حرمة المسلم على المسلم
تأليف
الدكتور ماهر ياسين الفحل
١٤٢٦هـ / ٢٠٠٦م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد:
فإنَّ واجب الدعوة إلى الله من أولى الواجبات، ومن أفرض الطاعات، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣] . فوجب على كل مسلم أن يقوم بهذا الواجب الديني اتجاه المجتمع وقد قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨] .
فشمرت عن ساعد الجد لأكتب عن أهم ما يدور في ساحة بلدنا الجريح، وهو التساهل في حرمة المسلم فكتبت في هذا ما بين يديك أخي المسلم الكريم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعله خالصًا لوجهه، وأنْ ينفعني به يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الغيبة:
احذر أخي المسلم من الغيبة، قال النووي في رياض الصالحين باب تحريم الغيبة:
«ينبغي لكل مكلف أنْ يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنَّه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء» (١) .
_________
(١) رياض الصالحين: ٥٤٣. رياض الصالحين من الكتب المهمة جدًا فيه جميع ما يحتاجه المسلم في عباداته وحياته اليومية؛ فينبغي لكل مسلم أن يقرأ هذا الكتاب مرارًا وتكرارًا، ويثقف عائلته بأحاديث هذا الكتاب، ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة.
1 / 1
والغيبة خصلة ذميمة لا تصدر إلا عن نفس دنيئة، وهي كما عرّفها النبي ﷺ بقوله: «ذِكركَ أخاك بما يكرهُ» (١)، وهي محرمة بل هي كبيرة من الكبائر وقد ذمها الله ﷾ بالقرآن العظيم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، ولا تقتصر على الكلام باللسان، وإنما كل حركة أو إشارة أو إيماءة أو تمثيل أو كتابة في الصحف أو على الإنترنت، أو أي شيءٍ يفهم منه تنقص الطرف الآخر؛ فكل ذلك حرام داخل في معنى الغيبة، والإثم يزداد بحسب الملأ وكثرتهم الذين يذكر فيهم المغتاب (٢) .
واعلم أخي المسلم: أنَّ الغيبة خسارة كبيرة في حسنات العبد؛ فالمغتاب يخسر حسناته ويعطيها رغمًا عنه إلى من يغتابه، وهي في نفس الوقت ربح للطرف الآخر؛ حيث يحصل على حسنات تثقل كفته جاءته من حيث لا يدري؛ لذا قال عبد الله بن المبارك - وهو أحد أمراء المؤمنين في الحديث -: «لو كنت مغتابًا لاغتبت أمي فإنها أحق بحسناتي» (٣) .
_________
(١) أخرجه: مسلم ٨/٢١ (٢٥٨٩) (٧٠) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٢) المغتاب: اسم فاعل ومفعول يدل على الذي يقوم بغيبة الناس، ويدل على الذي تقع عليه الغيبة.
(٣) فيض القدير ٣/١٦٦ للمناوي.
1 / 2
تأمل أخي المسلم في قول النَّبيِّ ﷺ في حجة الوداع فيما رواه عبد الرحمان بن أبي بكرة، عن أبيه: أنه ذكر النَّبيَّ ﷺ قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: «أي يوم هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فأيُّ شهر هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: «أليس بذي الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإنَّ الشاهد عسى أنْ يبلغ مَن هو أوعى له منه» (١) .
والذي يتأمل هذا الحديث يعلم حرمة الغيبة، وأنَّها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في الحرم المكي.
ولنتدبر جميعًا قول النَّبيِّ ﷺ حينما قال: «لما عُرِجَ بي، مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» (٢) فالمسلم الذي يحرص على نفسه يتأمل في هذا الحديث ليعلم أنَّ المغتابين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس، وهي أظفار فاقت أظفار الوحوش الضارية ليزدادوا عذابًا جزاءً وفاقًا على أفعالهم القبيحة، وأعمالهم السيئة.
_________
(١) أخرجه: البخاري ١/٢٦ (٦٧)، ومسلم ٥/١٠٨ (١٦٧٩) (٣٠) .
(٢) أخرجه: أحمد ٣/٢٢٤، وأبو داود (٤٨٧٨) و(٤٨٧٩)، والضياء المقدسي في المختارة (٢٢٨٥)
و(٢٢٨٦) من حديث أنس بن مالك ﵁.
1 / 3
ومن الغيبة أنْ تذكر أخاك المسلم بأي شيء يكرهه حتى وإنْ لم تكن تقصد ذلك فقد صحّ أنَّ عائشة ﵂ قالت: قلت للنَّبيِّ ﷺ: حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد تعني قصيرة - فقال: «لقد قُلْتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيتُ له إنسانًا فقال: «ما أحب أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا» (١) .
والغيبة داءٌ فتّاكٌ ومِعْوَلٌ هدّام يفتك في بنيان المجتمع، وهو أسرع إفسادًا في المجتمع من الآكلة (٢) في الجسد، والغيبة تُعرِّض العلاقات للانهيار وتزعزع الثقة بين الناس وتغيّر الموازين وتقلع المحبة والألفة والنصرة من بين المؤمنين، وتثبت جذور الشر والفساد بين الناس، وقد بيّن الحسن البصري ﵀ أجناس الغيبة وحدودها فقال: «الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان، فأما الغيبة: فهو أنْ تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأنْ تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فأنْ تقول فيه ما ليس فيه» (٣) .
_________
(١) أخرجه أبو داود (٤٨٧٥) .
(٢) أي: السرطان نسأل الله السلامة والعافية.
(٣) تفسير القرطبي ١٦ / ٣٣٥.
1 / 4
ورُوي من حديث أبي هريرة ﵁ يقول: جاء الأسلميُّ نبيَّ الله ﷺ فشهد على نفسه أنَّه أصاب امرأةً حرامًا - أربع مرات - كل ذلك يُعرِضُ عنه النَّبيُّ ﷺ فأقبل في الخامسة فقال: «أَنِكْتَهَا؟» قال: نعم قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها» قال: نعم قال: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟» قال: نعم قال: «فهل تدري ما الزنا؟» قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا قال: «فما تريد بهذا القول؟» قال: أريد أنْ تطهرني فأمر به فَرُجِم فسمع النَّبيُّ ﷺ رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي سَتر الله عليه فلم تَدَعْهُ نفسه حتى رُجِمَ رجمَ الكلب فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مَرَّ بجيفة حمار شائلٍ برجله فقال: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذان يا رسول الله، قال: «انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبي الله، مَنْ يأكل من هذا؟ قال: «فما نلتما من عرض أخيكما آنفًا أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» (١) .
ومن أعظم ما ورد في الزجر عن الغيبة قوله تعالى: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
[الحجرات: ١٢] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقد ورد فيها (يعني: الغيبة) الزجر الأكبر، ولهذا شبهها ﵎ بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال ﷿:
_________
(١) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (٧٣٧)، وأبو داود (٤٤٢٨)، والنسائي في " الكبرى "
(٧١٦٤) و(٧١٦٥) .
1 / 5
«أيحب أحدكم أنْ يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه»، أي: كما تكرهون هذا طبعًا فاكرهوا ذاك شرعًا؛ فإنَّ عقوبته أشد من هذا» (١) .
أخي المسلم الكريم لقد صوّرَ اللهُ الإنسانَ الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة فمثّله بمن يأكل لحم أخيه ميتًا، ويكفي قبحًا أنْ يجلس الإنسان على جيفة أخيه المسلم يقطع من لحمه ويأكل.
والغيبة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالإجماع قال القرطبي: «لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ من اغتاب أحدًا عليه أنْ يتوب إلى الله ﷿» (٢) .
والغيبة مرض خطير، وشر مستطير يفتك الأمة ويبث العداوة والبغضاء بين
أفرادها، وهذا المرض لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحم الله.
ومرض الغيبة عضال، كم أحدث من فتنة، وكم أثار من ضغينة، وكم فرّق بين أحبة وشتت بيوتًا.
والغيبة فاكهة أهل المجالس الخبيثة، وغيبة أهل العلم والصلاح أشد قبحًا وأعظم ظلمًا؛ فلحومهم مسمومة، وسنة الله في عقوبة منتقصيهم معلومة.
ولعل من أسباب الغيبة الحسد، الذي يحصل لكثير من الذين ابتعدوا عن مراقبة
الله، فتجد الكثيرين يغتابون آخرين حسدًا من عند أنفسهم؛ لأنَّ أخاهم حصل على ما لم يحصلوا عليه.
ومن أسباب الغيبة المجاملة والمداهنة على حساب الدين؛ فتجد الرجل يغتاب أخاه المسلم؛ موافقة لجلسائه وأصحابه.
ومن أسباب الغيبة الكبر واستحقار الآخرين؛ لأنَّه يثقل عليه أنْ يرتفع عليه غيره فيقدح بهم في المجالس؛ لإلصاق العيب بهم، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» (٣) .
_________
(١) تفسير ابن كثير: ١٧٥٠.
(٢) تفسير القرطبي ١٦ / ٣٣٧.
(٣) جزء من حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه مسلم في صحيحه ١/٦٤ (٩١) (١٤٧) .
1 / 6
ومن أسباب الغيبة السخرية والتنقص من الآخرين، فإنَّ بعض الناس يغتاب إخوانه المسلمين عن طريق السخرية، وغيرها من الأسباب والدسائس التي يوحيها الشيطان في صاحب الغيبة في قوالب شتى.
وللغيبة أضرار عظيمة على الفرد والمجتمع، ومن أضرارها أنَّها تُعرِّض صاحبها للافتضاح، فكلما فضحَ الإنسانُ غيرَه فإنَّ الله يفضحه؛ إذ الجزاء من جنس العمل، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: «يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّه من يتَّبع عوراتهم يتبع اللهُ عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» (١) .
ومن أضرار الغيبة أنها أذيةٌ لعباد الله تعالى، ومن آذى عباد الله فقد توعده الله تعالى بعذاب شديد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٥٨] .
ومن أضرار الغيبة أيضًا أنها من الظلم والاعتداء على الآخرين، ومعلوم أنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، وأنَّ أثر الظلم سيءٌ، وعاقبته عاقبةٌ وخيمةٌ قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾
[إبراهيم: ٤٢] .
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا» (٢) .
_________
(١) حديث صحيح أخرجه: أحمد ٤/٤٢٠، وأبو داود (٤٨٨٠)، وأبو يعلى (٧٤٢٤) من حديث أبي برزة الأسلمي.
(٢) أخرجه: مسلم ٨/١٦ (٢٥٧٧) من حديث أبي ذر ﵁.
1 / 7
ومن أضرار الغيبة أنها توجب العذاب يوم القيامة، فهي من المعاصي العظيمة، ومقترفها يقع في حقين: حق الله، وحق العبد، وهو محاسَب على تقصيره بحق الله. فأما حق العبد فهو إما أنْ يتحلله في الدنيا، أو يعطيه من حسناته أو يحمل من سيئاته إنْ لم يكن له حسنات يعطيه منها، وهذا هو المفلس كما ورد في الحديث (١) .
ومن أضرار الغيبة أنها سبب في تفكيك المجتمع، وإثارة الفتن وجلب العداوة والبغضاء بين الناس.
وعلى المسلم إذا سمع غيبة المسلم أنْ يتقي الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويذب عن عرض أخيه المسلم ويمنع المغتاب من الغيبة؛ فإنَّ المغتاب والسامع شريكان قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦] وروي عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» (٢) .
تدبر أخي المسلم، أنا لو رأينا أحدًا قائمًا على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه ألسنا نقوم جميعًا، وننكر عليه؟! بلى فلماذا لا ننكر على من يغتاب إخواننا المسلمين، ونذب عن أعراضهم؟
_________
(١) روى مسلم في صحيحه ٨/١٧ (٢٥٨١) من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إنَّ المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة = = بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب
هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أنْ يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار» .
(٢) أخرجه: أحمد ٦/٤٤٩ و٤٥٠، والترمذي (١٩٣١) من حديث أبي الدرداء ﵁، وقال الترمذي:
«هذا حديث حسن» .
1 / 8
على كل مسلم أنْ يخاف الله تعالى، وأنْ يعلم أنَّ الغيبة معصيةٌ لله وظلم على المغتاب فعلى كل مسلم أنْ يتجنب الكلام في أعراض الناس، وأنْ يعرف أنه إن وجد عيبًا في أخيه المسلم فإنَّ فيه عيوبًا كثيرة.
فعليك أخي المسلم أنْ تراقب لسانك لتعرف هل أنت واقع في هذا الداء، فإنْ كنت كذلك فاعلم أنَّ من أهم أسباب التخلص من الغيبة أنْ يحفظ الإنسان لسانه، فمن أعظم أسباب السلامة حفظ اللسان، ومن أعظم أبواب الوقاية الصمت في وقته.
ومن أهم أسباب التخلص من الغيبة أن يستشعر العبد أنَّه بهذه الغيبة يتعرض لسخط الله ومقته، وأنَّ قوله وفعله مسجلٌ عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها، وعلى المرء أنْ يستحضر دائمًا أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال تعالى: ﴿مَا يَلفِظُ مِنْ قَولٍ إلاَّ لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ﴾ [ق: ١٩] .
ومن أسباب الخلاص من الغيبة أنّ يستحضر المغتاب دائمًا أنه يهدي غيره من حسناته؛ لأنَّ الغيبة ظلم، والظلم يقتص به يوم القيامة للمظلوم من الظالم وقد قال النَّبيُّ
ﷺ: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا، أُذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة، أدل بمنزله كان في الدنيا» (١) .
فعلى المرء المسلم أنْ يشتغل بإصلاح عيوب نفسه دون الكلام في عيوب الآخرين.
النميمة:
واحذر أخي المسلم من النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس لجهة الإفساد؛ فيذهب إلى شخص ويقول: قال فيك فلان كذا وكذا، من أجل الإفساد بينهما وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وحقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
_________
(١) أخرجه: البخاري ٣/١٦٧ (٢٤٤٠) من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
1 / 9
والنمام: هو من يسعى في قطع الأرحام وقطع ما أمر الله به أنْ يوصل وهو من الذين يفسدون في الأرض قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الشورى: ٤٣] والنمام منهم.
وقال ﷺ: «إنَّ من شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه» (١) والنمام منهم.
فاعلم أخي المسلم أنَّ النميمة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ . [القلم: ١٠ - ١١] وهي من أسباب عذاب القبر وعذاب النار، فقد قال النَّبيُّ ﷺ: «لا يدخل الجنَّة نمام» (٢)، وروى ابن عباس ﵄: أنَّ رسول الله ﷺ مر بقبرين فقال: «إنَّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنَّه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» (٣) .
_________
(١) أخرجه: البخاري ٨/٢٠ (٦٠٥٤)، ومسلم ٨/٢١ (٢٥٩١) (٧٣) من حديث عائشة ﵂.
(٢) أخرجه: البخاري ٨/ ٢١ (٦٠٥٦)، ومسلم ١/٧٠ (١٠٥) (١٦٧) من حديث حذيفة بن اليمان ﵁، ولفظ البخاري: «لا يدخل الجنَّة قتات» .
(٣) أخرجه: البخاري ١/٦٥ (٢١٨)، ومسلم ١/١٦٥ (٢٩٢) (١١١) .
1 / 10
والنميمة أذىً للمؤمنين والمؤمنات، وقد حرم الإسلام الأذى بشتى أنواعه، ومنه النميمة. والنمام ذو وجهين؛ لأنه يظهر لكل من الفريقين غير الوجه الذي يظهر به للطرف الآخر، وصاحب الوجهين شر الناس يوم القيامة، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن، أشدهم كراهية له، وتجدون شر الناس، ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (١) .
وأخبر النبي ﷺ أن النمام لا يدخل الجنة وأنه يعذب في قبره وقال: «أَلا أُنبئكم ما العَضْهُ (٢)؟ هيَ النَمِيمَةُ القالةُ بين الناس» (٣) وكلُ من حُمِلَتْ إليه النميمةُ يجب عليه ستة أمور الأول: أن لا يُصدِّق النمامَ؛ لأنه فاسق. والثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح له فعله، والثالث: أن يبغضه في الله، والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، والخامس: أن لا يحملك ما حُكي على التجسس، السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نَهيتَ النمام عنه ولا تحكي نميمته.
فاحذر أخي المسلم من النميمة فإنَّها من أمراض النفوس، وهي داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر، ويفرق الأحبة ويقطع الأرحام.
قال الإمام الشافعي: «إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى يظهر» .
وينبغي على المسلم أنْ يسكت عن كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية.
_________
(١) أخرجه: البخاري ٤/٢١٦ (٣٤٩٣) ومسلم ٧/ ١٨١ (٢٥٢٦) و٨/٢٨ (٢٥٢٦) (١٠٠) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٢) العَضْهُ: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكي البعض عن البعض. لسان العرب (قول)
(٣) أخرجه: مسلم ٨/٢٨ (٢٦٠٦) (١٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود ﵁.
1 / 11
ثم اعلم أخي المسلم أنَّ البهتان على البريء من أثقل الذنوب، وويل لمن سعى بوشاية بريءٍ عند صاحب سلطان ونحوه فصدقه، فربما جنى على بريءٍ بأمر يسوءه وهو منه براء.
وقد حرم الله ﷿ المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب في الإصلاح بين المسلمين قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: ١] . وقال النَّبيُّ ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (١) .
وقد قال النَّبيُّ ﷺ أيضًا: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا» (٢) .
أخي المسلم: اعلم أنَّ مَن نَمَّ إليك نَمَّ عليك، والنمام ينبغي أنْ يُنصَحَ ويُرشَدَ، وإلا فَيُترك ويُبغَض ولا يُوثَق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة.
الكذب:
ومن حرمة المسلم على المسلم أن لا تكذب عليه: والكذب آفةٌ سيئةٌ من آفات اللسان، وهذه الآفة من أقبح الأمراض النفسية، إذا لم يسارع صاحبها بالعلاج، أودى به إلى النار، وبئس القرار، قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون﴾ .
_________
(١) أخرجه: أحمد ٦/٤٤٤، وأبو داود (٤٩١٩)، والترمذي (٢٥٠٩)، وابن حبان (٥٠٩٢) من حديث أبي الدرداء ﵁. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
(٢) أخرجه: البخاري ٣/٢٤٠ (٢٦٩٢)، ومسلم ٨/٢٨ (٢٦٠٥) من حديث أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط.
1 / 12
[البقرة: ١٠] والكذب من كبائر الذنوب وفيه أضرارٌ عظيمة، ومن أضراره: إحداث الريبة عند الإنسان - والريبة هي التهمة والشك - والكذب محل تهمة وشك، والكذب يجعل الإنسان يقع في خصلة من خصال المنافقين. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار قال النَّبيُّ ﷺ: «أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (١) .
والكذب يمحق البركة بالبيع والشراء. والكذب يعدم الثقة بالناس، ومن آثار الكذب قلب الحقائق؛ لأنَّ الكذب يصور الحق باطلًا والباطل حقًا، ولو لم يكن في الكذب سوى أنَّه يؤدي إلى النار لكفاه سوءًا، قال النَّبيُّ ﷺ: «إنَّ الكذب يهدي
إلى الفجور وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» (٢) .
_________
(١) أخرجه: البخاري ١/١٥ (٣٤)، ومسلم ١/٥٦ (٥٨) (١٠٦) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
(٢) أخرجه: البخاري ٨/٣٠ (٦٠٩٤)، ومسلم ٨/٢٩ (٢٦٠٧) (١٠٣) من حديث عبد الله بن مسعود ﵁.
1 / 13
وإذا وقع المؤمن في شيءٍ من هذه الصفة القبيحة (الكذب) فعليه أنْ يعمل على التخلص من هذه الصفة المذمومة عقلًا وشرعًا، ومن ذلك أنْ يستحضر عظمة الله ويثق به؛ لأنَّ كثيرًا من الكذب سببه الخوف من أشياء وهمية يصورها الشيطان. وعلى المسلم أنْ يكون محسنًا الظنَ بالله (١) ويعلم جازمًا أنْ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (٢) وبذلك يعلم أنَّ ما كُتِبَ له سيأتيه لا محالةَ وخاصة في أمور الدنيا.
الحقد:
ابتعد أخي المسلم كل الابتعاد عن الحقد؛ فإنَّ الحقد صفةٌ ذميمةٌ ذمها الإسلام، وهي صفة تذمها الفطرة السليمة، والحقد: أنْ يلزم قلبك استثقال أخيك المسلم والبغضة إليه، والنفار منه وأنْ يدوم ذلك ويبقى.
قال الدكتور مصطفى السباعي: «لا تحقدْ على أحدٍ فالحقد ينال منك أكثر مما ينال من خصومك ويبعد عنك أصدقاءك كما يؤلّب عليك أعداءك، ويكشف من مساوئك ما كان مستورًا، وينقلك من زمرة العقلاء إلى حثالة السفهاء، ويجعلك بقلب أسود ووجه مصفر، وكبد حرّى» .
_________
(١) روى مسلم في صحيحه ٨/١٦٥ (٢٨٧٧) من حديث جابر بن عبد الله ﵁ أنه قال: سمعت النبي ﷺ قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن» .
(٢) عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (٢٤٧)، والضياء في المختارة
(٢١٩٧) .
1 / 14
ولا تحقد على المسلم حتى لو أساء إليك، وإذا غلبتك نفسك فعليك بالعلاج، وعلاج من أساء إليك أنْ تتمعن في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣ -١٣٤] .
وعن معاذ بن أنس أنَّ رسول الله ﷺ، قال: «منْ كظم غيظًا وهو قادر على أنْ ينفذه دعاه الله ﷿ على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يخيّره منَ الحور العين ما
شاء» (١) .
وقال النبي ﷺ: «ومن كظم غيظهُ ولو شاءَ أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه
رضىً» (٢) .
ومن العلاج: أنْ تعتقد أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأنَّ هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنَّ هذا العبد ربما كان عند الله أفضل منك كما صح عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال: «رُبَّ أشعثَ أغبَر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (٣) .
قد جعل الله المحبة الخالصة بين المسلمين من أوثق عرى المحبة في الله، وقد وثّق الإسلام ذلك بوجوب المحافظة على مال المسلم وعرضه ونفسه، بأنْ لا يصيبه المسلم بأذى ولا يمسه بسوء.
_________
(١) أخرجه: أحمد ٣/٤٤٠، وأبو داود (٤٧٧٧)، وابن ماجه (٤١٨٦)، والترمذي (٢٠٢١)
و(٢٤٩٣) من حديث معاذ بن أنس الجهني ﵁، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(٢) أخرجه: ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (٣٦) عن بعض أصحاب النبي ﷺ وحسن إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (٩٠٦) .
(٣) أخرجه: مسلم ٨ / ٣٦ (٢٦٢٢) (١٣٨) من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 15
لكن بعض النفوس الخبيثة تبحر في أنهار آسنة لتتشفى في مَن أنعم الله عليهم، ورزقهم من حطام هذه الدنيا الفانية، وذلك بالحقد والحسد ليؤتي ذلك الحقد والحسد ثمارًا خبيثةً من غيبة ونميمة وحنق واستهزاء. ومجتمعاتنا - وللأسف الشديد - تعُجّ في مثل هؤلاء، ولو تدبروا كتاب الله جيدًا لما وقعوا في ذلك، قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إبراهِيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتيناهُمْ مُلكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] .
فتنبه دائمًا أخي المسلم إلى الأضرار الكبيرة التي تنجم عن الحقد، ومن تلك الأضرار: الحسد فأنت إذا حقدت على أخيك المسلم فلاشك أنَّك ستحسده على النِّعم التي أفاء الله بها عليه، وأنَّك سَتُسَرُّ بالمصائب التي تصيب أخاك المسلم، وهذا بلا
شك من صفات المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر قال تعالى: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِم دَائِرةُ السَّوءِ﴾ [التوبة: ٩٨] وقال النَّبيُّ ﷺ: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه» (١)، ولعل الحقد يزداد عند بعضهم فيدفعه على التشمت بالآخرين.
ومن أضرار الحقد أيضًا أنَّه مدعاةٌ إلى الهجر والمقاطعة أو الإعراض عنه.
_________
(١) أخرجه: البخاري ١ / ١٠ (١٣) من حديث أنس بن مالك ﵁.
1 / 16
ومن أضراره أيضًا أنَّه يدفعك إلى أنْ تتكلم في أخيك المسلم بما لا يحل، وقد يؤول بك ذلك إلى الكذب عليه أو غيبته وإفشاء سره وهتك ستره، بل ربما دفعك ذلك إلى وشايته بما يؤول إلى قتله، إلى غير ذلك من الأضرار التي تنجم عن الحقد، كالاستهزاء به والسخرية منه، وإيذاءه بالضرب، أو أنْ تمنعه حقه من قضاء دَين أو صلة رحم أو رد مظلمة، وكل ما ذُكِرَ من أضرار الحقد إنَّما هي معاصٍ يُحاسَب عليها العبدُ يوم القيامة، ويجد ذلك مكتوبًا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيكون حينذاك الندم، لكن لا ينفع الندم.
الحسد:
حذارِ أخي المسلم الكريم من الحسد، والحسد: هو تمني زوال النعمة عن صاحبها بغض النظر عن أنْ تكون هذه النعمة دينية أو دنيوية، والحسد صفةٌ ذميمةٌ ذمها ديننا الحنيف، وقد قال تعالى في ذم الحاسدين واستنكار فعلهم: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه﴾ [النساء: ٥٤] وقال النَّبيُّ ﷺ: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلُ لمسلم أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث» (١) .
_________
(١) أخرجه: مسلم ٨ / ١٠ (٥٦٣) (٣٠) من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 17
والحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ومن سلّم الله قلبه من الحسد والغل على الآخرين فقد أُعطي خيرًا عظيمًا، ومن أعظم الأحاديث في ذلك ما رواه الإمام أحمد (١) بسند صحيح من حديث أنس بن مالك ﵁ أنَّه قال: كنَّا جلوسًا مع رسول الله ﷺ فقال: «يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة» فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبَّيُّ ﷺ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجلُ مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النَّبيُّ ﷺ مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النَّبيُّ ﷺ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيتُ (٢) أبي، فأقسمتُ أنْ لا أدخلَ عليه ثلاثًا، فإنْ رأيتَ أنْ تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت. قال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنَّه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارّ (٣) من الليل، وتقلّبَ على فراشه ذكر الله ﷿، وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضتِ الثلاث ليالٍ، وكدتُ أنْ أحقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجر ثَمَّ، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول لك ثلاث مرات:
_________
(١) في مسنده ٣ / ١٦٦.
(٢) لاحيتُ: الملاحاة، المباغضة والمنازعة.
(٣) هب واستيقظ.
1 / 18
«يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة» فطلعت َ أنت الثلاث مرارٍ، فأردتُ أنْ آوي إليك، لأنظرَ ما عملك، فأقتدي به، فلم أرَكَ تعملُ كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قالَ رسول الله ﷺ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ. قال: فلما ولّيتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغتْ بكَ، وهي التي لا نطيق.
الغش:
إياك أخي المسلم أن تغش أخاك المسلم فقد قال النَّبيُّ ﷺ: «من غَشَّ فليس
مِنِّي» (١) وللغش مظاهر، ومن أعظم الغش غش الراعي لرعيته وقد قال النبيُّ ﷺ:
«كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» (٢) وكذا غش القائد لجنده، والرئيس لمرؤوسيه وصاحب العمل لعماله، ورب الأسرة لأسرته وقد قال النَّبيُّ ﷺ: «ما من عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيةً يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة» (٣) .
ومن الغش: الغش التجاري الذي يتعدى فيه الغاش على مال الغير، ولو كان شيئًا يسيرًا؛ ليحصل عليه بالحرام عن طريق الكذب، والكتمان أو إخفاء عيوب السلعة أو البخس في الميزان. وكذلك من أخطر أنواع الغش الغش في العلم؛ لأنَّ الغاش حينما يحصل على شهادة بالغش، ربما يحصل على مال حرام بذلك؛ لذا فإنَّ الغش في الامتحانات من أخطر الكوارث.
_________
(١) أخرجه: مسلم ١/٦٩ (١٠٢) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٢) أخرجه: مسلم ٦/٨ (١٨٢٩) من حديث ابن عمر ﵁.
(٣) أخرجه: البخاري ٩/٨٠ (٧١٥٠) و(٧١٥١)، ومسلم ١/٨٨ (١٤٢) (٢٢٩) من حديث معقل بن يسار ﵁.
1 / 19
ومن أخطر أنواع الغش الغش بالقول كالإدلاء بالشهادات والأقوال والمعلومات أو القضاء وغيره بشكل مخالف للحقيقة ليوقع الضرر بالناس ظلمًا وزورًا، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: «ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم قال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور» (١) .
ومن أعظم أنواع الغش لأخيك المسلم أنْ لا تأمره بالمعروف، ولا تنهاه عن المنكر، ولا تحثه على فعل الخير قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا ليتني لم اتخذ فلانًا خليلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: ٢٧-٢٩] .
وقال تعالى: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:
٦٧] وديننا الحنيف جاء لسعادة البشر في الدنيا والآخرة؛ لذا حرّم الغش بجميع أنواعه لما فيه من الفساد والضرر بالعباد بظلم بعضهم لبعض، وبإيجاد الشحناء بينهم أو بأكل أموالهم بالباطل؛ لذلك أوجب الإسلام على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة، وحذّر الإسلامُ من أسباب غضب الله، وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش.
تنبيه لمحاسبة النفس:
أخي المسلم هل حاولتَ أنْ تعد حسناتك وسيئاتك كما تعد دنانيرك ودراهمك؟
هل خلوتَ بنفسك يومًا فحاسبتَها على ما بَدَرَ منها من التقصير والإهمال في جنب الله؟
هل تأملتَ يومًا طاعتَك التي تقرّبتَ بها إلى بارئك مفتخرًا بها فوجدت أكثرها مشوبة بالرياء والسمعة وحظوظ النفس؟
_________
(١) أخرجه: البخاري ٣/٢٢٥ (٢٦٥٤) و٨/٧٦ (٦٢٧٣) و(٦٢٧٤) و٩/١٧ (٧٩١٩)، ومسلم ١/٦٤ (٨٧) من حديث نفيع بن الحارث ﵁.
1 / 20