أنت سابق نفسك
البهلول
المحبة
الملك الناسك
بنت الأسد
القديس
الطمع
الذات العظمى
الحرب والأمم الصغيرة
الناقدون
الشعراء
دوارة الريح
ملك أردوسة
طائر إيماني
الخلافات
المعرفة ونصف المعرفة
الصحيفة البيضاء
العالم والشاعر
الأثمان
البحار الأخرى
التوبة
المحتضر والشوحة
وراء وحدتي
اليقظة الأخيرة
أنت سابق نفسك
البهلول
المحبة
الملك الناسك
بنت الأسد
القديس
الطمع
الذات العظمى
الحرب والأمم الصغيرة
الناقدون
الشعراء
دوارة الريح
ملك أردوسة
طائر إيماني
الخلافات
المعرفة ونصف المعرفة
الصحيفة البيضاء
العالم والشاعر
الأثمان
البحار الأخرى
التوبة
المحتضر والشوحة
وراء وحدتي
اليقظة الأخيرة
السابق
السابق
تأليف
جبران خليل جبران
ترجمة
أنطونيوس بشير
أنت سابق نفسك
أنت سابق نفسك يا صاح، وما الأبراج التي أقمتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة، وهذه الذات في حينها ستكون أساسا لغيرها.
وأنا مثلك سابق نفسي؛ لأن الظل المنبسط أمامي عند شروق الشمس سيتقلص تحت قدمي عند الظهيرة، وسيعقب هذا الشروق شروق آخر؛ فيحدث ظلا ثانيا أمامي، ولكن هذا الظل عينه سيتقلص تحت قدمي أيضا في ظهيرة أخرى.
منذ البدء ونحن سابقو نفوسنا، وسنبقى سابقي نفوسنا إلى الأبد، وليس ما حشدنا ونحشد في حياتنا سوى بذور نعدها لحقول لم تفلح بعد. نحن الحقول ونحن الزارعون، نحن الأثمار ونحن المستثمرون.
عندما كنت يا صاح فكرة هائمة في الضباب كنت هنالك فكرة هائمة مثلك؛ فنشدتك ونشدتني؛ فكانت من تشوقاتنا الأحلام، والأحلام كانت زمانا بلا قيود، والأحلام كانت فضاء بلا حدود.
وعندما كنت كلمة صامتة بين شفتي الحياة المرتعشتين، كنت أنا مثلك هنالك كلمة صامتة، وما تلفظت الحياة بنا حتى برزنا إلى الوجود وقلبانا يخفقان بتذكارات الأمس والحنين إلى الغد. وما الأمس سوى الموت مطرودا ولا الغد سوى الميلاد مقصودا.
وها نحن الآن في يدي الله، فأنت شمس منيرة في يمناه، وأنا أرض مستنيرة في يسراه، ولكن قوتك إلى الإنارة ليست بأفضل من قوتي على الاستنارة.
وما نحن - الشمس والأرض - إلا بداءة لشمس أعظم وأرض أعظم، وسنبقى بداءة إلى الأبد.
أنت سابق نفسك أيها الغريب العابر بباب حديقتي، وأنا مثلك سابق نفسي، ولو كنت أجلس في ظلال أشجاري وأبدو ساكنا هادئا.
البهلول
جاء في قديم الزمان رجل من البادية إلى مدينة الشريعة العظيمة، وكان بهلولا خياليا، ولم يكن له من متاع سوى ثوبه وعصاه.
فكان يطوف في شوارع المدينة ويتأمل هياكلها وأبراجها وقصورها بإعجاب وإجلال؛ لأن مدينة الشريعة كانت في غاية من الجمال. وكان بين الآونة والأخرى يخاطب العابرين به مستفهما عن مدينتهم وغرائبها، فلم يفهموا لغته كما أنه لم يفهم لغة أحد منهم.
وعند انتصاف النهار وقف أمام فندق فسيح الأرجاء، بديع الهندسة والإتقان، وكان الناس يدخلون إليه ويخرجون منه من غير اعتراض.
فقال البهلول في ذاته: «لا شك أن هذا مزار مقدس»، ودخل مع الداخلين.
وشد ما كانت حيرته عندما وجد نفسه في بهو عظيم، وكبراء القوم من رجال ونساء جالسون إلى كثير من الموائد الأنيقة، يأكلون ويشربون، والموسيقيون يشنفون آذانهم بأطرب العزف والغناء.
فقال البهلول إذ ذاك في ذاته: «قد ضللت، فما هذه بالعبادة التي توهمت، بل هذه مأدبة أعدها الأمير لشعبه تذكارا لحدث جلل.»
وفي تلك الدقيقة دنا منه رجل، خيل إليه أنه عبد الأمير، وسأله أن يجلس مع الجالسين؛ فجلس؛ فقدمت إليه اللحوم والخمور والحلوى، أفخرها وأشهاها؛ فأكل هنيئا وشرب مريئا.
وعندما بلغ كفافه هم بالانصراف، ولكنه ما وصل إلى الباب حتى دنا منه رجل بادن متأنق اللباس فأوقفه.
فقال البهلول في نفسه: «لا شك أن هذا هو الأمير بعينه»؛ فانحنى أمامه وحياه باحترام، وشكره بلغة قبيلته.
أما الرجل البادن فخاطبه بلغة المدينة قائلا له: «يا سيدي، إنك لم تدفع بعد ثمن غدائك.»
فلم يفهم البهلول شيئا، ولكنه شكره ثانية من صميم قلبه؛ فتأمله الرجل البادن جيدا. وبعد أن أنعم النظر في وجهه مليا أدرك أنه غريب عن المدينة، وعرف من ثيابه الرثة أنه فقير الحال وليس له ما يدفعه ثمن غدائه؛ فصفق مناديا؛ فجاء على الفور أربعة من حراس المدينة ومثلوا بين يديه؛ فقص عليهم قصة البهلول؛ فألقوا القبض عليه في الحال، ومشوا به اثنين اثنين إلى جانبيه. أما البهلول فكان يتأمل ملابسهم المزركشة وهو يكاد يطير فرحا قائلا في سره: «لا شك في أن هؤلاء من أشراف المدينة.»
فسار الحراس به إلى أن بلغوا دار القضاء، فدخلوا إلى قاعة المحاكمة؛ فرأى البهلول أمامه في صدر تلك القاعة رجلا جليلا جالسا على منصة عالية، تجلله المهابة، وتزيده لحيته البيضاء المسترسلة على صدره هيبة ووقارا، فخيل إليه أنه الملك بعينه، وطارت نفسه فرحا لمثوله أمامه.
ثم بسط الحراس دعواهم إلى القاضي؛ فعين القاضي محاميين، واحدا ليدعي على البهلول، وآخر ليتولى الدفاع عنه؛ فنهض المحاميان، الواحد تلو الآخر، وأدلى كل بحججه.
أما البهلول فظن أنهما يرحبان به باسم الملك؛ فامتلأ قلبه بعواطف المنة ومعرفة الجميل للملك وللأمير على كل ما جرى له.
وعند انتهاء المحاكمة حكم القاضي بما يأتي على البهلول: «يجب أن تكتب جريمته على لوحة، وتعلق على صدره، ثم يركب حصانا عاريا، ويطاف به في المدينة، ويسير المزمرون والمطبلون أمامه.»
فنفذ الحكم في الحال، وأركب البهلول حصانا عاريا، وطيف به في شوارع المدينة، وسار المزمرون والمطبلون أمامه. وكان سكان المدينة يتراكضون على سماع الأصوات؛ فينظرون إليه وهو على تلك الحالة، ويغربون في الضحك أفرادا وجماعات. وكان الأولاد يركضون وراءه من شارع إلى شارع زرافات زرافات.
أما البهلول فكان ينظر إليهم بعينين مشرقتين فرحا، والدهش آخذ منه مأخذه؛ لأنه كان يعتقد أن اللوحة المعلقة على صدره إنما هي وسام قدمه له الملك عربون بركته ورضاه عن زيارته، وإن ذلك الموكب ما سار إلا احتفاء بحضرته.
وحدث أنه فيما هو راكب والجمع يحشده رأى بينهم بدويا من قبيلته؛ فاختلج قلبه طربا، وهتف به بأعلى صوته قائلا: «بربك يا صاح! أين نحن الآن؟ أليست هذه المدينة التي يسميها شيوخنا مدينة رغائب القلب، وشعبها الأريحيون الفياضون، الذين يحتفون بعابر السبيل في قصورهم، ويرافقه أمراؤهم، ويشرف ملكهم صدره بالنياشين، فاتحا له أبواب مدينته الهابطة من السماء؟»
فلم يقل البدوي الثاني كلمة قط، ولكنه تبسم وهز رأسه .
أما الموكب فاستمر في سيره، وكان وجه البهلول مرتفعا أبدا، والنور يفيض من عينيه.
المحبة
يقولون إن ابن آوى يشرب من الجدول الواحد الذي يشرب منه الأسد، ويقولون إن النسر والشوحة ينقدان الجيفة الواحدة وهما متفقان متسالمان. فيا أيتها المحبة العادلة، ويا من كبحت جماح رغائبي بيدك الفقيرة، وحولت مجاعتي وعطشي إلى إباء وشمم، لا تأذني للقوي العزوم في أن يأكل الخبز، أو يشرب الخمر، اللذين يستهويان ذاتي الضعيفة.
ذريني بالأحرى فأقضي جوعا بل دعي قلبي يتلهب عطشا.
واتركيني أموت وأفنى، قبل أن أمد يدي لقدح لم تملئيه أو كأس لم تباركيها.
الملك الناسك
خبرت أن فتى يعيش في غابة بين الجبال، وأنه كان فيما مضى ملكا على بلاد واسعة الأرجاء في عبر النهرين، وقيل لي أيضا إن هذا الفتى قد تخلى بملء اختياره عن عرشه وعن أرض أمجاده؛ وجاء ليستوطن القفار. فقلت في نفسي: لأسعين إلى ذلك الرجل سعيا، وأقف على ما في قلبه من أسرار؛ لأنه من يتنزل عن الملك فهو بلا شك أعظم من الملك!
فذهبت على الفور إلى الغابة حيثما كان قاطنا؛ فوجدته جالسا في ظلال سروة بيضاء، وبيده قصبة كان ممسكا بها كأنما هي صولجانه؛ فحييته تحية الملوك، وبعد أن رد التحية التفت إلي وقال بلطف: «ما عساك تبتغي في هذا الغاب الأعزل يا صاحبي؟ أجئت تنشد ذاتا ضائعة في الظلال الخضراء، أم هي عودة إلى مسقط رأسك عند انقضاء شغل النهار؟»
فأجبته قائلا: «إنني ما نشدت إلاك، ولا شاقني إلا الوقوف على ما حدا بك إلى استبدال مملكتك الكبيرة بهذه الغابة الحقيرة!»
فقال: «وجيزة هي قصتي؛ فقد انطفأت فقاقيع غروري فجأة، وإليك حكايتي: بينما كنت جالسا إلى نافذة في قصري، كان وزيري يتمشى مع سفير أجنبي في حديقتي، وعندما صارا على مقربة من نافذتي سمعت الوزير يتكلم عن نفسه قائلا: «أنا مثل الملك أتعطش للخمرة المعتقة، وأعشق جميع ضروب المقامرة، ويثور بي ثائر الغضب كسيدي الملك.» ثم توارى الوزير والسفير بين الأشجار، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعد برهة، وإذا بالوزير يتكلم عني في هذه المرة قائلا: «إن سيدي الملك مثلي يحسن الرماية، ويتعشق الألحان، وهو مثلي يستحم ثلاثا في النهار.»
وسكت لحظة ثم زاد قائلا: «في عشية ذلك اليوم تركت بلاطي، ولا شيء معي سوى عباءتي؛ لأني لم أشأ بعد ذلك أن أكون ملكا على قوم يدعون نقائصي لأنفسهم ويعزون فضائلهم إلي.»
فقلت: «ما أغرب قصتك، وما أعجب أمرك!»
فأجابني قائلا: «ليس هنالك من غرابة يا صاحبي؛ فقد قرعت أبواب سكينتي طامعا منها بالكثير، فلم يكن لك منها سوى اليسير. بربك قل لي، من لا يستبدل مملكة بغابة تترنم فيها الفصول، وترقص طروبا أبدا؟ كثيرون هم الذين تركوا ممالكهم ليستبدلوا بها أدنى مراتب الوحدة والتمتع بحياة العزلة السعيدة، وكم هنالك من نسور هبطت من جوها الأعلى لتعيش مع المناجذ في أنفاقها الصامتة؛ فتتفهم أسرار الغبراء! بل ما أكثر الذين يعتزلون مملكة الأحلام لئلا يظهروا للناس أنهم بعيدون عمن لا أحلام في نفوسهم، والذين يعتزلون مملكة العري، ساترين عري نفوسهم، حتى لا يستحي الأحرار من النظر إلى الحق عاريا والتأمل بالجمال سافرا. وأعظم من هؤلاء جميعهم ذاك الذي يعتزل مملكة الحزن، لكي لا يظهر للناس معجبا مفاخرا بكآبته.»
ثم نهض متوكئا على قصبته وقال: «ارجع الآن إلى المدينة العظمى، وقف بأبوابها مراقبا جميع الداخلين والخارجين منها. واعن بأن تجد الرجل الذي على رغم أنه ولد ملكا فهو بدون مملكة، والرجل الذي على رغم أنه مسود بجسده فهو سائد بروحه، ولكنه لا يدري بذلك ولا رعاياه يدرون بسيادته، والرجل الذي يبدو للعيان حاكما ولكنه في الحقيقة عبد لعبيد عبيده.»
وبعد أن فرغ من كلامه نظر إلي، فلاحت لي منه ابتسامة خلتها ألف فجر وفجر.
ثم تحول عني متغلغلا في قلب الغابة.
أما أنا فرجعت إلى المدينة، ووقفت بأبوابها أراقب العابرين بي، على نحو ما قالي لي. وما أكثر الملوك الذين مرت ظلالهم فوقي، منذ ذلك اليوم حتى الساعة، وأقل الرعايا الذين مر فوقهم ظلي!
بنت الأسد
وقف أربعة عبيد يروحون بمراوحهم لملكة حيزبون كانت نائمة على عرشها تغط غطيطا غليظا، وكان في حضن الملكة هرة متكئة تموء وهي تنظر إلى العبيد نظرة كره واشمئزاز.
فقال العبد الأول لرفقائه: «ما أبشع هذه الحيزبون النائمة! انظروا كيف تراخت شفتاها، وهي تصعد أنفاسها كأنما الشيطان آخذ بخناقها.»
فماءت الهرة قائلة: «إن بشاعتها في رقدتها ليست جزءا من بشاعتكم في عبوديتكم وأنتم مستيقظون.»
ثم قال العبد الثاني: «ومن الغريب أن النوم لم يلطف ملامح وجهها، بل زادها تجعدا، فهي ولا شك حالمة حلما شريرا راعبا.»
فماءت الهرة قائلة لهم: «حبذا لو تنامون أنتم وتحلمون بحريتكم!»
فقال العبد الثالث لرفقائه أيضا: «يلوح لي أنها ترى في منامها موكب جميع ضحاياها الذين قتلتهم ظلما وعدوانا.»
فماءت الهرة قائلة: «نعم، فهي ترى مواكب أجدادكم وحفدتكم.»
ثم قال العبد الرابع: «ما أغباكم! تتحدثون عن هذه الملكة وهي نائمة، وماذا يجديكم الحديث نفعا أو يجديني؟ ألعله يخفف عني نصيبي في وقوفي وعنائي في ترويحي لها؟»
فقالت الهرة وهي تموء: «أجل، إنكم ستروحون إلى دهر الداهرين؛ لأنه كما على الأرض كذلك في السماء.»
وفي تلك اللحظة تحركت الملكة في نومها فسقط تاجها على الأرض؛ فقال واحد من العبيد: «إن في ذلك لشؤما!»
فماءت الهرة وقالت: «مصائب قوم عند قوم فوائد.»
فقال العبد الثاني: «ماذا يحل بنا إذا أفاقت الآن من نومها ورأت تاجها ساقطا على الأرض؟ والله إنها تذبحنا جميعا!»
فماءت الهرة قائلة: «قد كانت تذبحكم منذ ميلادكم أيها الأغبياء وأنتم لا تعلمون.»
وقال العبد الثالث: «إنها ولا شك تذبحنا، وتعتبر أنها بعملها هذا إنما تقرب عبادة لآلهتها.»
فماءت الهرة قائلة: «لا يضحي للآلهة إلا الضعفاء.»
أما العبد الرابع فأسكت رفقاءه عن الكلام، والتقط التاج بتأن ووضعه على رأس الملكة من غير أن يوقظها.
فماءت الهرة وقالت بصوت عال: «الحق أقول لكم، إنه لا يلتقط التيجان المتدحرجة سوى العبيد.» وبعد هنيهة استيقظت الملكة، وتلفتت حواليها متثائبة ثم قالت لعبيدها: «يخيل إلي أني حلمت بأني رأيت أربع حشرات يطاردها عقرب حول جذع سنديانة جبارة. قبحه الله من حلم مزعج!»
وأطبقت عينيها؛ فنامت ثانية بعد أن ملأت القاعة بغطيطها؛ فطفق العبيد الأربعة يروحون لها على جاري عادتهم.
أما الهرة فماءت قائلة: «روحوا، روحوا أيها العميان والأغبياء؛ فأنتم لا تروحون إلا نارا تلتهم وجودكم!»
القديس
زرت في حداثتي قديسا في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وفيما كنا نبحث ماهية الفضيلة أطل عليها لص وهو يتعرج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد أعياه. وعندما وصل إلى الصومعة جثا على ركبتيه أمام القديس، وقال له: «أيها القديس الشفيق، قد جئتك طالبا تعزية؛ فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي.»
فأجابه القديس قائلا: «يا بني، إن آثامي أنا أيضا قد تعالت فوق رأسي.»
فقال له اللص: «عفوك يا سيدي! فأنا سارق، وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي.»
فأجابه القديس: «إنك واهم يا بني؛ فإنني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق.»
فقال له اللص: «ماذا تقول يا سيدي؟ فأنا قاتل، ودماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني.»
فأجابه القديس: «وأنا أيضا قاتل يا ابني، وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين.»
فقال له اللص: «يا سيدي، أنا قد ارتكبت شرورا لا تحصى، وجرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟»
فأجابه القديس وقال: «لو أنك عرفت كثرة شروري لما ذكرت شرورك.»
فانتصب اللص إذ ذاك وحدق إلى القديس طويلا، وملء عينيه دهشة وغرابة، ومضى من غير أن ينبس ببنت شفة.
أما أنا فكنت صامتا إلى تلك الدقيقة؛ فالتفت آنئذ إلى القديس وسألته قائلا: «ما دعاك إلى أن تنسب لنفسك شرورا لم ترتكبها قط يا سيدي؟ ألا ترى أن هذا الرجل قد مضى ولم يعد من المصدقين بدعوتك، والمؤمنين ببشارتك؟»
فأجاب القديس وقال: «أجل يا بني، فإنك بالصواب حكمت، بأنه لم يعد من المصدقين بدعوتي، ولكن الحق أقول لك إنه قد انصرف والعزاء يملأ فؤاده.»
وفي تلك اللحظة سمعنا اللص يغني من بعيد، وكانت الأودية تردد صدى صوته الممتلئ بالمسرة والتعزية.
الطمع
رأيت في جولاني في الأرض وحشا على جزيرة جرداء له رأس بشري وحوافر من حديد.
وكان يأكل من الأرض ويشرب من البحر بلا انقطاع، فوقفت أراقبه ردحا، ثم دنوت منه وسألته قائلا: «ألم تبلغ كفافك بعد؟ أليس لجوعك من شبع أو لظمأك من ارتواء؟»
فأجابني وقال: «نعم، نعم، قد بلغت كفافي، بل قد مللت الأكل والشرب، ولكنني أخاف ألا تبقى إلى غد أرض لآكل منها وبحر لأرتوي من مائه.»
الذات العظمى
حدث بعد تتويج نفسيبعل، ملك جبيل، أنه انصرف إلى مقصورته، وهي الغرفة التي بناها له عرافو الجبل النساك؛ فنزع تاجه، وخلع «برفيره» ووقف في وسط المقصورة، مفكرا في عظمته المتناهية، كملك جبيل الواسع السلطان في ذلك الزمان.
وكان في صدر تلك المقصورة مرآة مفضضة الإطار، أهدتها إليه أمه؛ فالتفت إليها بغتة، وإذا برجل عار قد خرج منها وتقدم إليه.
فأخذ الرعب بمجامع قلبه، وصرخ بالرجل قائلا: «ماذا تريد أيها الرجل؟»
فأجابه الرجل وقال: «أود شيئا واحدا أيها الملك، وهو أن تخبرني لماذا توجوك ملكا على هذه البلاد؟»
فقال له الملك: «قد توجوني مليكا عليهم لأنني أنبل رجل بينهم.»
فقال له الرجل: «والله لو كنت أنبل مما أنت لما قبلت الملك.»
فأجابه الملك: «بل إنما توجوني لأنني أشدهم بأسا وقدرة.»
فقال له الرجل: «لو كنت بالحقيقة أشدهم بأسا لما قبلت أن تكون مليكا عليهم.»
فقال له الملك: «ألا إنما توجني شعبي لأنني أوفرهم حكمة.»
فأجابه الرجل قائلا: «والله لو كنت أوفر حكمة مما أنت الآن لما اخترت أن تكون ملكا.»
فسقط الملك حينئذ على الأرض وبكى بكاء مرا، أما الرجل العاري فكان ينظر إليه بشفقة وحنان آسفا على جهله وغروره. ثم تناول تاج الملك المتدحرج على الأرض ووضعه بلطف على رأسه المنحني، وعاد فدخل في المرآة كما خرج وهو ينظر إلى الملك برقة وحسرة.
أما الملك فنهض بغتة إلى المرآة، وتأملها جيدا فلم ير هنالك أحدا إلاه وتاجه على رأسه.
الحرب والأمم الصغيرة
كان في أحد المروج نعجة وحمل يرعيان، وكان فوقهما في الجو نسر يحوم ناظرا إلى الحمل بعين جائعة يبغي افتراسه. وبينما هو يهم بالهبوط لاقتناص فريسته، جاء نسر آخر وبدأ يرفرف فوق النعجة وصغيرها وفي أعماقه جشع زميله.
فتلاقيا وتقاتلا حتى ملأ صراخهما الوحشي أطراف الفضاء؛ فرفعت النعجة نظرها إليهما منذهلة، والتفتت إلى حملها وقالت: «تأمل يا ولدي، ما أغرب قتال هذين الطائرين الكريمين! أوليس من العار عليهما أن يتقاتلا، وهذا الجو الواسع كاف لكليهما أن يعيشا متسالمين؟ ولكن صل يا صغيري، صل في قلبك إلى الله؛ لكي يرسل سلاما إلى أخويك المجنحين!»
فصلى الحمل من أعماق قلبه!
الناقدون
في عشية أحد الأيام كان المسافر راكبا حصانه وسائرا إلى الساحل؛ فوصل في طريقه إلى فندق؛ فترجل وربط حصانه إلى شجرة أمام الباب؛ لأنه كان واثقا بالليل وبالناس، شأن أقرانه المسافرين إلى السواحل، ثم دخل إلى الفندق مع الداخلين.
وعند انتصاف الليل كان جميع من في الفندق نياما؛ فجاء لص وسرق حصان المسافر فلم يدر به أحد.
وفي الصباح نهض المسافر من نومه، وجاء على الفور إلى حيث ربط حصانه فلم يجده. وبعد أن فتش عنه جيدا عرف أن لصا سرقه في تلك الليلة؛ فتأثر كثيرا على فقد حصانه، ولكنه حزن بالأكثر على أن بين الناس من يغريه الشر فيعمد إلى السرقة.
وعندما عرف رفقاؤه المسافرون بما جرى له تجمعوا حواليه، وبدءوا ينحون عليه باللائمة معنفين إياه.
فقال الأول: «ما أحمقك أيها الرجل! لماذا ربطت حصانك خارج الإصطبل؟»
ثم قال له الثاني: «إنني أستغرب كيف أنك لم تحجل (تقيد) الحصان عندما ربطته، فما أوفر جهلك؟»
فقال الثالث لرفيقيه: «إن السفر إلى البحر على ظهور الخيول غباوة من أساسه.»
فقال الرابع: «أما أنا فأعتقد أنه لا يقتني الخيول إلا كل بليد بطيء الخطى.»
فدهش المسافر لبلاغتهم وفصاحتهم في الوعظ والإرشاد بعد فوات الأوان، ثم قال لهم وهو يتميز غيظا: «أيها الأصحاب، عندما سرق حصاني جاءتكم الفصاحة عفوا؛ فأسرعتم الواحد تلو الآخر تعددون هفواتي وزلاتي، ولكن يدهشني كيف أنكم مع ما أوتيتم من قوة البيان، لم يقل أحد منكم كلمة عمن سرق الحصان!»
الشعراء
كان أربعة من الشعراء جالسين إلى خوان، وكان على الخوان إناء من الخمر.
فقال الشاعر الأول: «يخيل إلي أني أرى عبير هذا الخمر مرفرفا في الفضاء، كسحابة من الطيور في غاب مسحور.»
فرفع الشاعر الثاني رأسه وقال: «أما أنا فإني أسمع بأذني الباطنة هذه الطيور تغرد؛ فتأخذ ألحانها بمجامع قلبي؛ فتأسره كما تأسر الزنبقة النحلة بين وريقاتها.»
فأغمض الشاعر الثالث عينيه ورفع ذراعه وقال: «أما أنا فإني أكاد ألامسها بيدي، أشعر بحفيف أجنحتها يهب في وجهي كأنه لهاث جنية نائمة.»
فنهض الشاعر الرابع إذ ذاك، ورفع الإناء بيديه وقال: «عفوكم أيها الإخوان! فإني ضعيف البصر، ثقيل السمع، كليل اللمس، فليس في طاقتي أن أرى عبير هذه الخمرة، ولا أن أسمع غناءها، ولا أن أشعر برفرفة أجنحتها. أواه! إنني لا أشعر بغير الخمرة ذاتها؛ ولذلك يجب أن أشربها لتوقظ حواسي الخاملة، وتشعل روحي بنار بركتكم العلوية ووحيكم الطهور.»
ثم وضع إناء الخمر على شفتيه وأتى على آخر نقطة فيه.
أما الشعراء الثلاثة رفقاؤه، فكانوا ينظرون إليه بدهشة، فاتحين أشداقهم، وفي عيونهم غلة لا تروى لهبتها وبغضة لا تخمد حدتها.
دوارة الريح
قالت دوارة الريح للريح: «قبحك الله، ما أثقلك وما أملك! أليس في وسعك أن تهبي في وجه غير وجهي؟ ألا تعلمين أنك بعملك هذا إنما تعكرين صفو ثباتي الذي أعطانيه الله؟»
فلم تجب الريح بكلمة قط، ولكنها ضحكت في الفضاء.
ملك أردوسة
مثل شيوخ مدينة «أردوسة» مرة في حضرة الملك، والتمسوا منه أمرا يقضي بمنع المسكرات في مدينتهم.
فلم يجب الملك سؤلهم، بل ولاهم ظهره وتركهم ومضى، ضاحكا منهم في سره.
فانصرف الشيوخ من حضرته قانطين.
ولما بلغوا باب القصر رأوا وزير الملك، وكان هذا الوزير داهية؛ فلحظ اضطرابهم وعرف قصتهم.
فقال لهم: «أواه أيها الأصحاب! فإن الحظ لم يسعدكم لأنكم لو أتيتم إلينا عندما يكون ملكنا سكران لكنتم حصلتم في الحال على ما طلبتم!»
طائر إيماني
من أعماق قلبي هب طائر وصعد محلقا في الفضاء، وكان كلما حلق في الجو أكثر فأكثر يزداد كبرا فكبرا، فبدا أولا كالخطاف، ثم صار كالقبرة، فكالنسر، إلى أن أصبح كسحابة الربيع اتساعا؛ فملأ السماوات المرصعة بالنجوم.
من أعماق قلبي هب، وحلق في الفضاء، وكان يزداد حجمه كلما طار.
ومع ذلك فإنه ظل ساكنا في أعماق قلبي.
فيا إيماني، يا معرفتي الجامحة القديرة.
كيف أبلغ سموك، فأرى وإياك ذات الإنسان الفضلى المرسومة على أديم السماء؟
كيف أحول هذا البحر الذي في أعماق نفسي إلى ضباب كثيف، وأهيم وإياك في فضاء اللانهاية؟
أوهل يستطيع السجين في ظلمات الهيكل أن يرى قباب الهيكل المذهبة؟
أم هل للنواة أن تتمدد فتغلف الثمر كما كان يغلفها من ذي قبل؟
أجل يا إيماني الحليم! أجل، فإني مقيد بالسلاسل الحديدية في غيابات هذا السجن المحدود، تفصلني عنك هذه الحواجز المصنوعة من اللحم والعظم، وليس لي أن أطير معك الآن إلى عالم اللاحدود.
بيد أنك من قلبي تنبثق محلقا في الفضاء الواسع، وأنت لا تزال قاطنا في أعماق قلبي الوجيع، وإني بذلك لراض مستسلم قنوع.
الخلافات
حدث عندما كانت ملكة «عيشانا» في فراش مخاضها، والملك وعيون بلاطه يترقبون نجاتها من آلامها الشديدة، وهم جالسون على أحر من الجمر في قاعة الثيران المجنحة
1
أن دخل عليهم فجأة رسول مستعجل، وركع عند قدمي الملك وقال: «أيها الملك المعظم، إنني أحمل لكم بشائر الفرح، وللملكة، ولعبيد الملك أجمعين، وذلك أن محراب «الجائر» عدوك اللدود، ملك «البترون» قد قضى نحبه.»
فلما سمع الملك وكبار رجال دولته هذه البشرى نهضوا منتصبين على أقدامهم، وهللوا فرحين؛ لأنه لو طال أجل محراب الجبار سنة واحدة، لغزا أرض «عيشانا» وقاد سكانها عبيدا إلى بلاده.
وفي تلك اللحظة دخل طبيب البلاد إلى قاعة الثيران المجنحة، ودخلت وراءه قابلة الملكة؛ فانحنى الطبيب احتراما للملك وقال له: «ليعش سيدي الملك إلى الأبد، فها قد رزقك الله طفلا ذكرا، سيخلفك على العرش، ويخلد حكمك على شعوب «عيشانا» عديد السنين!»
فتهلل الملك، وطارت روحه فرحا؛ لأنه في اللحظة الواحدة هلك عدوه وتأصلت الخلافة في نسله.
وكان في مدينة «عيشانا» في ذلك العهد نبي حق، ولكنه كان فتى جريئا باسل الروح، فأمر الملك أن يحضر النبي بين يديه في تلك الليلة، فأحضر في الحال.
فقال له الملك: «تنبأ أيها النبي، وقل لنا كيف سيكون مستقبل ابني الذي ولد الآن للمملكة.»
فأجابه النبي على الفور قائلا: «أصغ أيها الملك فأنبئك الصدق عن مستقبل ابنك الذي ولد لك اليوم؛ فإن روح عدوك - عدوك اللدود الملك محراب - الذي مات في مساء أمس، لم تلبث على متن الأرياح سوى ليلة واحدة، وقد هبطت إلى الأرض ثانية تطلب جسدا تأوي إليه، فلم تر أفضل من جسد ابنك هذا الذي ولد لك اليوم فتقمصته.»
فاستشاط الملك غيظا، واستل سيفه، وقطع رأس النبي بيده، والزبد يخرج من فمه غضبا.
وها قد مرت الأيام، وتصرمت حبال السنين على تلك الحادثة، وحكماء «عيشانا» يسرون واحدهم للآخر قائلين: «أما قيل لنا في القدم، وأثبتت الأيام ذلك القول، إن «عيشانا» يحكمها عدوها؟»
المعرفة ونصف المعرفة
جلس أربع ضفادع على قرمة حطب عائمة على حافة نهر كبير، فجاءت موجة هوجاء واختطفت القرمة إلى وسط النهر؛ فحملتها المياه، وسارت بها ببطء مع مجرى النهر؛ فرقصت الضفادع فرحا بهذه السياحة اللطيفة فوق المياه؛ لأنه لم يسبق لهن أن أبحرن بعيدا من ذي قبل.
وبعد هنيهة صرخت الضفدعة الأولى قائلة: يا لها من قرمة عجيبة غريبة! تأملن أيتها الرفيقات كيف تسير مثل سائر الأحياء، والله إنني لم أسمع قط بمثلها.»
فأجابتها الضفدعة الثانية وقالت: «إن هذه القرمة لا تمشي ولا تتحرك أيتها الصديقة، وهي ليست عجيبة غريبة كما توهمت، ولكن مياه النهر المنحدرة بطبيعتها إلى البحر تحمل هذه القرمة معها، وتحملنا نحن أيضا بانحدارها.»
فقالت الضفدعة الثالثة: «لا لعمري، فقد أخطأتما أيتها الرفيقتان في خيالكما الغريب؛ فإن القرمة لا تتحرك والنهر أيضا لا يتحرك، وإنما الحقيقة أن فكرنا هو المتحرك فينا، وهو الذي يقودنا إلى الاعتقاد بحركة الأجسام الجامدة.»
وتناظرت الضفادع الثلاث في ما هو متحرك بالحقيقة، وحمي وطيس الجدال وعلا الصراخ بينهن ولم يتفقن على رأي واحد.
ثم التفتن إلى الضفدعة الرابعة التي كانت إلى تلك الساعة هادئة صامتة تصغي إليهن بانتباه واستيعاب، وسألنها رأيها في الموضوع.
فقالت لهن: «كلكن محقات أيتها الرفيقات، ولا واحدة منكن على ضلال؛ فإن الحركة كائنة في القرمة وفي النهر وفي فكرنا في وقت واحد.»
فلم يرقهن ذلك الكلام؛ لأن كل واحدة منهن كانت تعتقد أنها وحدها المصيبة وأن رفيقاتها لفي ضلال مبين.
وما أغرب ما حدث بعد ذلك! فإن الضفادع الثلاث تسالمن بعد العداء، وتجمعن فرمين بالضفدعة الرابعة من على القرمة إلى النهر.
الصحيفة البيضاء
قالت صحيفة ورق بيضاء كالثلج: «قد برئت نقية طاهرة، وسأظل نقية إلى الأبد. وإنني لأوثر أن أحرق وأتحول إلى رماد أبيض على أن آذن للظلمة فتدنو مني وللأقذار فتلامسني.»
فسمعت قنينة الحبر قولها وضحكت في قلبها القاتم المظلم، ولكنها خافت ولم تدن منها.
وسمعتها الأقلام أيضا على اختلاف ألوانها ولم تقربها قط.
وهكذا ظلت صحيفة الورق البيضاء كالثلج - نقية طاهرة - ولكن ... فارغة.
العالم والشاعر
قالت الحية للحسون: «ما أجمل طيرانك أيها الحسون! ولكن حبذا لو أنك تستطيع أن تنسل إلى ثقوب الأرض وأوكارها، حيث تختلج عصارة الحياة في هدوء وسكون!»
فأجابها الحسون وقال: «إي وربي! إنك واسعة المعرفة بعيدتها، بل أنت أحكم جميع المخلوقات، ولكن حبذا لو أنك تطيرين.»
فقالت الحية كأنها لم تسمع شيئا: «مسكين أنت أيها الحسون! فإنك لا تستطيع أن تبصر أسرار العمق مثلي، ولا تقدر أن تتخطر في خزائن الممالك الخفية، فترى أسرارها ومحتوياتها. أما أنا فلا أبعد بك؛ فقد كنت في الأمس متكئة في كهف من الياقوت الأحمر أشبه بقلب رمانة ناضجة، وأضأل الأشعة تحولها إلى وردة من نور، فمن أعطي سواي في هذا العالم أن يرى مثل هذه الغرائب؟»
فقال لها الحسون: «بالصواب قد حكمت أيتها الحكيمة، فلا أحد إلاك يستطيع أن يفترش ما تبلور من تذكارات العصور، وآثار الدهور، ولكن وا أسفاه، فإنك لا تغردين!»
فقالت الحية: «إنني أعرف نباتا تمتد جذوره إلى أحشاء الأرض، وكل من يأكل من تلك الجذور يصير أجمل من «عشتروت».»
فأجابها الحسون قائلا: «لا أحد، لا أحد إلاك قد اهتدى إلى حسر القناع عن فكر الأرض السحري، ولكن وا أسفاه، فإنك لا تطيرين!»
فقالت الحية: «وأعرف جدولا أرجوانيا يجري تحت جبل عظيم، وكل من يشرب من هذا الجدول يصير خالدا خلود الآلهة، وليس بين الطير أو الحيوان من اهتدى إلى ذلك الجدول سواي.»
فأجاب الحسون وقال: «بلى والله، فإن في منالك أن تكوني خالدة مثل الآلهة لو شئت، ولكن وا أسفاه، فإنك لا تغردين!»
فقالت الحية: «وأعرف هيكلا مطمورا تحت تراب الأرض، لم يهتد إليه باحث أو منقب بعد، أزوره مرة في الشهر. وهو من بناء جبابرة الأزمنة الغابرة، وقد نقشت على جدرانه أسرار جميع الأزمنة والأمكنة، وكل من يقرؤها ويفهمها يوازي الآلهة في العقل والمعرفة.»
فأجابها الحسون قائلا: «بلى أيتها الحكيمة العزيزة، فإنك لو شئت لاستطعت أن تكتنفي بلين جسدك جميع معارف الأجيال، ولكنك وا أسفاه لا تقدرين أن تطيري!»
فاشمأزت الحية إذ ذاك من حديثه، وارتدت عنه إلى وكرها، وهي تبربر في ذاتها قائلة: «قبحه الله من غريد فارغ الرأس!»
أما الحسون فطار وهو يغني بأعلى صوته قائلا: «وا أسفاه، إنك لا تغردين! وا أسفاه، وا أسفاه يا حكيمتي، إنك لا تطيرين!»
الأثمان
كان رجل يحفر في حقله، وفيما هو يحفر عثر على تمثال بديع من المرمر الجميل؛ فأخذه ومضى به إلى رجل كان شديد الولع بالآثار والعاديات وعرضه عليه،؛ فاشتراه منه بأبهظ الأثمان، ومضى كل منهما في سبيله.
وبينما كان البائع راجعا إلى بيته أخذ يفكر في ذاته قائلا: «ما أكثر ما في هذا المال من القوة والحياة! إنه بالحقيقة ليدهشني كيف أن رجلا عاقلا ينفق مالا هذا مقداره لقاء صخر أصم فاقد الحركة، كان مدفونا في الأرض منذ ألف سنة ولم يحلم به أحد.»
وفي الساعة عينها كان المشتري يتأمل التمثال مفكرا وقائلا في ذاته: «تبارك ما فيك من الجمال! تبارك ما فيك من الحياة! حلم أية نفس علوية أنت؟ هذه بالحقيقة نضارة أعطيتها من نوم ألف سنة في سكينة الأرض! إنني والله لا أفهم كيف يمكن الإنسان أن يبيع مثل هذه الطرفة النادرة بمال جامد زائل.»
البحار الأخرى
قالت سمكة لأختها: «يوجد فوق بحرنا هذا بحر آخر، وفيه مخلوقات متنوعة تعيش وتسبح هنالك كما نعيش نحن ها هنا ونسبح.»
فأجابتها أختها وقالت: «تلك أوهام! تلك أوهام! ألا تعلمين أيتها العزيزة أن كل مخلوق يترك بحرنا قيد قيراط واحد، ويبقى خارجا عنه، يموت في الحال؟ إذن فما هي حجتك على وجود أحياء أخرى في بحار أخرى؟»
التوبة
دخل رجل في ليلة ظلماء إلى حديقة جاره؛ فسرق أكبر بطيخة وصلت إليها يده وحملها وجاء بها إلى بيته.
وعندما كسرها وجد أنها عجراء لم تبلغ بعد نموها؛ فتحرك ضميره في داخله وأوسعه تأنيبا؛ فندم على أنه سرق البطيخة ...
المحتضر والشوحة
مهلا ولا تلجي يا أختاه، مهلا!
فعما قريب أترك لك هذه البقية التلفة؛
فإنها تستفرغ صبرك بطول نزاعها.
إنني أضن بجوعك أن يترقب تصرم هذه الهنيهات؛ لأن هذه القيود وإن كانت من اللهاث، فإن كسرها لعسير. إن رغبتي في الموت، وهي أبعد رغائبي، مقيدة بسلاسل رغبتي في الحياة، وهي أدنى رغائبي.
عفوك أيتها الرفيقة، فإنني متماهل بطيء.
هي الذكرى تمسك بروحي فتعيد إليها تذكارات مضت فتريها مواكب الأيام الذاهبة.
ومرأى شباب غابر قضيته في حلم.
وتشخص أمامي وجها يأمر أجفاني بألا تغمض.
وتعيد إلى مسمعي صوتا لا يزال صداه مترددا في أذني.
ويدا تلامس يدي ولا أراها.
عفوك أيتها الرفيقة، فقد طال انتظارك.
ولكن ها قد دنت الساعة، وكل شيء عابر زائل: الوجه والعينان واليدان، والضباب الذي جاء بها.
ها قد حلت العقدة.
قد تقطع الحبل.
وذلك الذي ليس بالطعام ولا بالشراب قد تنحى وراح.
تقدمي يا رفيقتي الجائعة، تقدمي فقد أعدت المائدة، والطعام حقير يسير، ولكنه يقدم بمحبة.
هلمي واغرزي منقارك في جنبي الأيسر،
وأخرجي من بين قضبان قفصه هذا الطائر الأصغر،
الذي لن يرفرف جناحاه فيما بعد.
بربك خذيه وحلقي به في رحاب الفضاء.
هلمي، هلمي إلي يا صديقتي؛
فأنا مضيفك الليلة، وأنت ضيفي العزيز، فأهلا ومرحبا!
وراء وحدتي
إن وراء وحدتي وحدة أبعد وأقصى.
وما انفرادي للمعتزل فيها سوى ساحة تغص بالمزدحمين،
وما سكوني للساكنين فيها سوى جلبة وضجيج.
إنني حدث مضطرب هائم بعد، فكيف أبلغ تلك الوحدة القاصية؟
إن ألحان ذلك الوادي تتموج في أذني،
وظلاله السوداء تحجب الطريق عن عيني،
فكيف أسير إلى تلك الوحدة العلوية؟
إن وراء هذه الأودية والتلال غابة حب وافتتان،
وما سكوني لمن فيها سوى عاصفة هوجاء صماء،
وما افتتاني لعاشقيها سوى انخداع وغرور. •••
إنني حدث مضطرب هائم بعد، فكيف أبلغ تلك الغابة القدسية؟
فإن طعم الدماء لا يزال في فمي،
وقوس أبي ونشابه ما برحا في يدي،
فكيف أسير إلى تلك الوحدة العلوية؟ •••
إن لي وراء هذه الذات السجينة ذاتا حرة طليقة،
وما أحلامي في عقيدتها سوى حرب في ظلام،
وما رغائبي تجاه رغائبها سوى قرقعة عظام. •••
إنني حدث مهان ذليل بعد،
فكيف أكون ذاتي الحرة الطليقة؟
أجل، كيف أكون ذاتي الحرة الطليقة
قبل أن أثأر لنفسي؛ فأذبح جميع ذواتي المستعبدة،
أو قبل أن يصير جميع الناس أحرارا طلقاء؟
إذ كيف تطير أوراقي مترنمة فوق الريح
قبل أن تذوي جذوري في ظلام الأرض؟
بل كيف يحلق نسر روحي طائرا أمام وجه الشمس
قبل أن تترك فراخي عشها الذي بنيته لها بعرق وجهي؟
اليقظة الأخيرة
في غلس الليل العميق، وقد هب النسيم معطرا بأنفاس الفجر الأولى، نهض «السابق» - وهو صدى الصوت الذي لم تسمع به أذن بعد - فترك مقصورته وصعد إلى سطح بيته. وبعد أن وقف هناك طويلا ينظر إلى المدينة الهاجعة في سكون الليل، رفع رأسه، وكأنما قد تجمع حواليه أرواح أولئك النائمين المستيقظة، وفتح فاه وخاطبهم قائلا: «يا إخوتي وجيراني، ويا أيها المارون ببابي في كل يوم، إنني أود أن أناجيكم في نومكم، وفي وادي أحلامكم، أود أن أمشي مطلقا عاريا، فإن ساعات يقظتكم أشد غفلة من نومكم، وآذانكم المثقلة بالضجيج كليلة صماء.
لقد أحببتكم كثيرا وفوق الكثير.
قد أحببت الواحد منكم كما لو كان كلكم،
وأحببتكم جميعا كما لو كنتم واحدا.
ففي ربيع قلبي كنت أترنم في جناتكم،
وفي صيف قلبي كنت أحرس بيادركم.
أجل، قد أحببتكم جميعكم، جباركم وصعلوككم، أبرصكم وصحيحكم. وأحببت من يتلمس منكم سبيله في الظلام، كمن يرقصه أيامه على الجبال والآكام.
أحببتك أيها القوي، مع أن آثار حوافرك الحديدية لا تزال ظاهرة في لحمي.
وأحببتك أيها الضعيف على رغم أنك جففت إيماني، وعطلت علي صبري.
أحببتك أيها الغني، في حين أن عسلك كان علقما في فمي. وأحببتك أيها الفقير، مع أنك عرفت عوزي وفراغ ذات يدي.
أحببتك أيها الشاعر المقلد، الذي يستعير قيثارة جاره ليضرب عليها بأصابعه العمياء، أحببتك كرما ولطفا. وأحببتك أيها العالم الدائب عمره في جمع الأكفان الرثة من حقل الخزاف الممقوت.
أحببتك أيها الكاهن الجالس في سكون أمسه متسائلا عن مصير غده.
وأحببتك أيها العابد الذي يتخذ له من أشباح رغائبه آلهة يعبدها.
أحببتك أيتها المرأة، المتعطشة وكأسها مملوءة أبدا؛ لأنني عرفت سرك.
وأحببتك أيتها المرأة الساهرة لياليها، مشفقا عليك.
أحببتك أيها الثرثار قائلا في نفسي: «إن للحياة كثيرا فتقوله.»
وأحببتك أيها الأبكم قائلا في سري: «حبذا لو أسمع نطقا يعبر عما في صمته.»
أحببتك أيها القاضي والناقد، ولكنكما عندما رأيتموني مصلوبا قلتما: «ما ألطف نزف دمائه من عروقه، وما أجمل الخطوط التي ترسمها في مسيلها على جلده الناصع!»
أجل، أحببتكم جميعكم، فتاكم وشيخكم،
وأحببت قصبتكم المرتجفة كسنديانتكم الجبارة الراسخة،
ولكن وا أسفاه، فإن قلبي الطافح بحبكم قد حول قلوبكم عني،
لأن في وسعكم أن ترتشفوا خمرة المحبة من القدح الصغير، ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر الفياض.
إنكم تستطيعون أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس في آذانكم،
ولكنكم تصمون آذانكم عندما تصيح المحبة مهللة بأعلى صوتها.
وعندما رأيتم أنني قد أحببتكم جميعكم بالسوية، تهكمتم قائلين: «ما أسهل انقياد قلبه، وما أبعد الفطنة عن مسالكه! إن محبته هذه محبة متسول جائع، قد تعود التقاط الفتات، ولو كان جالسا إلى موائد الملوك، بل هي محبة ضعيف حقير؛ لأن القوي لا يحب إلا الأقوياء.»
وعندما رأيتم أنني أحببتكم حبا مفرطا قلتم: «إن محبته هذه محبة أعمى لا يميز بين جمال الواحد وبشاعة الآخر، بل هي محبة عديم الذوق، الذي يشرب الخل كأنه يشرب الخمر. بل إنما هي محبة فضولي مدع؛ إذ أي غريب يستطيع أن يحبنا كأبينا وأمنا وأختنا وأخينا؟»
وهذه أقوالكم وغيرها كثير؛ لأنكم طالما أشرتم إلي بأصابعكم في شوارع المدينة وساحاتها، وقلتم بعضكم لبعض ساخرين: «بربكم انظروا الصغير الكبير، الذي لا يعبأ بالفصول والسنين؛ فهو عند الظهيرة يلاعب أولادنا، وعند المساء يجالس شيوخنا مدعيا الحكمة والفهم.»
أما أنا فكنت أقول في قلبي: «لا بأس في ذلك؛ فإني سأحبهم أكثر فأكثر، ولكني سوف أسدل على محبتي ستارا من البغض، وأستر عطفي بشديد كرهي، وسأتبرقع ببرقع من حديد، ولا أسعى وراءهم إلا مسلحا مدرعا.»
وبعد ذلك ألقيت يدا ثقيلة على رضوضكم وجراحكم. وكما تعصف العاصفة في الليل رعدت في آذانكم.
ومن على السطوح قد أذعتكم للملأ فريسيين مرائين خداعين، وفقاقيع أرض كاذبة فارغة.
قد لعنت قاصري النظر فيكم كما تلعن الخفافيش العمياء،
وشبهت الملتصقين بالأرض والأدنياء منكم بالمناجذ (جمع خلد) العادمة النفوس.
أما الفصحاء والبلغاء بينكم فدعوتهم متشعبي الألسنة، ودعوت الصامت الساكن فيكم متحجر القلب والشفتين، وقلت في البسيط الساذج: «إن الأموات لا يملون من الموت.»
قد حكمت على الساعين وراء المعرفة البشرية منكم ومن أبنائكم كمجدفين على الروح القدس.
وحكمت أيضا على المأخوذين والمجذوبين بحب الأرواح وما وراء الطبيعة كمصطادي أشباح، يرمون شباكهم في مياه راكدة، ولا يصطادون سوى ظلالهم البليدة.
كذا شهرتكم بشفتي، ولكن قلبي، والدماء تنزف منه، كان يدعوكم بأرق الأسماء وأحلاها.
أجل أيها الأصحاب والجيران، فإن المحبة قد خاطبتكم مسوقة بسياط ذاتها.
والكبرياء قد رقصت أمامكم متعفرة بغبار خيبتها مذبوحة بآلامها،
وتعطشي لمحبتكم قد ثار ثائره على السطوح،
ولكن محبتي كانت تسألكم صفحا وهي راكعة صامتة.
ولكن إليكم المعجزة يا قوم:
إن تستري قد فتح عيونكم، وبغضي قد أيقظ قلوبكم.
والآن أنتم تحبونني!
إنكم لا تحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم، والسهام التي تخرق صدوركم،
لأنكم لا تتعزون إلا بجراحكم، ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم.
وكما يتجمع الفراش حول اللهيب، ساعيا وراء حتفه، تجتمعون أنتم كل يوم في حديقتي، وبوجوه مرتفعة، وعيون شاخصة، تراقبونني وأنا أمزق نسيج أيامكم؛ فتتهامسون فيما بينكم قائلين: «إنه يبصر بنور الله، ويتكلم كأنبياء المتقدمين؛ فيحسر القناع عن نفوسنا، ويحطم أقفال قلوبنا. وكما يعرف النسر مسالك الثعالب، يعرف هو أيضا طرقنا ومسالكنا.»
بلى، فإني بالحقيقة أعرف طرقكم، ولكن كما يعرف النسر طرق فراخه، وإنني - بمسرة قلب - قد كشفت لكم سري، ولكنني لحاجة بي إلى قربكم أتظاهر بالجفاء، وخوفا مني على دنو قضاء محبتكم أقوم على حراسة سدود محبتي.»
وبعد أن فرغ السابق من كلامه غطى وجهه بيديه وبكى بكاء مرا؛ لأنه أدرك في قلبه أن المحبة المحتقرة في عريها لأعظم من المحبة التي تنشد الظفر في تسترها وتنكرها، وخجل إذ ذاك من ذاته.
ثم رفع رأسه بغتة، وكأنه أفاق من نوم عميق، وبسط ذراعيه وقال: «ها قد ولى الليل، ونحن أولاد الليل، يجب أن نموت عندما يأتي الفجر متوكئا على التلال، وستبعث من رمادنا محبة أقوى من محبتنا، وستضحك في نور الشمس، وستكون خالدة.»
Bilinmeyen sayfa