الأدب وتحصيله
عرفنا القراءة والإطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية؛ وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول إن مواردي كانت محدودة جدا؛ وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم. وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشا في اليوم.
وكان فريق منا يعني بأن يحضر دروس الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ سيد المرصفي، وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي - على خلاف ما كنت أريد - أن أدخل مدرسة المعلمين العليا، فكان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعرا ناضجا ذا مذهب في الأدب يدعو إليه، وكنت أنا مبتدئا، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها «مؤونة الشهر». وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، «أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي! هاتي أي تدبير هذا؟»
فأقول: «يا أمي.. لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مؤونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك ولا بي عن هؤلاء؟»
فتبتسم وتقولي: «طيب..» وتدعو لي بالتوفيق.
وكنت أشتري ديوان الشعر ورقا، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نتفرق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقا فيقول له: «لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه» لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويلخصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب «الرسمي» كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي؛ وغيرهما أيضا من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة.
وتزوجت وفي صباح ليلة الجلوة ودخلت مكتبتي ورددت الباب وأدرت عيني في رفوف الكتب، فراقني منها ديوان «شيللي» فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني - في الحمام - وفي غرفة الاستقبال وفي «المنظرة - حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة لأني (عريس) جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح وكانت أمي في (الكرار) أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد فأنبأوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟
فضحكت أمي وقالت: ليس في كل مكان - اذهبوا إلى المكتبة فإنه لا شك فيها.
فقالت حماتي وضربت على صدرها بكفها: في المكتبة؟ يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟
فقالت أمي بجزع، اسمعي.. كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب.. افهمي هذا وأريحي نفسك، فإن كل محاولة لصرفه عن الكتب عبث.
Bilinmeyen sayfa