كان أبي في سعة من الرزق، وكان محاميا ومكتبه في بيته، على عادة أهل ذلك الزمان وكنت أخرج إلى الطريق ومعي أخي الأصغر لنلعب، فننفق ما معنا ونحتاج إلى سواه، فأدخل على أبي في مكتبه وهو مكب على الورق فأقف ساكنا ساكتا حتى يرفع رأسه، فأغتنم الفرصة وأقول «أبويا! أبويا. هات قرش» - وكان «بابا» لفظا لا نعرفه ولا سمعنا عنه فيدخل أصبعين في جيبه ويخرج ما يقعان عليه، وقد يكون قرشا، أو نصف فرنك، أو «واحدة بخمسة».
ثم مات عليه الرحمة، وأنا مازلت طفلا في السنة الأولى الابتدائية وخلف مالا ليس بكثير ولكنه فوق الكفاية، ومضى عام أو نحوه، ونحن لا نشعر بأن شيئا تغير من حياتنا سوى أن أبي خلت رقعته، وجاء يوم دعتني فيه أمي إليها وكانت على الرقة المفرطة في قلبها تستطيع أن تكون صارمة الجد حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر. وقالت لي وهي تغالب التمزيق الذي في قلبها وصدرها التمزيق الذي قضت به نحبها بعد ثلاثين سنة وزيادة لم تخلع فيها السواد إلا قبل وفاتها بشهور - قالت: «يا إبراهيم! لا كرة بعد اليوم».
وكنت مغرى بلعبها في الحارة مع لداتي، من أبناء الجيران، وكنت أنا الذي يشتري الكرات للعبنا وكنت أوثر الملونة المخططة لا لألوانها بل لأنها أغلى. فدهشت وسألتها عن السبب، وقد كبر في وهمي أني لعلي أسأت الأدب أو أتيت ما يعاب، ولكنها قالت: «أخنى علينا الدهر يا إبراهيم وان الدهر يا ابني لمظلوم، ولكن لا داعي لكثرة الكلام فما في ذلك فائدة، والذي أريد أن تعرفه هو أننا افتقرنا». •••
فكان أول ما خطر لي هو أن أسألها: (هل معنى هذا أننا سنجوع؟) فطمأنتني وقالت: (لا أظن! إن عندي أشياء لا حاجة بي إليها - مصوغات، وأثاثات وما إلى ذلك - وسأبيع منها ونقتات، والله المسئول أن يسترنا، وأن يلهمنا حسن التدبير).
واختفى شبح الجوع الرهيب، فتنفست الصعداء ووسعني أن أرتد طفلا فأسألها: (كيف ألعب إذن؟)
قالت: يا ابني إن الكرة ليست أكثر من مشجع على النط والجري والحركة على العموم، فنط، واجر وتحرك بغير كرة».
وهو كلام معقول، ولكنه لم يعجبني وكيف أكف فجأة عن اللعب بالكرة وأنا الذي كان يزود بها أترابه؟ ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت علي شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلا فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال). •••
في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثبا - وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه - عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني!
وكان هذا أول أستاذ لي - أعني الفقر - وإنه لأستاذ السواد الأعظم والجمهور الأكبر من الخلق ولكنه كان يلقي علي دروسه كما تهوي العصى على أم الرأس! •••
فقدت الثقة بالناس، وانطويت لهم على سوء الظن، والتحرز، وإذا كان أخ أكبر - غير شقيق - يستطيع وهو آمن، أن يجني على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب، وصار همي بعد ذلك أن أتوخي الستر، ورضت نفسي على الاحتشام، وجنحت إلى العزلة. شيئا فشيئا، وتوخيت الأدب حتى لا يسيئه معي أحد. وأبيت أن أرفع الكلفة مع الإخوان لتظل العلاقة قائمة على المودة والاحترام. وجعلت للساني لجاما من نار، حتى لا يجري بكلمة يجرؤ غيري علي بمثلها. وأوجز فأقول؛ إن الفقر المباغت أورثني عقدة نفسية ما زلت أعالجها إلى اليوم، فأقول لنفسي فيما أقول إن هذا الفقر حماني تطري المدللين، وأكسبني جلدا، وأفادني قوة نفس، وجرأة في الكفاح، وصبرا عليه. وإني لفخور بما قدرت عليه من الوقوف على قدمي بلا معين سوى الله، وأمي بعده، ولكن الضعف يعروني أحيانا فأتساءل: ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللا متطريا آخر؟؟ أكانت تخرب أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ. •••
Bilinmeyen sayfa