63

Kitaplar Arasında Saatler

ساعات بين الكتب

Türler

حرية الفكر1

مصر بلد المحافظة والتخليد. كل ما فيها باق على وتيرته، متصل بين ماضيه وحاضره، وكأنما كانت آلهتها في رأي أهل الأقدمين تأبى التجديد، أو تعجز عنه، فهي لهذا توصي القوم أن يحفظوا أجسادهم ألوف السنين؛ لتعود إليها الحياة بعد حين بلا تجديد ولا تبديل! فروح الحياة فيها لا تعرف إلا جسدا واحدا تلبسه وتستبقيه إلى يوم الرجعة إليه، ولا يخطر للقوم أنها قادرة على إنشاء جسد سواه، وابتداع لباس غيره! وهذا مثال المحافظة في تصور الحياة وتقييد القوة المنشئة في الوجود «بشكل» لا تتعداه، وما الآطام المخلدة، ولا القبور المصونة، ولا الوراثة المفروضة في العادات والأعمال والعبادات، إلا أمثلة أخرى لطبيعة المحافظة التي غبرت عليها بلاد النيل الذي يعود كما بدأ في كل عام، والرمال التي تحتفظ بكل وديعة تلقى إليها، والسماء التي تحول الأزمنة والفصول، وهي على عهدها لا تتبدل ولا تتحول.

بهذا الخلق في المصريين دامت المسيحية ودام الإسلام، فلولا صلابة في العقيدة، وصبر على العذاب، لعفى الرومان على المسيحية في مصر ثم في البلدان كافة، ولولا وقفة مصر في وجه الصليبيين لذهب الإسلام أو لانزوى بأهله في ركن من الأركان الآسيوية التي يجهلها العمران، بل لولا مصر في القدم لما كانت الموسوية - ولا كانت المسيحية والمحمدية بعد ذلك - ما هي اليوم وما شهدها عليه آباؤنا الأولون. فلمصر أثر خالد في كل دين خالد، وحصة باقية في كل ما تخيل الناس به معنى البقاء.

وأنت تذهب الآن إلى قرى الصعيد الأعلى، فإذا أنت في مصر الآثار والموميات التي غبرت عليها أدهار وأدهار، وإذا عادات القوم في الأفراح والجنازات وفي الزراعة والري والإنارة هي عادات مصر الفراعنة بلا اختلاف قط أو باختلاف جد يسير، وإذا المصريون اليوم يتوسلون بما كان يتوسل به أجدادهم الأسبقون في استعطاف الآلهة، واستجلاب الخير والنسل واستدفاع القحط والبلاء، وإذا اختلاف اللغة، والعقيدة، والحضارة، واختلاف في الطلاء لا ينفذ إلى ما وراء القشور، ولا يحجب ما وراءه من ذلك المعدن القديم.

مصر الخلود هذه ما أحوجها إلى شيء من روح التجديد، وما أفقرها إلى عقيدة الخلق والاقتحام! فإن من الحسن المرغوب فيه أن يكون المرء ذا عقيدة يسكن إليها ويغار عليها، ولكن ليس من الحسن أن تكون العقيدة غلا في عنق «القوة الخالقة» تصورها لنا عاجزة عن إنشاء جسد جديد، أو يعز عليها أن تتصور الحياة بغير هذا الجسد المحسوس! إن أظهر مظاهر الخلق هو الإنشاء والتجديد وليس هو المحافظة والجمود، وما الحياة نفسها إلا ثورة على «المحافظة والجمود» ونصر للحرية على التقييد.

فليس أصلح للعقل المصري في هذه اليقظة التي يتيقظها الآن من الجرأة على التفكير الحر، والقدرة على انتزاع المنازع المستقلة في الرأي والإحساس، وليس أحق بالترحيب من الكتب التي تفك العقول من أسر قديم لا فضل له غير القدم، أو نخرج بها عن سنة موروث لا تحفظه إلا سهولة العادة، وصعوبة الحرية والابتداع.

من هذه الكتب التي أرحب بها كتاب «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» الذي أصدرته مجلة الهلال للأديب سلامة موسى، فقد جمع فيه المؤلف أشتاتا متفرقة من تراجم أبطال الحرية، وحوادث الصراع بين الجمود والاستقلال، فقرب هذه التراجم والحوادث إلى الذين لا يعثرون بها في المطولات، وأكثر القراء الآن لا يرجعون إلى المطولات، ولا يألفون من الكتب المقروءة إلا ما يحمل في اليد أو يوضع في الجيب.

وجاءت هذه المجموعة الوجيزة في أوانها؛ لأننا نطلب اليوم الحرية، ونحب أن نكون «أحرارا» في طلبها والشغف بها، ولا نكون كأولئك الذين يطلبونها تقليدا لمن سبقوا بالطلب، فلا يحيدون عن سنتهم، ولا يعد غرامهم الذي يغرمونه بالحرية إلا نوعا رفيعا من الذل والعبودية، فكل نزعة إلى التحرير لا تأتي من داخل النفس ولا يشارك فيها الفكر والإحساس والجسد، إن هي إلا فورة تغلو ثم تهبط ولون من ألوان السكون، يبدو في زي الحركة ولا بركة فيه. •••

وليس كل استشهاد في سبيل رأي دليلا على طلب الحرية والتطور، ولا كل مجاملة دليلا على الحجر والتقية، فقد يكون المستشهد في سبيل رأيه أكثر مبالاة بالجماهير من المجامل الذي لا يرى في مطاوعة الجماهير، أو معاندتها ما يستحق التعرض للمشقة والمجازفة بالحياة، فالمعول في الاستشهاد أو المجاملة إنما يكون على طبيعة الفكرة لا على المسلك الذي يسلكه صاحبها في مناقشته المنكرين والمنافسين، ولهذا نخالف المؤلف فيما كتب في «شهوة التطور» إذ يقول: «لم نسمع قط أن إنسانا تقدم للقتل راضيا أوكد نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها أو عقار يقتنيه، وإنما سمعنا أن أناسا عديدين تقدموا للقتل؛ من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضا بأناس ضحوا بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع، فما معنى ذلك؟ معناه أن شهوة التطور في نفوسنا أقوى جدا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها وأننا لا نقوى على إنكارها وضبطها.»

فصحيح أن «الفكرة» أقوى من المال والحطام، بل صحيح أننا نطلب الفكرة حتى حين نطلب المال؛ لأننا نتوهم السعادة في اقتنائه، ثم يأتي المال ولا نزال نطلب ما وراءه ولا نكتفي بتحصيله، ولكن ليس بصحيح أن التضحية بالنفس في سبيل الفكرة، وعدم التضحية بها في سبيل الثروة والطعام دليل على شهوة التطور، وتغليب الإبداع على الجمود؛ لأن الشهداء من المحافظين على القديم أكثر عددا وأعظم بطولة في بعض الأحوال من شهداء التطور والتجديد، ولأن المرء يستشهد لأسباب كثيرة غير حب الحرية لنفسه أو للآخرين، ولا شك في أن «التضحية» بطولة تكبرها النفس أيا كان الدافع إليها والقصد منها، ولكننا نرى أن الحرية شيء والبطولة شيء آخر، وأن الشهيد قد يكون مستعبدا في بطولته والمجامل المتسامح قد يكون حرا مترفعا في مجاملته، بل ربما كان جاليل أعظم نفسا وأقل مبالاة من برونو الذي يضرب به المثل للجرأة وقلة المبالاة، فقد تقدم برونو إلى النار عنادا للجماهير، ولم ير جاليل للجماهير هذا الخطر الذي تستحق به كل هذا العناد: فكأنه يقول: من هؤلاء الذين أجبن عن مسالمتهم وأستقبل النار مخافة رأي من آرائهم؟ ليكن لهم ما يريدون، ولتظهرن الحقيقة التي أطيعهم اليوم في مداراتها، وهم صاغرون.

Bilinmeyen sayfa