عند ذلك وفد عزيز باشا مجدي فترحب به طاهر أفندي وعرفه بالمسيو جوزف رينان، ولما استأنفوا الحديث قال طاهر أفندي: لقد ورد لي اليوم رسالة من حسن أفندي بهجت من برلين تفيد أنه وقف على إحصاءات ترام كهربائي، وأنه قابل بعض أعضاء الشركة واستفهم منهم عن الترام بالكفاية، واستفاد فوائد جمة ومما قاله: إن درسه في حواضر بلجيكا وهولاندا وألمانيا صار كافيا، وسيعود قريبا، ولي الأمل أن يوافق سفره إلى مصر معكم؛ بحيث تشرعون بالاستعدادت اللازمة للمشروع على إثر وصولكم. - إن شاء الله، هل تؤذنون لي أن أراكم في مكتبكم دقيقة تستأذنون بها الموسيو رينان؟
فقال طاهر أفندي: لكم ما تريدون يا مولاي.
وفي الحال نهض طاهر أفندي واستأذن المسيو رينان، وخرج إلى مكتبه فتبعه عزيز باشا وهناك جلسا إلى المكتب فقال طاهر أفندي: هل أعددت الصك؟ - نعم. - بخمسين ألف جنيه؟ - نعم، كما اتفقنا. - وهل أمضاه يوسف بك رأفت شاهدا؟ - نعم، كما ترى.
ودفعه عزيز باشا إليه لكي يقرأه، فنظره طاهر أفندي، وفي الحال فتح الدرج وتناول أوراقا مالية بالمبلغ ودفعها إلى عزيز باشا، ثم قال له: أتظن هذا المال كافيا لإرضاء ذوي الشأن في منح الامتياز ولإعداد المعدات اللازمة؟ - أظنها تكفي مع ما أضمه إليها من عندي، وعلى كل حال لا بد أن تصل إلى مصر في أول أكتوبر، وحينئذ نتمم ما ينقص من السعي لدى أصحاب الأمر والنهي. - وماذا قال يوسف؟ هل يريد أن يشترك معنا في المشروع؟ - قال: إنه يريد، ولكنه لا يجسر أن يجازف بماله لأخذ الامتياز، فهو يشترك معنا متى أخذناه. - لا بأس، فلعله ضعيف الثقة بنجاح المشروع. - أما أنا فأؤكد النجاح - إن شاء الله - ولذلك لا أخاف أن أجازف. - دع كل المجازفة لي ولا أريد أن يخسر أحد قرشا في مشروع أنا أرغب فيه، ثم أذكرك ثانية بأنه يجب أن يكون لحسن أفندي ضلع وحصة في هذا المشروع؛ لأنه يد عاملة فيه، وأنا أؤكد أنه يفيد المشروع جدا بسعيه. - أعتقد ما تقول، فلا بأس أن تكون له في المشروع الحصة التي تريدها له. عند ذلك عادا إلى قاعة الاستقبال، حيث اجتمعا ثانية بالمسيو جوزف رينان، وبعد حديث قصير نزل عزيز باشا متهللا بما احتوته يده من المال الجزيل، وهو يفكر في كيف يلتهم أكثره.
الفصل الثالث عشر
ولما صار في عرض الشارع ركب مركبة درجت به، وكانت حينئذ مركبة أخرى تدرج وراءه إلى أن وصلت المركبتان إلى حانة أولومبيا فنزل عزيز باشا ودخل الحانة، وفي الحال نزل شخص آخر من المركبة الأخرى وتبعه، فما أن استوى في الحانة لدى المائدة حتى بدا أمامه شخص جوزف رينان فدهش إذ رآه، وقال باسما: سرعان ما تتبعني.
وكان جوزف قد جلس إزاءه. - تبعتك في الحال؛ لكي أحادثك في أمر ذي شأن. - عسى أن يكون خيرا. - ليس إلا الخير، عرفت بالمشروع الذي تشترك فيه مع طاهر أفندي، فوددت أن أعرض عليك أمرا بشأنه. - ماذا؟ - أريد أن أسألك أن تكون لي حصة في المشروع، فأدفع من نفقاته ما يصيبني، وما أنا بأقل ثقة فيك من طاهر أفندي الذي خبر الرجل، وما اتصل إلا بكل أمين عاقل حازم.
فأبرقت أسرة عزيز باشا، وقال في نفسه: غنيمة جديدة - إن شاء الله - ثم قال له: لا بأس عندي أنا بكثرة المعضدين للمشروع بمالهم، فهل فاوضت طاهر أفندي بالأمر؟ - كلا، لم أشأ أن أفاتحه به قبل أن أرى رأيك؛ لأني أعتقد أنك أنت ركن المشروع الأهم. - كيف عرفت بالمشروع إذن؟ - أخبرني عنه طاهر أفندي خبرا بسيطا، فخطر لي أن أفاوضك بأمر مشاركتي أولا، وأود - قبل كل شيء - أن أستفهم عن طبيعة المشروع منك لا منه؛ لأنه هو لا يدري بأحوال مصر مثلك، ولا ريب أنه لم يقدم على العمل إلا بناء على مشورتك، فأود أن أستقي الحقيقة من ينبوعها. - حسن، سل ما تريد فأفيدك. - هل تتفضل أن ننتقل إلى مكان آخر؛ لأن الحانة ليست مكان التفاوض بالأشغال، وهي غاصة بالناس واللغط يدوي فيها. - كما تشاء، أين تريد أن نذهب؟ - هلم اتبعني.
خرجا وركبا مركبة درجت بهما إلى حيث لا يدري عزيز باشا، اجتازت الشارع العمومي وتغلغلت في بعض الأزقة الضيقة، وكان فكر عزيز باشا حينئذ يجول في كيف ينصب أحبولة لرفيقه الجديد، وكان رفيقه يقول له كل هنيهة: «إني أؤمل خيرا بالعلاقة معك يا عزيز باشا.» أو يفوه بعبارة أخرى لا تخرج عن هذا المعنى إلى أن وقفت العربة أمام منزل بسيط ليس في بابه بواب وليس في الزقاق عابر فدفع المدعو جوزف أجرة المركبة فانثنت قافلة، وعند ذلك دخلا باب الدار ويمين جوزف في يسرى عزيز باشا، ولما صارا أمام السلم وهما أن يصعدا كان مسدس في يد جوزف مصوبا إلى دماغ عزيز باشا وجوزف يقول له: لا تنبس ببنت شفة، وإلا طار دماغك مع رصاص هذا المسدس حيث لا يعلم بك أحد إلا الله.
فتزعزع فؤاد عزيز باشا في صدره، ووجفت قدماه، واكفهر وجهه تحت نور المصباح الضئيل الذي ينير باب الدار، وقال له بصوت خافت: ماذا تريد؟ - الأوراق المالية التي معك كلها.
Bilinmeyen sayfa