وقد أنتجت الحالة الاجتماعية في جزيرة العرب هذه الصعلكة؛ لأن أكثرهم كان من الفقراء ولا يجدون ما يأكلون، وإذا حصلوا على شيء من غارة أو نحوها فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة الأسد، وهم لا يأكلون إلا الفتات، ثم نتاج الأرض قليل محدود لا يكفي كلهم ليعيشوا عيشة سعيدة، وتكاد تكون حالتهم في الغنى والفقر كحالتنا اليوم، شعب فقير ورؤساء أغنياء، فماذا يصنعون؟
لا سبيل للتحرر من هذا إلا الإغارة على الأغنياء، ولكن بشرطين ينفعان في العلاج؛ الأول: أن يتركوا الأغنياء المحسنين لأن إحسانهم في الواقع حقق غرضهم وأسدى إلى فقرائهم خيرا كثيرا. وإن المروءة تقتضي بأن الأغنياء متى أدوا الواجب عليهم فلا يستحقون ظلما ولا عدوانا. فكانوا يتجسسون على الأغنياء؛ فمن علموا أنه كريم تركوه وشأنه، بل وحافظوا على أمواله. ومن عرفوا أنه شحيح بخيل وجدوا أنه قصر في واجبه، فنفذوا هم بالتلصص واجبهم.
والأمر الثاني: أنهم تجنبوا أن يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الأغنياء والأشحاء، وفرضوا على أنفسهم أنهم يفرقون بالسوية بينهم ما جمعوا حتى لا يكون رئيس ومرؤوس ولا غنى ولا فقير. يدل على ذلك القصة التي حكيناها عن عروة الصعاليك وأتباعه إذ أبوا عليه أن يختص بأي شيء. وبذلك يكونون مجتمعا خاصا داخل المجتمع الكبير عماده كما نقول اليوم: الاشتراكية، بل هي أسمى من الاشتراكية لأنهم كانوا يحصلون المال ممن لا يستحقه ثم ينفذون بالقوة هذه الاشتراكية.
وهم هم الرقباء على تنفيذها. وقد كثر عددهم بسبب أن أفرادا خرجوا على قبيلتهم بارتكاب جريمة لا ترضاها القبيلة فخلعوهم. فلما خلعوا لم يجدوا أمامهم إلا الصعلكة يداوون بها خلعهم وسموا الخلعاء. فيحدثنا مثلا صاحب الأغاني أن قيس بن الحدادية كان خليعا صعلوكا خلعته قبيلته خزاعة؛ لأنه اشترك مع جماعة من أسرته في قتل أحد أفراد قبيلة وعجز هو ورفقاؤه عن دفع الدية وفروا هاربين، ونزلوا على فراس بن غنم فآواهم وتصعلك مع صعاليكها، ومثله أبو الطمحان القيني وغيرهما. ويظهر أنهم لما خلعوا من قبيلتهم - ولا حماية لأحد في هذه البيئة إلا بقبيلته - اضطروا إلى الالتجاء إلى قبيلة أخرى يحتمون بها، ولم يجدوا خيرا من التصعلك؛ إذ هو يتفق مع جنايتهم لأنه جناية أخرى. وجناية كريمة خير من جناية وضيعة.
ونعود إلى ذكر شيء من أخبار رؤساء هؤلاء الصعاليك لأنه يوضح لنا صورتهم، فعروة بن الورد مثلا كان من المشاهير الصعاليك ومن شعرائهم.
يتغنى بالصعلكة وينهى امرأته عن التعرض لسيرته، فهو إذا خرج للقتال لا يصح أن تعترضه، وإذا حصل مالا وأراد أن يفرق على الصعاليك أمثاله لا يصح أن تعترض عليه أيضا.
وأكبر ميزة لعروة أنه كان رجلا يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل الذي ذكرناه وهو: (أقسم جسمي في جسوم كثيرة)
ويقول:
إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
Bilinmeyen sayfa