في حوالي سنة 1938م لفت نظري وأنا أقرأ الأغاني في ترجمة حنين بن إسحاق كلمة عن الفتوة، فهمت منها أن لها نظاما خاصا، وأن للفتيان في كل بلد مكانا يجتمعون فيه ويسأل عنهم الغريب ويقصدهم، فتتبعت في الأغاني وغيره الحديث عنها. ثم رجع ذهني إلى الجاهلية، فتصفحت بعض كتب الأدب، وخصوصا ديوان الحماسة والمفضليات، وكيف استعملوا كلمة فتوة استعمالات مختلفة. ثم رأيت أن الصوفيين وضعوا في أشهر كتبهم بابا للفتوة أبانوا فيه معناها. ثم كان أن قرأت رحلة ابن بطوطة فرأيته أثناء رحلته في البلاد التركية يشيد بذكر الفتوة فيها ويبين إكرامهم للضيوف ومعاملتهم بعضهم لبعض، ثم عرضت لكلمة الفتوة في العصر الحديث.
كل هذا دعاني إلى أن أبحث في الفتوة وأتتبع معانيها في العصور المختلفة من العصر الجاهلي إلى اليوم؛ فكتبت في هذا الموضوع بعض ما حضرني، وألقيت إذ ذاك محاضرة في دار الجمعية الجغرافية، ونشرتها عقب ذلك كلية الآداب في مجلتها بمجلدها السادس الصادر في مايو سنة 1942م، وأخيرا اتجهت إلى أن أزيد فيها بعض ما عثرت عليه وأضمنها رسالة صغيرة هي هذه التي أقدمها للقراء.
ثم كان وأنا أبحث هذه الفتوة أن رأيت علاقة كبيرة - ولو علاقة تناقض - بين الفتوة والصعلكة؛ فكلاهما يؤدي معنى إنسانيا، وإن كان «الفتيان» تدل على أولاد الذوات و«الصعاليك» تدل على أولاد الفقراء.
وقد لفت نظري يوما ما ديوان سيد الصعاليك عروة بن الورد، فقرأته وأعجبت منه بالصعاليك على العموم، حتى كتبت مقالا في مجلة الثقافة عن عروة بن الوارد هذا والصعاليك قبل سنة 1944م. ثم قرأت رسالة قيمة لطالب من طلبتي عن الصعاليك في العصر الجاهلي أعدها يوسف عبد القادر خليف أفندي في الصعاليك عند الجاهلية، فأعجبتني وأعجبني موضوعها فقرأتها واستفدت منها. وتتبعت موضوع الصعاليك في الإسلام وهداني التفكير إلى أن حلف الفضول كان نتيجة لهؤلاء الصعاليك، ولولاهم لم يكن ما أبنت في الكتاب.
وعللت كيف وقفت الصعلقة في صدر الإسلام وأسباب وقوفها، وكيف ظهرت في العصر العباسي على شكل آخر إلى اليوم أيضا، فكان من البحث في الفتوة والصعلكة هذه الرسالة، فأشكر كل من كتب في هذين الموضوعين ووصلت إلى أبحاثهم واستفدت من مجهودهم والله المعين.
الفتوة في الجاهلية
لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ البلاد، وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الأشخاص، وتاريخ الكلمات قد يكون معقدا ملتويا غامضا، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ. ويجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة ليستخلص منها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة. وهذا ما أحاوله في كلمة الفتى والفتوة والصعلكة والصعاليك.
الفتوة في الأصل معناها الشباب، قالوا فتي يفتى، أي صار شابا. وقالوا هو فتي السن، بين الفتاء.
وقد ولد له في فتاء سنه أولاد أي في شبابه. وأصل كلمة فتى مصدر فتي فتى، كمرح مرحا. ثم جعلت وصفا فقالوا: «هو فتى، أي شاب» وجمعوا الفتى على فتيان وفتو وفتية. والاسم من ذلك كله «الفتوة»، ووصفوا بالفتوة الإنسان والحيوان. فقالوا إن الأفتاء من الدواب خلاف المسان. وقالوا للشاب فتى، وللشابة فتاة.
ثم نراهم نقلوا الكلمة نقلة أخرى، فاستعملوها للدلالة على القوة لأن الشباب عنوان القوة؛ قال ابن قتيبة: «ليس الفتى بمعنى الشباب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.» يدل على ذلك قول الشاعر:
Bilinmeyen sayfa