وأحس بالخطر الذي توقعه ... وترجمت خواطره العزبة إلى المزروعات، والمزروعات إلى إيجار والإيجار إلى مال ... وأخيرا وصل إلى سعدية ... وقال دون أن يدرك ما يقول: لا أبدا، عمي توفى بالإسكندرية، وسأسافر اليوم وقد أمكث بضعة أيام.
وكانت أمامه صحيفة الصباح فقلبها بسرعة، ووضع عينيه على صفحة الوفيات ليتخير عمه من بين الراحلين ... ولحسن الحظ وجد وجيها إسكندرانيا بين الموتى ... وتحفز لجواب السؤال القادم ... ستسأل هي: «مكتوب في الجرنال؟» فيجيبها بسرعة، ويتأثر ... «أي نعم في رأس العمود الثاني» ... ثم تقول: «ولكن اسمك غير موجود»، فيقول بنفس التأثر: «كان بين أبي وبين عمي خلاف، وقد محا الموت أسباب العداوة.»
ولم تسأل سعدية، وإنما عزته في رقة، وأغلقت التليفون لتعطيه الفرصة للبكاء ... وازدرد هو بقية طعامه، واحتسى فنجان القهوة، وارتدى ملابسه بسرعة، وطوى إحدى بيجاماته وفوطة وجه وآلة الحلاقة، ووضعها في حقيبته الصغيرة، ونادى خادمه لكي ينبئه بأنه سيسافر، ويعود بعد يوم أو يومين.
وكان الخادم كسعدية يؤثر معرفة الأسرار بيده لا بلسانه، فلم يسأله إلى أين؟ وإنما اكتفى بأن يتمنى له سلامة السفر والعودة في صوت عال، في حين تمنى على الله، في صوت منخفض، أن تطول الرحلة ... إن بيوت العزاب أخصب عش غرام للخدم المتزوجين.
وحمل الحقيبة، ومضى يضرب في الطريق، وسأل نفسه إلى أين؟ وقال عقله، عقل المجنون: تذهب إلى الإسكندرية لتقدم واجب العزاء في عمنا الحنون، إني أحب الصدق كما تعلم.
وقال لعقله: وكما تعلم أنت ليس لنا عم مات بالإسكندرية. - فلم لا يكون نصف الصدق ... نذهب إلى الإسكندرية، أليس جميلا أن نرى الإسكندرية في الشتاء!
ووجد نفسه في المحطة وأمام شباك التذاكر ويده ممدودة بالنقود، ساهما كأنه لا يعرف أين يذهب، وصاح عامل التذاكر: أفندم!
وأجابه طالبا تذكرة الإسكندرية، وصاح العامل مرة ثانية: أولى أو ثانية؟
وفتح فمه ليجيب لكنه لمح ساعدا أبيض، كأنه ذراع تمثال من المرمر يمتد أمام عينيه، ويناول العامل ورقتين من فئة الجنيه قائلا: تذكرة أولى لإسكندرية من فضلك!
وأجاب عندئذ: وأنا كمان ... تذكرة أولى لإسكندرية.
Bilinmeyen sayfa