وقد جربت أن أكتب ولا أنشر، فكتبت رواية «طويلة» ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت علي، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والإضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئا جديدا فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوما أن أخرجها وأتصفحها ، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية.. فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولا تصلح أن تكون قصصا قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألا أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم.
وأذكر أن بعضهم سألني مرة «أي كتبك أحب إليك؟» فلما قلت: «ولا واحد» استغرب جوابي وأنكره، وذكرني بأني قلت مرة إن هذه المفاضلة عسيرة لأن الكتب كالأبناء، والوالد لا تخفى عليه مزايا أبنائه وعيوبهم ولا يجهل أن هذا ذكي وذاك غبي مثلا، ولكنه مع ذلك يحبهم جميعا على السواء وإن كان يعرف فضل بعضهم على بعض. وهذا صحيح، على الجملة، وفي الأغلب والأعم، ولكني رجل دأبي أن أراجع نفسي، ولا تنفك حالاتي النفسية تتغير فنظرتي إلى الشيء وإحساسي به يختلفان من يوم إلى يوم. وثم أمر آخر هو ما يتمثل لي من صور الكمال وما يبدو لي في عملي من وجوه النقص والقصور، وليس لي حيلة إلا أن أقيس ما أخرجت إلى ما كنت أحب أن يكون، وإلا أن أحدث نفسي أنه كان في مقدوري أن أصنع خيرا مما صنعت، ولو كنت أعتقد أن هذا هو غاية ما يبلغه الجهد ويصل إليه الإمكان لرضيت وقنعت واغتررت، ولكني أحس أني أقدر على خير مما أفعل؛ وقد يكون هذا إحساسا كاذبا، كالجوع الكاذب، وقد يكون خدعة من خدع الغرور، فإن يكن كذلك فإنه ولاشك بلاء، ولكنه الواقع على كل حال. وما أكثر ما أسمع من يثني على كتاب لي، فأتركه يثني فإن الثناء حبيب إلى النفوس، وأتعجب له فيما بيني وبين نفسي وأسألها: ماذا أعجبه يا ترى؟ أما لو أن رجلا نقد نفسه..؟ وأزداد غرورا، وأشعر أني فوق هذا المادح.. ولكني أتواضع وأقول له وأنا مطرق - ووجهي فيما أعتقد وأرجو مضطرم من فرط الحياء - «أستغفر الله! أستغفر الله ! يا شيخ قل كلاما غير هذا!» الخ الخ.
فإذا كنت لا أكتب إلا قبيل أوان النشر بأوجز فترة لأني بليد ولأن نفسي تتعاقب عليها حالات مختلفة فأسخط على ما كنت أرضى عنه وأذم ما حمدت؛ وأستضئل ما أكبرت، ولا حيلة لي في ذلك. وماذا أصنع إذا كنت أحس أني مسوق إلى جس نفسي وقياس قدرتها إلى ما ينبغي مما ترتسم صوره في نفسي وتتمثل لي في خواطري؟
الفصل الثامن عشر
خواطر في مرقص
بعد سنوات طوال ذهبت إلى معهد من معاهد الصبى، وبي - وأنا الكهل المجرب - مثل حياء الغرير وخجلة الحدث واتخذت لي مكانا قبل المرآة وقريبا من فرقة الموسيقى وعلى مستدار المرقص، وكنت أول الداخلين وأسبقهم في تلك الليلة. وكأنما نكر مني الخدم لمتي الموخوطة وقامتي القميئة العرجاء ونظرة الحيرة والقلق، فجعلوا يصوبون عيونهم ويصعدونها في، وضايقني أحدهم بكثرة لحظانه رجلي أو بما توهمته من ذلك وكبر علي أن أرى هذا الزنجي يتغفلني ويدور من ورائي ليتسنى له أن يتأمل - وهو آمن - حذائي واختلافهما، فمددت له ساقي في كبر وغطرسة، ودعوته إلي بإشارة ملؤها العجرفة وأمرته أن يسقيني شيئا،فمضى عني وهو يبتسم فزاد ذلك في حنقي وأقسمت لأهجونه.
نعم وقد بررت بقسمي وقلت فيه أو في نفسي هذه الأبيات:
النجاء النجاء يابن ...
من سيوف الهجاء ذات المضاء
لا لعمري وأين تهرب مني
Bilinmeyen sayfa