فعاد خليل يتمم حديثه قال: ومتى قادتها إلى ذلك المكان تكون أنت هناك، فتدخل عليها شاتما مهينا بحيث تفهمها أنها في محل دنس وتتهددها بأن تستدعى عمها حسين باشا عدلي لكي يراها في عارها فتجزع جدا، وحينئذ تقترح عليها أن تستر عارها بما تهبك من مالها، ويجب أن تعد قبلا صكا بمبلغ كبير وتحملها على أن توقع عليه، وإذا استطعت أن تستكتبها إياه كله تفعل حسنا، فأبرقت أسرة عزيز باشا جدا، وقال: إنها لفكرة بديعة يا خليل، ولا ريب أنها ناجحة لا محالة؛ لأن زينب لا يروعها شيء مثل ثلم صيتها، فقد عرفت من أين تؤكل الكتف وسأغير سلوكي معها وأحاسنها؛ لأمهد السبيل لدهاء القوادة عليها وأما القوادة ...
فقال ديمتري: أنا أدبرها، كونا مطمئنين، إن هذه الحيلة أنجح الحيل - على ما أظن.
الفصل الثلاثون
بعد تلك الأيام زار حمد بك فضل ذات يوم طاهر أفندي عفت، واختلى به في غرفته وفاتحه بحديث قلبه قائلا: لا بد أن تكون يا طاهر أفندي قد لاحظت ميلي إلى عائدة. - لاحظت ذلك فحسبته من قبيل الإعجاب بمحاسنها. - بل هو بالحقيقة أشد من غرام؛ ولذا لم أتمالك أن آتي أبوح لك بكل حرية بما في قلبي من الحب الشديد لها، حتى صارت شغل بالي الشاغل، فها أنا أتيت أخطبها إليك ولا أظنك تأبى.
فنظر فيه طاهر نظرة استهجان واستغراب، وقال له: عهدي بك أنك متزوج يا حمد بك ألست كذلك؟ - نعم. - ولماذا تود أن تتزوج ثانية؟ - لأني أحب عائدة جدا، وإن كان زواجي الحالي يحول دون أمنيتي فلا أسهل علي من أن أطلق زوجتي الحاضرة. - عجيب! وأولادك؟ - أضعهم في المدارس. - وزوجتك؟ - تفعل ما تشاء، تتزوج إن شاءت، أو تعيش بمهرها الذي سأدفعه لها.
فهز طاهر أفندي رأسه وقال: «مسكينة المرأة، إنها رهن مشيئة الرجل، متى شاء تزوجها، ومتى شاء طلقها.» ثم التفت إلى حمد بك وقال له: وهل تستحل أن تكون عائدة زوجتك وهي في سن ابنة لك؟ - وما العار في ذلك يا طاهر أفندي، هل من مانع شرعي للزواج منها؟ - كلا، ولكن هناك مانعا أدبيا، وهو أن الضمير يحرم عليك أن تطلق زوجتك الحالية أم أولادك لغير سبب منها ... - إذا لم يكن عندك من مانع لبقائها معي ضرة لعائدة فلا أطلقها، وأحب الأمور إلي أن تبقى لي زوجتي؛ لأنها وايم الحق فاضلة، لا تكاد تعاب بشيء. - إذن ما الداعي لزواجك ثانية؟ - الداعي أني أحب عائدة حبا مبرحا. - أليس عيبا أن كهلا مثلك يتصابى في حب طفلة ... ما أنت بأصغر مني حتى أزوجك بها وأحرم نفسي منها، وإذا كنت أستنكف أن أتزوجها لكونها أصغر مني جدا فهل أستحل أن أزوجك بها؟ وهب أن كل هذه الموانع بسيطة لا تقف في سبيلك، فعندي مانع عظيم فيه كل الموانع، وهو أن الفتاة أصبحت في حكم الخطيبة للدكتور يوسف بك رأفت. - أصحيح؟ هل خطبها؟ وهل عقد العقد؟ - لم يعقد عقد الزواج بعد، ولكنه خطبها لي ووعدته بها. - إذن لا تتعذر متاركة يوسف هذا، فلك أن تجد وسيلة حسنة لإفهامه أن يقطع كل أمل بالزواج من عائدة، إذا كنت تؤثرني عليه. - هب أني أفضلك عليه، فعائدة لا تفضل أحدا عليه؛ لأنها تحبه، وهو لا يزال في مطلع الشباب - كما تعلم - وفيه كثير من المحاسن التي تحبب الفتيات بالفتى الجميل النضير، فتنهد حمد بك وتأفف وتأمل هنيهة، ثم قال: لا أدري إلا أنك إذا شئت أن تعطيني يد عائدة فلا يتعذر عليك أن تفعل. - ولكني أبنت لك عدة موانع يا حمد بك، وكل واحد منها سبب كاف لتعذر إجابة سؤلك؛ فأولا: أنك متزوج وأب أولاد، وثانيا: أنك أكبر من عائدة ضعفين أو أكثر، وثالثا: أنها تحب الدكتور يوسف بك رأفت، ورابعا: أني وعدته والوعد عندي أمكن من العقد. وليس الخلف من شيم الرجال! - كنت أظن أن اقتراحي هذا يصادف استحسانا عظيما منك يا طاهر أفندي، بل كنت أتوقع أنك تؤثرني على كل طالب؛ نظرا لما بيننا من العلاقات المهمة.
فنظر فيه طاهر أفندي شذرا، وقال له: أتظن أني أبتاع منك خدمة بفتاة؟ معاذ الله أن أرهن قلامة ظفر من عائدة لأجل مساعدة منك، وإن كنت تبني على إسعافك لي في مشروعي طمعك بيد عائدة فأرجو منك أن تعدل عن هذا الطمع، ليست بغيتي الفوز بهذا المشروع، وإنما هو بغية صديق لي، فإن فاز فخير وإلا فعندي ما يغنيه عن ذلك. - الحق أقول لك يا طاهر أفندي: إن في ديوان الأشغال طلبا آخر غير طلبكم بامتياز ترام كهربائي، وهذا الطلب لشركة بلجيكية تفوقكم استعدادا، وقد سعيت في أن يقبل طلبكم ويخيب طلبها. - يجب أن ينفذ طلبنا دون غيره؛ لأنه أسبق. - ولكن تلك الشركة أقوى منكم، والحكومة يهمها أن تكون الشركة كافلة بنجاح المشروع. - ولكننا نحن قدمنا تقريرا وافيا عنه، وبسطنا الحاجة اللازمة إلى رأس المال، وتكفلنا بهذا اللازم. فما اعتراض الحكومة على تقريرنا؟ إن هذه أعذار فارغة يا حمد بك، ويظهر أن رجال الحكومة غير ناظرين إلى أي اللائحتين أضمن لنجاح المشروع؛ وإلا لكانوا منحوا الامتياز لشركتنا قبل أن تظهر الشركة البلجيكية، بل كان يجب على الحكومة أن تمنح شركتنا الامتياز؛ لأنها شركة وطنية، ولكن دعنا من الاحتجاج ودع تلك الأعذار وقل: إن بعض الأهالي أدركوا أن بعض مواطنيهم يسعون في مشروع جليل نافع للبلاد ومفيد لأصحابه، فمزقهم الحسد وقاموا يقاتلون المشروع. - لا أظن ما تقوله حقيقيا يا طاهر أفندي. - دع هذه المواربة؛ فإني عارف بكل ما تعرفه من هذا القبيل، بل أعرف ما لا تكاد أن تعرفه، أعرف أن شخصا بذل كل قواه في تنشيط أصحاب الشركة البلجيكية ومهد لهم السبيل للفوز، فما أشد الحاسدين مروقا عن الوطنية. - إذن، نعطي الامتياز للشركة البلجيكية؟ - تسألني؟ - نعم أتيت لكي أسألك كما سألتك. - أتعني أني أشتري منك الامتياز بعائدة؟ - شيئا كذلك. - معاذ الله، وإن كنتم تلعبون بالحقوق وتساومون عليها بالأعراض، فخسئتم وأغنانا الله عنكم. - إذن أستودعك الله. - مع السلامة.
الفصل الحادي والثلاثون
في اليوم التالي جاء حسن أفندي بهجت إلى طاهر أفندي مضطرب الجسم، قلق البال، مكفهر الوجه، وطلب الاختلاء به.
فاختليا في غرفة طاهر أفندي الخاصة، وفيما هما داخلان ابتدأ حسن بالحديث قائلا: لقد حبطت كل آمالي يا طاهر أفندي. - تريد أن تقول إن الشركة البلجيكية أخذت الامتياز. - إذن عرفت. - نعم. - وماذا تقول؟ - أقول إن الأهالي يقوون الأجنبي عليهم. - هذا أمر معلوم، وهو خارج عن خطتنا الآن. - هون عليك. - كيف أهون وأنت تعلم الداعي إلى كل مجاهدتي فيما مضى؟ - طب نفسا وقر عينا، لا ينال خليل قلامة ظفر من نعيمة كما أن حمد لم ينلها من عائدة. - ماذا تعني بنيل حمد من عائدة؟ - أتاني أمس يساومني على عائدة بالامتياز. - ها ها، كذا قل لي، هذا هو السر في رد طلبنا وإجابة طلب الشركة البلجيكية. - نعم هذا هو معظم السر. - والآن ماذا تفعل؟ غدا يبلغ حسين باشا عدلي إخفاقنا فيعود يزف ابنته إلى خليل بك مجدي، فما العمل؟ - غدا تحصل على الرتبة والنشان. - إن شاء الله، ولكن الرتبة لا تكفي. - هاك كمبيالة على خليل بك مجدي بقيمة ثمانية آلاف جنيه، وكذلك الكمبيالة التي على أخيه بخمسين ألف جنيه (وناوله الكمبيالتين). - لا أظن عندهما كليهما من الأملاك ما يساوي ثلث القيمة، ولا أظن أن عند عزيز باشا بقية بعد. - لا يهمنا، وإنما هاتان الكمبيالتان سلاح بيدك لمحاربتهما. - سأرفع القضية في الحال. - كلا كلا، بل أنذرهما إنذارا فقط. - بالله لماذا هذا الصبر عليهما؟ يجب أن نسعى إلى إعلان إفلاسهما حالا، وفضح ماليتهما لدى حسين باشا قبل أن يبت أمرا معهما بشأن نعيمة.
Bilinmeyen sayfa