في طريقه طبيعيا حتى تصل إلي هذه الرسالة التي أقرؤها الآن ... أقرؤها متماسكا شعوري، وأكاد أتخيل شعور سعيد الذي تنم عليه سطور رسالته ...
إني اكتب لك هذه الرسالة ، وأنا أكاد أحترق من الحيرة والقلق ... ولا أدري هل لي الحق في هذه الحيرة أو لا؟ لقد حاولت أنا شخصيا أن أصل إلى تفسير فلم أوفق، ودعني أقص عليك ما حدث أولا، وأرجوك إذا اهتديت إلى حل أن تخبرني به ... إنني شخصيا لا أجد حلا ... ولا تعليلا.
في الأسبوع الماضي خرجت يوم الثلاثاء من مكتبي في الساعة الثانية عشرة ظهرا، وكان معي أحد زملائي في العمل لنقوم بمعاينة منزل تريد أن تشتريه الحكومة، فوجدت منيرة تغادر منزلا من المنازل الجديدة التي بنيت في نهاية شارع «...» هذا ما حدث في صورته المبسطة ... وما رأيته ... فلم يلفت نظري بالمرة، خصوصا وأن منيرة لم ترني ... وفي عصر ذلك اليوم مر علي بالمنزل عبد الجواد ليدعوني للعشاء احتفالا بعيد زواجه زاعما أنه قد أخفى ذلك على زوجته ليفاجئها، وأخفاه علي لكيلا أتعب نفسي في إحضار هدية والوقت آخر شهر، وذهبنا للعشاء، وقضينا وقتا لطيفا، ونسيت بالمرة أني رأيت منيرة في الصباح، نسيت ... لولا أن طرق أذني صوت منيرة تقول لزوجها: زرت اليوم أسما هانم، وقضيت عندها ساعتين، وقد تحسنت صحتها، ويقول الدكتور إنها ستغادر الفراش بعد شهر على الأكثر.
وأنت لا تعرف أسما هانم بالطبع ... ولكني أعرف أنها زوجة القاضي الشرعي، وهي سيدة محافظة، وهذا لا يهمك بالطبع لكن المهم هو أن أسما هانم هذه تسكن في ناحية نائية من مدينة طنطا، في الطرف الآخر من المدينة، ذكرت إذ ذاك فقط ما حدث ظهر ذلك اليوم، وقفز إلى ذهني ما لم ألتفت إليه أول الأمر ... المنزل الذي رأيت منيرة تغادره، إنني أعرف من يقطنه، في الدور الأعلى أحد تجار المدينة متزوج بسيدة يونانية لا تزور أحدا أبدا، وهي لا تتكلم العربية، ولم يمض على زواجهما شهور، وفي الدور الثاني يقيم عبد الستار أفندي كبير كتاب المحكمة الأهلية، وهو رجل محافظ، حتى إن نوافذه على الشارع لا تفتح أبدا ... ولا أعرف أن زوجته صديقة لمنيرة ... ويبقى بعد ذلك الدور الأول ... إن ساكنه هو الشاب الرقيع الدكتور محجوب، ولا إخالك قد نسيته، إنه صاحب صديقنا حسان، وصاحب الحديقة التي قضينا فيها شم النسيم، والذي كاد يقتلنا أنا وأنت بنظرته، ولا أدري كيف يطيقه حسان، هل يمكن أنك ستقول ذلك ... وأنا أيضا قلت ذلك لنفسي أكثر من مرة، واستبعدته بعنف أكثر من مرة لكنه مع ذلك كان، وللأسف الشديد، الحقيقة بعينها ... فمنيرة تذهب إلى هذا الوغد في منزله، وإليك البرهان
فقد دعاني حسان بعد ذلك بيومين لسهرة عنيفة في منزله ... سهرة وجدت فيها الدكتور محجوب، وأخذنا نشرب ... أنت تعرف أني أقلعت عن الإفراط في الشرب؛ لذلك شربت كأسين فقط ... أما هو وحسان فقد شربا حتى ثملا، وأخذا يثرثران ... وسمعت وسط الثرثرة لسان هذا النذل يلفظ اسم منيرة، فاعتدلت في جلستي، ويظهر أنه لحظ ذلك مني، فحاول أن يدير الحديث، ولا أدري من أين جاءني الدهاء إذ ذاك ... لقد ابتسمت ونظرت إليه في خبث، وقلت له: سبحان الله ... حانخبي على بعض ... ما إحنا عارفين ... وكأني بذلك قلت له كلمة السر ... فقد انطلق في عنف يمزق الثوب الأبيض الجميل، ثوب الطهارة الذي كانت تتشح به منيرة أمام عيني، لقد تعرف بها قبل أن تتزوج، ثم رآها في طنطا، وجددا عهد الصداقة ... جدداه في هذه المرة على حساب صديقنا عبد الجواد المسكين، إنه هو الذي يهمني في الموضوع، إنني أكتب لك هذه الرسالة، وأنا لا أكاد أتصور كيف سأرى منيرة بعد ذلك؟ وهل سأتمالك نفسي عن احتقارها؟ ... اليوم هو الأربعاء والمفروض أنني سأراها غدا ... سأراها وهي تبتسم في حنان، وتتكلم في عذوبة تفيض على عبد الجواد المخدوع، فلا يدري شيئا مما حوله ... إني أكاد أنفطر حزنا، وأتفجر غيظا، ولن أستطيع أن أكتم الأمر عن عبد الجواد طويلا، خير له أن يعرفه مني وبطريقتي الخاصة، من أن يعرفه قصة فاضحة تملأ كل الأسماع قبل أن تصل إليه، عندئذ سيكون الوقت قد فات لإنقاذ سمعته ...
إني أذكر الآن كيف فجعني هذا النبأ، ليس من أجل عبد الجواد، ولكن فجيعتي العظمى كانت في منيرة، تلك السيدة التي احترمتها لأنها زوجة طيبة، فإذا بها تنهار أمام عيني كما ينهار تمثال من الرمل، وراعتني فكرة سعيد، ولم أكن أرى رأيه في إطلاع عبد الجواد، وكنت أظن أن محاولة مع منيرة، محاولة لتقويمها، قد تجدي، ولقد كتبت لسعيد فعلا، وأعترف أني لم أكن مقتنعا بأن مثل هذه الزلة ممكن إصلاحها؛ لذلك كانت رسالتي، على ما أذكر، مجرد دعوة إلى التمهل والتريث، ولم أقترح عليه أن يواجه منيرة بجرمها ... وتخيلت موقفي أنا لو أن زوجتي خانتني، فوجدتني أوثر ألف مرة أن أعرف خيانتها، وأضع حدا لصلتها بي، ذلك خير ألف مرة من أن أكون الزوج المخدوع.
Bilinmeyen sayfa