Kitaplar Arasında Saatler
ساعات بين الكتب
Türler
يخطر لي هذا الخاطر ثم أعود إلى نفسي فأقول: وهل الدعابة وحدها هي التي توحي إلى الذهن هذا السؤال عند قراءة التاريخ؟ وهل لا يحق لنا أن نلقي السؤال بعينه على كل مؤرخ يجد في سرد الوقائع استنباط الأحكام، ويلبس وجه القاضي الوقور، وهو يوزع الخطأ والصواب والتبرئة والاتهام بين عباد الله الذين لا يملكون له تكذيبا ولا تصويبا، ولا يقدرون بين يديه على دفاع ولا تفسير؟ وهل لا يجوز لنا أن نجرب كل مؤرخ في تدوين واقعة مما نراه ونسمعه ونعاشر جناته وشهوده، ثم نرى كيف تتناقض فيها الآراء وتصطدم الظنون، وتغيب الحقيقة وراء الأغراض والشهوات والأوهام؟ فالتاريخ إشاعات كما يقول كارليل، أو هو أساطير مصدقة كما يقول فولتير، أو هو رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة، والترجيح والتضعيف، فأنت إذن حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك.
والمؤرخ يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات، والأسانيد، والبينات، وقد يعوزه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص، والأخبار، والمصالح، والآراء، ولكل عنصر من هذه العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الحفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل، وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء.
ومما لا ريب فيه أنك إذا فهمت حوادث الحاضر فهما جيدا، أغناك ذاك عن فهم حوادث الماضي، أو أعانك على إدراك دخائلها إن كان لا بد لك من الإحاطة بها والنفاذ إليها، ولكنك إذا فهمت حوادث الماضي حق الفهم - وليس ذلك بالميسور - لم يكد يغنيك هذا عن تدبر كل حادثة تمر بك في الحياة واستخلاص عبرتها، واستطلاع أسبابها ونتائجها، فأنت لا يعنيك من حوادث الماضي حقيقة الحادثة لذاتها، وإنما يعنيك تطبيق تلك الحقيقة على حياتك، وهنا يقف التاريخ ويقف المؤرخون وتبدأ الفطانة الصحيحة، والبديهة الثاقبة، والمزايا الشخصية التي يضيف إليها العلم بالتاريخ بعض الإضافة، ولكنه لا يسد مسدها ولا ينوب عنها، وهب أن رجلا درس التواريخ جميعا، واطلع على أخبار الأمم والعظماء جميعا، وخرج منها كلها بنتيجة وجيزة هي أن الناس عباد المنافع، ولكنهم يعملون لغير منفعة معروفة في بعض الأحيان، فماذا ينفع العلم بهذه الحقيقة من يمارس الدنيا، ويحتاج إلى المعرفة بخلائق الذين يعاملونه ويعاملهم في الحياة؟ هل يبني معاملته للناس على أنهم طلاب منافع في كل سعي وكل غاية؟ إذن يخسر كثيرا من المنافع التي قد تأتي إليه من حيث لا يبغي أصحابها نفعا ظاهرا ولا فائدة قريبة، ويخسر راحة العطف التي يشعر بها من يأنس إلى الناس ويأنسون إليه في غير مطمع معيب، ولا لبانة متهمة. أم يبني معاملته لهم على أنهم زاهدون في المنافع مبرءون من العلل والمطامع؟ إذن يتخطفه الطامعون، ويعبث بحسن ظنه العابثون، ويصدمه الواقع في كل خطوة، وتفجعه الخبرة في كل صديق. أم يبني معاملته لهم على أنهم يطلبون المنفعة حينا، ويطلبون العطف حينا، وقد يطلبونهما معا في أكثر الأحيان؟ ذلك هو الحكمة والصواب، ولكنه الصواب الذي ليس يفيده فيه التاريخ شيئا، إذ كان هذا التاريخ لا يقف إلى جانبه ليريه في كل لحظة من لحظات حياته أين تكون المنفعة، وأين يكون العطف، وأين يلتقيان، وأين يفترقان؟ وليس في وسع هذا التاريخ أن يلهمه إذا هو عرف موقع المنفعة وموقع العطف كيف يكون مسلكه من طلاب المنافع وطلاب العواطف، ولا كيف تتغير معاملته لفرد فرد منهم على حسب التغير في المنفعة التي ينشدها والعاطفة التي ينقاد إليها، والعجيب أن الناس في هذا الأمر بين اثنين ليس لأحدهما حظ يذكر في غبر التواريخ، فالنظريون قلما تفيدهم الحقائق المدرسية؛ لأن آفتهم إنما تكون من التطبيق لا من الإدراك، ومزاجهم يوقعهم في الخطأ الدائم، والتردد الذي لا يسعف صاحبه في المآزق على حد قول أبي العلاء:
وأعجب مني كيف أخطئ دائما
على أنني من أعرف الناس بالناس
والعمليون ينساقون بالفطرة إلى العمل الذي يلائم كل حالة، ويتمشى مع كل بيئة، فلا حاجة بهم إلى البحث والتأمل، ولا فائدة للحوادث الماضية عندهم، إلا كفائدة الحوادث التي يعالجونها ولا يتعمقون في درسها والتعقيب عليها، وهؤلاء ساسة الأمم المفلحون لن تجد في كل عشرة منهم سائسا واحدا يطيل الدرس، ويستقصي الأسباب والنتائج، أو يستشير في المشاكل والأزمات نصيحا غير عفو الساعة ووحي الغريزة، ثم لا تراه أكثر خطأ في تصريف مشاكله وأزماته من أصحاب النظريات الذين يقيسون الحاضر على الماضي، وينعمون النظر إلى المستقبل ويجعلون لكل حادث شبيها غابرا قل أن يشبهه في جميع نواحيه؛ بل ربما رأيت أصحاب هذه النظريات وقد خلعوا عنهم ربقتها، وصمدوا على رءوسهم لا يحجمون ولا يتلعثمون كأنهم يخشون فتنة البحث فيوصدون آذانهم عن دعائه المقنع، ودعائه المريب، ومن هؤلاء «بلفور» وهو أكبر الشكوكيين في الفلسفة، وأكبر الجازمين في السياسة؛ لأنه يخاف على سياسته من «النظريات» فينفضها عنه نفضا، فإذا هو في نظرياته التي يختارها عملي أشد من العمليين في التشبث بما يبرمون. •••
ولقد كان للتواريخ الماضية فائدتها الكبرى، يوم كان الحاضر محصورا في أضيق الحدود، وكانت كل أمة مقصورة على نفسها وعلى جيرانها، تجهل الأمم البعيدة عنها، وتحسب الماضي أقرب إليها من الحاضر الذي يعيش معها في زمان واحد، أما اليوم والحاضر يتسع أمامنا إلى أوسع مداه والشعوب تحيط بنا من كل طراز قديم أو حديث، فأي خبر من أخبار الغابر البعيد لا نجد له نظيرا في أخبار الحاضر المشهود؟ وأية عبرة من الأيام الأولى لا تتوارد علينا مثيلاتها بعد ساعات من وقوعها في أقصى الشرق والغرب وأبعد الشمال والجنوب؟ فالرجوع إلى أعرق عصور الهمجية لا يجشمنا رحلة آلاف السنين في القماطر والأوراق، ولا يفصلنا عنه فاصل من زمان؛ لأنه يعيش عنا ويتصل بنا وتأتينا أنباؤه ولا تمتنع عليه أنباؤنا، ولدينا الآن معارض من الحكومات والشعوب والحضارات تضيق ببعضها رحاب التاريخ المعلوم والمجهول، وأمامنا الآن صنوف من الأنباء والخطوب، يستغرق بعضها عشرة آلاف سنة من سنوات المنقبين والمؤرخين، وفي أسماعنا الآن ثورات كالثورة الفرنسية، وغارات كالغارة التترية، ومجالس كمجالس الدولة الرومانية، ونهضات كنهضة القرون الوسطى، ووثبات كوثبة العباسيين أو كوثبة الأيوبيين، ودعوات كدعوة العقائد والأديان ، ودسائس وحروب وزعماء وطبقات، ككل ما سبق من أمثالها في كل عصر قديم وزيادة عليها من بواكير هذا العصر الحديث، فافهم البلشفية في روسيا، والزعامة في إيطاليا أو في إسبانيا أو في تركيا أو في بولونيا أو في إيران، ومطالب العمال في الدنيا بأسرها والنهضة في الصين، وحرب الاستعمار في مصر ومراكش وسورية والأفغان، وتألب القبائل بوادي الأعراب وأساليب السياسة والمال والعلم والأدب والفن في فتح الفتوح وتحويل الأحوال، واستحضر ما عبر بك من بداءة القرن العشرين إلى هذه الساعة من حوادث الأمم والأفراد، تكن على أيقن اليقين أنك لن تحتاج بعد ذلك من التاريخ إلى الشيء الكثير، وأنك إذا فاتك علم الحقيقة في هذه الأنباء التي تسمعها وتبصرها وتعيش بين أصحابها ومؤرخيها، فلأن يفوتك علم ما سلفت به الدهور أولى وأقرب إلى العقول، ذلك هو التاريخ في حقائقه وأباطيله وفائدته ولغوه، فما أسهل ما يدان هذا الذي يدين كل الناس وما أيسر ما يقضي على هذا الذي يقضي في كل مجال؟ فهل نطوي صحيفته؟ هل نقذف به في النار؟ هل نجمل تاريخه كما أجمل هو تاريخ الإنسان، فنقول إنه ولد فمات فلم ينفع أحدا بين المولد والممات!
لا! بعض الرحمة، فقد يكفي أن يظل بيننا شاهدا للاستئناس به، كما يقولون في لغة المحاكم، ثم لا نترقى به بعد إلى منزلة الجزم والإبرام.
الشعر في مصر (1)1
في الأمم الشاعرة وغير الشاعرة، والمطبوعة على الفن والآخذة فيه بضروب المحاكاة والتقليد، ولبعض الأمم عبقريات تظهر في شتى من الفنون كالموسيقى أو كالتصوير أو كالغناء وما يلحق بها من وسائل الإعراب عن النفس، وتمثيل الجمال التي لا تحصرها الفنون، وهكذا تنوعت عبقريات العرب والإنجليز والألمان والبولونيين، وأمم أخرى في الشرق والغرب وفي القديم والحديث، فما شأن مصر يا ترى بين هذه العبقريات، وما نصيبها من الشعر خاصة ومن وسائل الإعراب الأخرى عن ذوات النفوس؟ أهي شاعرة بالفطرة أم شاعرة بالمحاكاة؟ وهل شعرها من شعر العبقرية والطبع العميق، أم هو شعر الحس والألفاظ والأصداء ؟
Bilinmeyen sayfa