فقالت ويدها على أذنها. «إيه» فقلت لصاحبي: «صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورن، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للأسطول فإنهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتيها فيستأنفن جر «اللبان» ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليه فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضا تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبدا لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ما طلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فأطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر.
ولما جاء وقت الطعام تخيرنا رقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل فنشرنا لهن مناديلهن فإن مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما على ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.
وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لاتعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. ولكن المرأة هكذا أبدا. تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فإنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام - وأن أعذر - إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح، وأحسب أن الرجال جميعا مثلي جهلة مساكين. ولاشك أن المرأة يحيرها كذلك ملا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام.
2
يندر أن تجد امرأة تستطيع أن تصادق رجلا من غير أن تخلط الصداقة بالحب أو ما هو منه بسبيل - أعني حين يكونان في سن - وعلى حال - تسمح بإمكان هذا الخلط أو توقعه. وعسى أن أكون قد تجنيت على المرأة فما أعرف أن الرجل أقدر منها على إبقاء هذا التحول إلا قليلا.. ومن يدري.. لعل نظام الحياة الذي أقامه الإنسان وكظه بالمواقع والحواجز بين الرجل والمرأة قد زحزح هذه العلاقة عن مكانها الطبيعي وجعل لها عندنا صفة خاصة ومقاما بمجرده لا تتصل فيها بغيرها من العلاقات الإنسانية العاجية - كأن تلك غير عادية - وأقام للصداقة حدودا وللحب حدودا لا تتداخل ولا تتقارب فاضطرب تفكيرنا جدا من جراء هذا الشطط في التعمل والإغراق في التكلف. فنحن نتخير الألفاظ التي نصف بها العلاقات بين الناس وفق ما يوحيه إلينا النظام الذي ألفنا أن تقوم عليه حياة جماعتنا الخاصة فنجعل هذه العلاقات على ضربين - ضرب عادي - كالذي يكون مثلا بين الرجل والرجل أو الرجل وأمه أو أخته أو بنته الخ وضرب آخر جنسي كالذي يكون مثلا بين الرجل وزوجته أو غيرها من النساء - في الأغلب والأعم - ولست أرى هذه العلاقة الجنسية إلا عادية جدا بل لعلها هي وحدها العادية وسواها هو الذي نجم منها ونشأ عنها وتفرع عليها ولا أرى أي موجب لأن نجعل لها كل هذا الشأن الخاص الذي يميزها ويفردها ويبرزها ويدير الخواطر عليها إدارة لا تستحقها ولا نحمد أثرها لأنها تفقد المرء القدرة على الاحتفاظ بالقيم الحقيقية لضروب العلاقات وتمسخ تفكيره وتحول دون استجلاء الحقائق على وجهها وصورتها الصحيحة.
على أن هذا استطراد أغراني به أن الكلام يفتح بعضه بعضا والذي أردت أن أقوله لما تناولت القلم هو أن لي صديقة متزنة تعجبني منها قدرتها على إبقاء هذا الخلط كائنا ما كانت علته وهي تزورنا ونزورها كلما سنحت لنا ولها الأحوال ونأنس بحديثها فإنها محدثة بارعة ولولا أن الأمر لا يعدو بيننا هذا الحد لصح فيها قول ابن الرومي. «وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز» ولكن البيت الثاني يصدق وذلك حيث يقول: «إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز» غير أنا لا نتفق أبدا على رأي ولا تلتقي نظرتانا إلى شيء «في ملتقى منه واحد» وتلك هي المزية فما ثم أي خير في صداقة بين اثنين متماثلين متطابقين حتى ليعد أحدهما نسخة من صاحبه. وبمضي الوقت في الجدل فإذا نحن قد سلخنا نصف نهار أو هزيعا أو اثنين من ليل ويخشى الذي يرانا ولا يعرفنا أن تقع الجفوة وتحل النبوة وتحدث القطيعة ولكن الواقع أن هذا الجدال الحامي لا يزيد الحال بيننا إلا وثاقة. وأنا لا أزال أقول لها أن المرأة مخلوق غير الرجل وأنه ليس بصحيح أنها خلقت من ضلع في جنبه الأيسر - أي قريب من القلب - وانه لو كتب علي أن تكوني زوجتي لكنت أشقى الناس بك وكنت أنت أشقى الناس بي وليس ذلك لنقص في جمالك - وهو ما تعتزين وتعتز به كل امرأة - بل لأن الحياة معك تكون كالسير بين الوعور والحفر فتقول لي إنك كاذب أو أنت تغالط نفسك فليس أحب إليك من هذا الجدل الذي لا ينتهي إلى اتفاق ولذلك تأنس بمجلسي كما لا تأنس بمجلس سواي وأني لأستطيع أن أحلف إنك تستأنف حوارنا وجدلنا فيما بينك وبين نفسك وتود لو عدت إلي أو عدت أنا إليك لتفضي إلي بما خطر لك أن حجتك تعلو به على حجتي.
وصفحة وجهها كتاب مفتوح فما نظرت إليها إلا عرفت ما يجول في رأسها الصغير - فإنه صغير وإن كان عقلها كبيرا - قلت لها مرة وقد زارتنا في يوم صيفي وساعة لا يطيب فيها للإنسان إلا أن يكون في ثلاجة أو برميل ماء بارد «هذه الزيارة ليست لله» فضحكت وقالت كن ملاكا واصحبني إلى دكان ... فإني أريد أن أشتري بضعة أشياء قلت: «قولي كن مجنونا.. إن الذي يصحب امرأة حين تريد أن تشتري أشياءها لا يكون إلا مسلوب الرشد قليل العقل.. جنس لطيف.. والله ما أعرف اسمك من جلد المرأة ... تذهب إلى الدكان فيخف الرجل المسكين إليها ويحتفي بها ويقدم لها الكرسي ويتلطف ويسألها هل تسمح له أن يطلب لها ليمونا باردا أو قهوة ... ويفرك الأبله يديه ويسألها في أدب جم وبابتسامة عريضة تصل فمه بأذنيه بماذا تأمر.. فتأمر حضرتها بأن يعرض عليها كل ما عنده فوق الرفوف فيحمل الرجل ويضع.. لا تضحكي.. إنما أعني أنه يحمل إليها ما تشير إليه أو تصفه ويضعه أمامها وينشره على عينها فتجسه وتقلبه وتمط بوزها وتشير إلى غيره وتخرج مرآتها من المحفظة وتنظر إلى صورتها فيها برهة ثم تعود إلى التقليب وهكذا والرجل يتصبب عرقا وبعد ساعة أو اثنتين والمسكين صابر، تبتسم وتقول لا مؤاخذة.. إنما كنت أريد أن أتفرج فقط.. تتفرج.. فقط وتخرج تخطر وتدعه ينفلق ويطق ويلعن الوجه الذي أصبح عليه في يومه وهي مسرورة لا تباليه ولا تدرك ما كلفته ولا ترحمه ولا تشعر أنها خليقة أن تخجل.. لا يا ستي.. خذي زوجتي إذا شئت فإنها امرأة مثلك واعفيني بالله من شرف السير في ركابك العالي فإني لا أريد أن أصاب بالفالج وإذا كنت لا ترحمينني فارحمي أولادي فإنهم مازالوا زغب الحواصل..».
فتضحك ولا ترى في خطبتي الطويلة هذه إلا أنها مثال لأسلوب الرجل في التفكير.
وكانتا - هي وزوجتي - معي مرة خرجنا لنشتري ملاءات مما يفرش على السرير فشرطت عليهما أن تدعاني أتولى أنا أمر الشراء وأن تبقيا في السيارة وإلا فأن مستعف فقبلتا على مضض وبعد جدال طويل ولم يقنعهما الكلام ولكنهما رأتاني وضعت رأسي على كفي وأصررت وأضربت عن ذكر العواقب فرضيتا - على مضض كما قلت - وذهبت بهما إلى محل.. وتركتهما في السيارة ولو وجدت سبيلا لإيصادها عليهما لفعلت ولكن اليوم كان حارا وقد خفت أن أتهم بخنقهما. وقصدت إلى حيث توجد هذه الملاءات فانتقيت منها أمتنها وأجودها وأكبرها - وأغلاها أيضا - وأديت الثمن ولم أغب عنهما إلا دقائق فما كان منهما إلا أنهما صرختا في وجهي.. صرختا لأني رجعت بهذه السرعة.. إذن لابد أن تكون الملاءات أسخف ما يمكن أن تكون نسجا وثمنها قد رمي في التراب.. ولكن يا ستي أنت.. وأنت أيضا يا ستي.. جساها شداها.. انظرا متانة نسجها.. تأملا طولها وعرضها.. لا فائدة.. لابد أنه كان هناك ما هو خير من هذه الملاءات وإذا لم يكن ما هو خير فالمحلات الأخرى كثيرة فماذا كان داعي هذه العجلة وإلقاء الفلوس في التراب فلما ضجرت ويئست من إقناعهما بأن المعول في هذا الأمر ليس على ما يضيع من الوقت في الانتقاء قلت لهما أن حل المشكل بسيط.. دعوا لي هذه الملاءات وخصوا بها سريري. أم أنت يا زوجتي الفاضلة فاشتري لنفسك ولولديك ملاءات أخرى متى رزقني الله بثمنها وعوضي على الله.
أترى الوقت لا قيمة له عند المرأة.. تقول الصديقة الفاضلة إن هذا كلام فارغ وأن المرأة تعرف قيمة الوقت كما يعرفها الرجل فأقول ولكني أرى المرأة تقضي ساعة وساعات في زينتها ومن الممكن أن تتزين في دقائق فترد علي بأن من الرجال من يضيع وقتا طويلا في لبس ثيابه. فأقول إن هؤلاء كالنساء فارغون أو أنهم لا يدركون قيمة الوقت إدراكا صحيحا. وليس كل الرجال كذلك ولكن كل النساء كذلك وينقصني أن أعرف المرأة التي تستطيع أن تثب من سريرها وتتجهز للخروج في دقائق معدودات كما يفعل معظم الرجال ولست أنحي على المرأة من أجل ذلك فإنها معنية بجمالها - ولو كانت أقبح من قرد - والرجل معني بعمله وسعيه في الحياة فليست الزينة مطلبه لأنه ليس ثم ما يبغيه بها ولكنها مطلب المرأة لأنها عندها أداة لتأكيد جمالها وإبرازه ولفت النظر إليه ولإرضاء إحساسها هي بما تتوهمه من جمالها. وأقول ما تتوهمه لأنه ليس كل امرأة جميلة ولكنه ما من واحدة تشك في أنها كذلك مهما بلغ من دمامتها في نظر الرجال ولا رد لصديقتي على هذا وأمثاله إلا أننا معشر الرجال مغرورون مستبدون وأننا نرى الرأي في المرأة فنظن أنه كل الصواب ونحاول أن نفرضه عليها.
Bilinmeyen sayfa