فأمسكت الكأس بيدها وهي ترتجف جازعة من نظرة عمها، وقالت: ربي ارحمني، وعند ذلك مد حسين باشا يده وقبض على ذراعها يريد أن يمنعها عن شربها، وفي تلك اللحظة عينها اندفع طاهر أفندي من غير استئذان وقال عن بعد: لا تشربي يا زينب لا تشربي.
فالتفت الكل إليه مستغربين وحينذاك علت صفرة الوجل وجه عزيز باشا، فقال: ما شأنك يا هذا في دار حريمي؟ - لي كل الشأن. إن كنت مخلصا لهذه المرأة فاشرب نصف هذه الشربة ودع لها النصف.
فجزع عزيز باشا كل الجزع، ولكنه شدد قواه، وقال: هلم فاخرج من منزلي؛ فما أنت ولي أمري ولا وكيل زوجتي. - بل أنا كل ما تقول؛ لأني مرسل من الله لكي أخلص العباد من شرك يا سفاك الدماء.
وعند ذلك هجم عزيز باشا على زينب يريد أن يختطف الكأس من يدها فاعترضه طاهر أفندي وقال: حافظ على الشربة يا حسين باشا؛ لأجل التحقيق، فإنها تحتوي على مقدار كبير من الزرنيخ، فأخذها حسين باشا وأفرغها في زجاجتها وسدها، وبقي قابضا عليها، وعند ذاك كان عزيز باشا قد أخذ منه الوجل كل مأخذ فقال: ويحكم ماذا تريدون مني؟
وكانت حينئذ قد علت الجلبة في الدار، وسمع اللغط في الخارج حتى وصل الخبر إلى مكتب الدائرة، وكان فيه ديمتري ألكسيوس والكاتب وعلي حامد ومحمد حفيظ - وهذان الأخيران يأتيان إلى المكتب كل يوم لعل لهما نفعا منه في مقابل خدمة - وكان حسن بك بهجت قد أتى إلى المكتب أيضا بإيعاز طاهر أفندي؛ لكي يطالب بالكمبيالتين، وخليل بك مجدي سمع أيضا اللغط من غرفته.
كل هؤلاء لما سمعوا بما في البيت من اللغط اندفعوا إلى دار الحريم فوجدوا طاهر أفندي قابضا على ذراع عزيز باشا وهو يقول له: لا نريد بك سوءا وإنما نريد أن نحفظ أرواح العباد من شرك، نريد أن نسلمك للعدل. - ماذا فعلت؟ - إن لم يكن في هذه الشربة زرنيخ فاشربها الآن. وإن نجوت من هذه التهمة فلا تنجو من تهمة البيع الإكراهي؛ فها هي الحجة التي أكرهت زوجتك على إمضائها، وأشهدت عليها هذا وهذا وهذا - وأشار طاهر أفندي إلى ديمتري وعلي حامد ومحمد حفيظ.
ثم استرسل في كلامه قائلا: «وإن كنت تتبرأ من كل هذه الأمور فلا تقدر أن تنكر الثمانية وخمسين ألف جنيه التي استدنتها مني أنت وأخوك في باريس وبددتماها في القمار والبطالة، وهذان سندان بها في يد حسن بك بهجت المحامي (وحينذاك فتح حسن بك الملف الذي معه وأرى الجمهور الصكين) وإن استطعت أن تأكل هذا المبلغ أو تنكره فلا تقدر أن تنجو من عقاب جناية تعمدت ارتكابها بالاشتراك مع هذا الشرير ديمتري ألكسيوس، وهي دس السم في هذه البرشامات التي جهزت لعائدة ابنتك، ابنتك من كارولين عشيقتك القديمة، تلك العشيقة التي حرضت هذين (وأشار إلى علي حامد ومحمد حفيظ) على قتلها، فقتلاها في الجزيرة ثم ألصقت التهمة بي حتى اضطررتني أن أفر إلى أوروبا وأنكر حياتي فيها.» - ويلاه، شاكر بك نظمي؟
عند ذلك جعلت ساقا عزيز باشا تتلاطمان وبالجهد استطاع أن يبقى واقفا، وكذلك ديمتري وعلي ومحمد المشتركون بكل هذه الآثام؛ وهت قواهم وعلت صفرة الموت وجوههم، وبقي طاهر أفندي يتكلم، فقال: ارتكبت تلك الجريمة الفظيعة؛ لكي تحرمني هذه المرأة التي أحبتني وأحببتها، فنجحت وتزوجتها، فلماذا تعذبها وترتكب هذه الجرائم فيها؟ حتى التجأت في المرة الأخيرة أن تجرها إلى مكان دنس في الجزيرة وتتهمها بالعهارة؛ لكي تبتز مالها، أي نذل يلجأ إلى هذه الدناءة يا خسيس يا لئيم. - أتنتقم مني الآن يا شاكر بك؟ - لست أنتقم منك، ولكنك أنت تنتقم لي من نفسك، لم أحملك على ارتكاب شيء من هذه الجرائم، ولكني راقبتك بعين لا تنام حتى أقي الناس شرك، وأخيرا لم أر بدا من تسليمك إلى يد القضاء.
وعند ذلك اندفع رجال الشرطة إلى الدار ليقبضوا على من فيها من المتهمين ذلك؛ لأن سالم رحيم كان قد أوعز إلى المخفر فقدم الشرطة في تلك الساعة الرهيبة، ولما رآهم عزيز باشا يدخلون هرع إلى غرفته وأطلق مسدسا في رأسه، فخر صريعا لا حراك به.
فانتهز أولئك الثلاثة - شركاء عزيز باشا في الجرائم - فرصة دهشة الجمهور من انتحاره واهتمامهم به وفروا هاربين، ولجأ خليل بك مجدي في الحال إلى غرفة أخرى انسل منها إلى خارج المنزل، فلم يعلم أين ذهب إلا بعد زمان حيث شوهد في الديار الأوروبية متنكرا.
Bilinmeyen sayfa