وتساءلت أمي عما يؤخر زواج الجميلة رغم بلوغها الخامسة عشرة، فقالت أم أحمد: حسين بك مصمم على ألا يزوجها قبل الثامنة عشرة. - ولكنها سن متأخرة يا أم أحمد! - لحسين بك رأيه أيضا، ولكن الاختيار ينحصر في اثنين؛ أحدهما وكيل نيابة والآخر طبيب.
وأحسست على نحو ما بأن فاطمة ستمضي ذات يوم إلى بعيد مثل أخواتي وإخوتي، ولن يبقى منها في أحلامي إلا الشذا. حتى الطفولة المبكرة لم تخل من حسرات على أشياء جميلة ومحبوبة يترصدها الضياع والفناء . ودهمتنا ثورة 1919 ونحن ننعم بالهدوء النعسان. استيقظت بغتة على دوي الهتاف وفرقعة الرصاص ورأيت الألوف الغامضة، حتى أم أحمد رأيتها فوق الكارو تهتف. وزارتنا بعد أيام لتسأل إن كنا رأيناها، كانت تتيه دلالا بالعزة والنصر. - سينصرنا الله على الإنجليز ويتم لنا الإفراج عن سعد .. وهي التي أبلغتنا بعد ذلك باعتقال حسين بك العمري تمهيدا لتقديمه للمحكمة العسكرية الإنجليزية، ولكنه أفرج عنه فيمن أفرج عنهم عقب الإفراج عن سعد، فرجع إلى حارة قرمز رجوع الأبطال. فرشت أرضها بالأكمة وتناوحت في سمائها الثريات والأعلام، وزغردت النساء من وراء المشربيات، وتعالى هتاف الفقراء رغم ما فقدوا من أبناء، ووفت أم أحمد بنذرها، فرقصت أمام باب السراي وهي تنشد: «سلمى يا سلامة.» وحتى مأمور قسم الجمالية جاءه مهنئا، بعد أن اعتقد الجميع أن الإفراج عن سعد ما هو إلا مقدمة للاستقلال التام، وبعد فترة قصيرة حملت المرأة إلينا خبرا مزعجا وهو أن آل العمري استقر رأيهم على الانتقال إلى العباسية؛ حيث اشتروا أرضا فضاء لإقامة سراي كبرى. وتساءلت: أمي هل هان عليهم حقا أن يهجروا الحارة التي هي أصل الخير والبركة؟ فقالت أم أحمد بيقين: بعد عام أو عامين لن تجدي أسرة واحدة من أسر الأعيان في الحارة.
يا له من خبر! .. وكيف تكون الحارة إذا انطفأت أنوارهم؟! - الدنيا تتغير بسرعة، الأحياء الإفرنجية هي الموضة اليوم، والعباسية مترامية الأطراف، وفيها متسع للمستورين أمثالكم. - ونبعد عن الحسين؟! - سوارس تنقلك إليه في نصف ساعة.
وتحقق مع الزمن ما خطر لأم أحمد، فانتقل الأعيان إلى العباسية الشرقية وشيدوا قلاعهم العملاقة، كما انتقلت الطبقة الوسطى «المستورون» إلى العباسية الغربية، فسكن البعض بيوتا صغيرة واشترى البعض ما يناسبه. ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفين فسرعان ما تعرضت للوهن والتمزق. لأمر ما شغل كل فريق ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبين أصبح سدا لا يعبر إلا في الملمات وقد لا يعبر أبدا. عدنا غرباء أو كالغرباء، بل صرنا مع الزمن أعداء أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكارا جديدة تكرس العداوة والانفصام، وحتى الانتماء للحزب الواحد لم ينجح في محو تلك الغربة الزاحفة. واعتدت أن أجعل من العباسية الشرقية مرتادي ونزهتي خاصة في أصائل الصيف، أتمشى في شوارعها الواسعة وميادينها الأنيقة، أقلب النظر في القصور الشامخة والحدائق الغناء، وأتذكر أحيانا الجيرة القديمة الحميمة الصادقة التي تلاشت في الفضاء، وأتذكر الوجوه المليحة التي علمت القلب الحب قبل الأوان، أتساءل: ترى أين أنت الآن يا فاطمة؟ .. وهل خلق منك الزمن زينب هانم جديدة؟ وجاءتنا بالأنباء في حينها أم أحمد التي ظلت الرابطة الباقية بين الطبقتين المتباعدتين. حدثتنا طويلا عن تضخم ثروة حسين بك خاصة بعد الحرب، وعن إشراك أبنائه الثلاثة معه في المصنع والمحل، وإصهارهم الموفق إلى أسر من طبقة الباشوات، أما فاطمة فقد تزوجت من وكيل النيابة. ووجدتني قد نسيت صورتها تماما، فلم يبق في خيالي إلا نفحة من جمال مجرد وصدى صوت رخيم شديد التأبي والتمنع على الذاكرة. وعلمنا أيضا بإصابة زينب هانم بالسكر وكيف استفحل معها المرض لعجزها عن الانضباط أمام إغراء الحلوى. أجل، فقدت الهانم بصرها في الخمسينيات، ثم ماتت في الأسبوع الأول لقيام ثورة يوليو. والحق أن الثورة لم تمس آل العمري بسوء، ولعله كان من حسن حظ حسين بك أنه هجر الاشتغال بالسياسة عقب انشقاق السعديين عن الوفد، غير أنه شارك أبناء طبقته في خوفهم الثابت وقلقهم الدائم وشعورهم بإدبار الدنيا عنهم. وحديث أم أحمد عن السادة لم يخل أبدا من عطف رغم تعلقها بثورة يوليو وزعيمها. أحبت ثورة يوليو كما أحبت ثورة 1919، ولكن حبها لزبائنها القدامى لم يفتر أبدا، وهي التي قالت لنا يوما بجزع واضح: أما سمعتم عما حدث لزوج فاطمة هانم العمري؟
آه .. فاطمة الجميلة، ماذا حدث لزوجها؟
سافر المستشار في رحلة قصيرة إلى سويسرا، وهناك قابل أحد رفاق صباه وكان هاربا من عبد الناصر ولا يكف عن مهاجمته، ولما رجع المستشار إلى مصر دعي لسؤاله عن مقابلاته لصديقه القديم، ثم لم يظهر له أثر بعد ذلك. - لعله ما زال معتقلا؟ - أبدا .. قيل لهم إن سؤاله لم يستغرق إلا ساعة أطلق بعدها سراحه. - لعله وقعت له حادثة في الطريق؟ - وهل يصعب الاستدلال على شخصية مستشار قد الدنيا؟!
ويسود صمت، ثم تواصل أم أحمد: فاطمة هانم تؤكد أنهم قتلوه ودفنوه في أي خلاء وانتهى الأمر.
اليوم - وبعد رحيل أم أحمد عن الدنيا في الثمانينيات - لا أعرف شيئا عن آل العمري، ولعله لا يهمني أن أعرف شيئا، ولكني قرأت هذا العام نعي فاطمة الجميلة في الأهرام. ولم يمض الخبر بلا حزن ولكنه حزن من نوع خاص، لا كالحزن على الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء. إنه حزن يتأدى كأنه شعيرة تتلى في محراب الوجود على لا شيء أو على كل شيء. ثم قرأت عنها رثاء جميلا في إحدى المجلات النسائية بوصفها من رائدات رعاية الطفولة، تلك الرعاية التي بدأتها بتلقائية معي، فحفرت أثرها الطيب في أعماق قلبي.
وآل سعادة بعد آل العمري يومضون في غياهب الماضي الجميل، تقوم دارهم كالقلعة فيما وراء القبو الأثري العتيق. هناك يطالعك جدار عال مركب من أحجار كبيرة تاريخية، أما مدخله فيفتح على عطفة جانبية. ورؤيتي لآل سعادة تتم عادة وأنا في الحارة عندما يخرجون من جوف القبو في طريقهم إلى ميدان بيت القاضي، تنطق وجوههم المشعة بأصولهم الشركسية. هذا عبد الحميد بك سعادة، رب الأسرة، بقامته العالية، وعوده النحيل، ووجهه الأبيض المشرب بحمرة، وعينيه الزرقاوين، وأنفه الحاد الطويل المقوس، يرفل في بذلة إفرنجية وعمامة بيضاء، متوكئا على عصا سوداء ذات مقبض ذهبي، صارم النظرة، متعالي الهيئة، ينظر أمامه، لا يعنى بما حوله. يبث حيث يسير الخوف فيستقبله الاحترام وتتبعه الكراهية، وهذا بكريه الشاب فاضل سعادة ينور المكان بلمعانه وبسحره، بأناقته وحسنه وثيابه الفاخرة. وهؤلاء بنات سعادة الثلاث، بين الطفولة والصبا، جميلات فاتنات ساحرات، يسرن صفا إلى الميدان لشراء الشيكولاتة والدندورمة، يذهبن بلا مرافق ويعدن بلا مرافق غير مباليات بتقاليد الأسر الكبيرة والمتوسطة، وجمالهن يشفع لهن عند الرأي العام الرافض لتعالي الأسرة وعزلتها. أما ربة الأسرة فلا ترى أبدا راكبة أو راجلة، دائما معتصمة بالقلعة وراء الجدران والستائر. كم ولعت عيناي بالجميلات الثلاث وخصوصا الصغرى، وكم حلمت بأن ألعب معهن تحت القبو أو فوق السطح ولكنهن كن يذهبن بسرعة الأحلام ويبقين في النفس بقوة الخيال. وآل سعادة يمثلون البطالة المستغنية عن العمل، المعتمدة في معيشتها على الأوقاف، يقضي الأب وقته بين الكلوب المصري والمقاهي الكبرى في وسط المدينة، ويقنع فاضل بالحصول على الابتدائية. ولا يشك أحد في ثرائهم الكبير، إلا أم أحمد التي تقول وتعيد: إنهم أصحاب أصل ولكن ثراءهم دون ما يظن الناس بكثير .. وعزلة ربة البيت ليست نتيجة للتقاليد أو الكبرياء وحدها، ولكنها ردة فعل لحزن عميق. - الحزن؟!
تتساءل أمي، فتقول أم أحمد: الرجل طول عمره عينه زائغة! .. وذوقه قذر لا كمظهره .. يجري وراء الخادمات والساقطات، وزوجه والحق يقال بنت ناس، وآية في الجمال! - وطبك المجرب يا أم أحمد؟ - منع الطلاق ولكنه لم ينج من القدر، وقد جربت سلطانة هانم الرشاقة ثم نفختها حتى فاقت زينب هانم في الحجم، ولكن المكتوب مكتوب.
Bilinmeyen sayfa