ما مر بعد الساعة الخامسة دقيقة وفؤاد نعيمة يضطرب خوفا حتى صح حسابها؛ إذ أتت أمها إلى الشرفة فشعرت أن عروة قلبها قد انقطعت، وسقط ذلك الفؤاد الوجل في أحشائها.
سمعت وطأة وما التفتت حتى رأت أمها في الشرفة فسقط منديلها من يدها، لا تدري ما الذي أرخى عصب كفها؟ الخوف أو الأمل بلقاء حسن أو إلهام الحب، الله أعلم، ولو لم يكن الوقت الغروب والشمس آفلة والجو مكفهر بحيث لا تنجلي الأشباح جيدا في شرفة مكتومة بمشبك خشبي لو لم يكن الأمر كذلك لرأت عصمت هانم خدي ابنتها نعيمة يتوهجان بلهبات الجزع والاضطراب، ومع ذلك شعرت بارتعاب ابنتها، فقالت لها بكل رقة: ما بالك أجفلت يا بنتي؟ - لأن دخولك كان مفاجئا فإني لم أشعر به إلا وأنت هنا، وكم يحصل مثل هذه المباغتة فيعقبها هذا الإجفال.
وعند ذلك سكن روعها قليلا، ولكن قلبها ما زال ينتفض. - ماذا تفعلين هنا وحدك؟ - أستنشق الهواء النقي. - أخاف أن يراك أحد مطلة منها يا نعيمة، فماذا يقول عن ابنة حسين باشا عدلي؟ - لم أطل منها ولن أطل يا أماه، وإن أطللت أحيانا فمن وراء مصراعها الذي لا يزال منحدرا فوقها بحيث لا يراني أحد.
وعند ذلك أطلت نعيمة كأنها تمثل لأمها ما تقول فلم تر المنديل في الزقاق، وأجالت نظرها في طوله فلم تجد أحدا فوجف فؤادها، أين ذهب المنديل؟ من أخذه؟ ربما عثر عليه أحد من الخدمة فعاد به وأعطاه لعصمت هانم فماذا تظن؟ أنها توجس من نعيمة، هذه الأفكار خطرت لنعيمة محفوفة بالخوف والوجل.
عند ذلك أقفلت نعيمة النافذة واجتهدت أن تنتهز فرصة موافقة للخروج من أمام وجه أمها؛ لأنها خافت أن تدقق في تساؤلها، أو أن تتطرق في حديثها إلى الموضوع الذي فاوضها به أبوها، فقالت: إني عطشانة، وخرجت إلى غرفتها.
توقعت أن تحادثها أمها بالموضوع وتحاول إقناعها، فأبت أن تخوض معها فيه قبل أن ترى حسنا، شعرت بضرورة كلية لرؤية حسن في ذلك المساء، لم يكن لها متكل حينئذ سواه، هو ملاذها، وهو الذي يبعث الحياة فيها ويمدها بالقوة. انقضى الربع بعد الخامسة فلا بد أن يكون حسن قد مر فما رآها فماذا قال؟ لا ريب أنه يفترض أن أمرا غير اعتيادي طرأ عليها، ما هذا الأمر؟ يفترض ألف أمر ويحسب ألف حساب، أفلا يخطر في باله أن تكون نعيمة منتظرة إياه عند باب الحديقة الخلفي، هذه الأفكار وأمثالها خطرت لنعيمة، لم يبق لها أدنى أمل في مصادفته من الشرفة؛ لأن الوعد فات وهب أن حسن يعود فيمر مرة أخرى أو مرتين - بناء على أمل ضعيف - فإن أمها لا تزال في الشرفة فهي لا تستطيع أن تشاهده، خطر لها أنه ربما يكون قد رأى المنديل وهو عابر فأخذه وفهم المقصود، ولكن هذا الفكر نفاه إطلالها من الشرفة حين كانت تكلم أمها، ولم يكن قد مر من الوقت حينئذ أكثر من نصف دقيقة، وهي لم تشعر بمرور عربة لكي يبادر إلى ظنها أن حسن مر فأخذ المنديل؛ ولذلك رجحت أن المنديل وقع في يد غير يد حسن.
مع ذلك نزلت إلى الحديقة، نزلت إلى الحديقة لا لأمل بلقاء حسن بل لأن وجودها في غير الحديقة في ذلك الحين يكون محفوفا باليأس، وكان الفرج لا يأتي إلا من باب الحديقة الخلفي، فنزلت تتيمن بذلك الباب.
أما حسن فمر بمركبته في تلك اللحظة عينها إذ كانت نعيمة تخاطب أمها، ونظر كعادته في الشرفة فلم ير شبحا كالمعتاد مع أنه رأى النافذة مفتوحة بعض الانفتاح فخفق فؤاده للحال، وما قارب موقع المنديل حتى رآه ملقى على الأرض قرب الجدار فاستوقف العربة وتناوله وعاد، ودرجت به العربة حتى توارت في جنينة الزقاق، وحينذاك أطلت نعيمة فلم تجد المنديل فلم يخطر لها أن حسن مر في تلك اللحظة القصيرة وتناول المنديل وتوارى؛ ذلك لأن وقت الجزع لا يقدر الإنسان مدته، فيكاد يكون كوقت الفرح يمر طويله كالحلم.
أما حسن فقلب المنديل فتأكد أنه منديل نعيمة، ولكن لماذا هو مرمي على الأرض؟ وأين نعيمة لم تظهر من النافذة كعادتها؟ تأكد أن أمرا غير اعتيادي قد حصل فبعد ما توارت مركبته أمر الحوذي أن ينثني فألوى العنان، وكانت نعيمة حينئذ قد عادت من الشرفة فلم يرها، ولكن لاحظ في الشرفة حركة غير اعتيادية، ذلك أن عصمت هانم نظرت من النافذة فأبصرته في عربته ولعلها أدركت أنه ينظر إلى الشرفة.
قلق حسن لهذا الأمر جدا وحسب ألف حساب، ولكن رجح له أن نعيمة تبتغي مقابلته، وأن وقوع المنديل منها يدل على أنها كانت تلقيه على خشب النافذة فوقع، وأما من يدها فلا يقع، ومرموز إلقائه إنما هو المقابلة في اليوم التالي، ولكن ما الغرض من هذه المقابلة؟ ولماذا يقع المنديل على الأرض؟ ولماذا لم تظهر نعيمة؟ كل ذلك حير حسن وأقلق باله فخطر له أن يمضي إلى مكان اللقاء لعل نعيمة هناك ولو عرضا، وهكذا إذا التبس الأمر على امرئ عاد إلى القاعدة الأصلية، وإذا استولى عليه اليأس عاد إلى مصدر الرجاء. كان حسن يطلب نعيمة فيجدها في باب الحديقة الخلفي فلما أضاعها حينئذ قصد إلى ذلك الباب لعله يجد أثرا لها فترك العربة وقصده.
Bilinmeyen sayfa