وقال بعضهم: «الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك.» وجروا على عادتهم في الأدب الرمزي، فقالوا: «إن إبراهيم سمي في القرآن فتى لأنه كسر الصنم وصنم كل إنسان نفسه.» فالفتى في الحقيقة من خالف هواه ونفسه، وهكذا أحيا الصوفية كلمة فتوة. ونقلوا عن كبارهم كلمات فيها، فالحارث المحاسبي يقول: «الفتوة أن تنصف ولا تنصف.» وغيره يقول: «الفتوة إظهار النعمة وإسرار المنة.» وسئل أحمد بن حنبل: «ما الفتوة؟» قال: «ترك ما ترجو لما تخشى.» ولهم في ذلك الحكايات الظريفة في الفتوة كعادتهم؛ من ذلك أن صوفيا تزوج امرأة ثم ظهر عليها الجدري قبل الدخول بها، فتعامى الصوفي حتى لا يجرح شعورها، فلما ماتت فتح عينيه فقيل له في ذلك فقال: «لم أعم ولكن تعاميت حذرا من أن تحزن.« فقيل له: «سبقت الفتيان!»
ومن ذلك ما حكوه أن إنسانا يدعى الفتوة خرج من نيسابور إلى بلدة بخرسان، فدنا منه رجل ومعه جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من أكل الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فأبى الفتى النيسابوري: «ليس من الفتوة أن تصب النساء الماء على أيدي الرجال.»
وحكوا أن جماعة من الفتيان زاروا فتى فدعا غلامه ليقدم الأكل لهم، فأبطأ الغلام فسأله الرجل: «لم أبطأت؟!» فقال الغلام: «كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة طرد النمل عن السفرة، فلبثت حتى دب النمل.» فقال له صاحب البيت: «قد دققت يا غلام في الفتوة.» وتجادل الصوفية بعد ذلك جدالا ظريفا في تفسير كلمة الشيخ، هل عاب الغلام أو مدحه. وهل هذا العمل من الفتوة أو لا. وهل الخوف من إيذاء النمل بالطرد يجب أن يراعى، أو لا يراعى الخوف عند إيذاء الضيوف بالانتظار وهكذا.
وعقد الشيخ محي الدين بن العربي فصلا طويلا في الفتوة، في كتابه «الفتوحات المكية» عنوانه معرفة مقام الفتوة وأسراره، قدمه كعادته بأبيات من الشعر فيها:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها
مقدما عند رب الناس والناس
إن الفتى من له الإيثار تحلية
فحيث كان فمحمول على الراس
ما إن تزلزله الأهواء بقوتها
لكونه ثابتا كالراس في الراس
Bilinmeyen sayfa