ولذلك فعندما قامت ثورة يوليو، وأحدثت إنجازاتها الاجتماعية الرائعة، اعتبرت معجزة مرسلة من أجل عيون محمد، وارتفعت روحه المعنوية إلى أعلى درجة.
وسأله حسين الجمحي: أي فائدة جنيتها أنت يا عم محمد؟
على أي حال قبل ابنه - محمد محمد السناوي - طالبا بالكلية الحربية؛ الأمر الذي يعتبر معجزة في ذاته. وتخرج ملازما، وأصبح عم محمد والدا لضابط في الجيش، واقتحمت الاصطلاحات العسكرية حديثه حتى اعترفنا به عضوا في هيئة أركان حرب. وسافر محمد - محمد الثاني كما عرف بيننا - ضمن حملة اليمن، وتساءلنا ترى هل يقسو عليه القضاء ويتلاشى الحلم؟ والحق لقد دعونا للولد بالسلامة إكراما لأبيه سيئ الحظ، ووضح لنا مدى حبنا لذاك الصديق القديم، ولكن الله سلم، وتحسنت أحوال الابن، وسرى اليسر إلى الأب وأسرته. وبحكم الأبوة عرف محمد الانتماء لأول مرة في حياته، وكان في مقدمة المصابين بهزيمة 5 يونيو المشئومة، فحزن حزنا بالغا، وكان من حسن حظه أن ابنه لم يشترك فيها لوصول فرقته إلى مصر بعد انتهاء المعركة. وفي السبعينيات أحيل محمد إلى المعاش وتفرغ للمقهى. واشترك ابنه في العبور في 6 أكتوبر، نجا من الموت، وحظي بوسام الشجاعة، وارتفع بأبيه إلى ذروة السعادة. اليوم يشغل الابن مركزا عسكريا مرموقا، وينعم الأب بشيخوخة هادئة وعافية يغبط عليها. وقد أصابته نزوة مما تصيب بعض المحالين على المعاش، فقال لنا يوما: ما رأيكم؟ .. لقد ألفت زجلا!
ودهشنا لأننا طيلة عهدنا به لم نلمس لديه ميلا لأي فن، وسحب ورقة من جيبه وراح يلقي علينا زجله. وإذا بتعليق ينفجر مصحوبا بقهقهة: اسمع يا عم محمد، لقد عاشرنا قبحك وجنونك، بل من أجل حبك أحببناهما، ولكن لكل شيء حد، فارجع عن غيك واستعذ بالله من الشيطان الرجيم!
فقهقه بدوره قائلا: هذا حظ من يسبق زمنه!
آل الفنجري
فيما يلي الفرن يقوم بيت آل الفنجري. وأسرة الفنجري تتكون من زوجة، وابنة تزوجت من قبل أن تنتقل إلى الشارع، وولدين هما حسن وحسين الصديقان. والفنجري ترزي إفرنجي يقع محله في وسط شارع العباسية، ميسور الحال، ويملك عمارتين. وحسن وحسين متقاربان في الشبه، لهما نفس اللون الفاتح، والقسمات المتناسقة، والقامة الطويلة الممشوقة، وفيما عدا ذلك فهما نقيضان تماما. حسين وهو الأصغر مثال طيب للاجتهاد والجدية والتفوق. وبتلقائية توثقت علاقته بعزت ورأفت وسامح، جاراهم في الثقافة والرؤية مع انتماء أشد إلى الوطنية أهله ليكون رئيسا للجنة الطلبة الوفدية بالوايلي .. والتحق بكلية الطب في أول الثلاثينيات وتخصص في الجراحة وصار مع الزمن من كبار الجراحين، وبحكم عمله انقطع عنا فيما عدا المناسبات. أما حسن فكأنما خلق ليكون مهرجا محترفا. شخصيته عجيبة لم يقف أحد على سرها الدفين. لا أذكره إلا غارقا في الضحك، يضحك إذا سمع نكتة أو أطلق نكتة، يضحك في مواقف الهزل كما يضحك في مواقف الجد، في الأفراح يزيط ويجلجل، في الجنازات يتحين الغفلات ليسخر من مظاهر الحزن أو يروي النكات عن الموت والأموات، وفي المآتم نتجنب الجلوس في مجاله. لم أعرفه جادا على الإطلاق ولو مرة واحدة، خفة؟ استهتار؟ مرض؟ .. الله أعلم. وأخوه حسين كثيرا ما يضيق بأقواله وأفعاله، وربما وجه إليه كلمات حادة عما يليق وعما لا يليق، فكان يسدد نحوه رشاش نكاته حتى يجعل منه أضحوكة لنا. ويحتكم حسين إلى أبيه ولكنه لا فائدة ولا عائدة. الفنجري يئس تماما من حسن، ورغم ذلك - أو بسبب ذلك - خصه بعطف كبير. ولما التحق الأصغر بكلية الطب، وترنح الآخر وهوى أكثر من مرة أمام حاجز البكالوريا، قرر الرجل أن يرسله إلى فرنسا في بعثة خاصة.
قال له: ارجع بأي شهادة!
وودعنا الصديق المرح في ليلة تذكر، وسافر إلى فرنسا. وعلمنا منه فيما بعد كيف انقضى وقته في باريس كالأعيان، في نطاق خمسة عشر جنيها شهريا، وكانت كافية لمعيشة حسنة في الشارع والملهى وبيت الدعارة. وترامت إلينا أخبار غريبة عنه، وهي أنه اختير للغناء في بعض الملاهي الليلية. الحق أنه لم يعرف له أي استعداد للغناء، فلم ندر كيف استجابت حنجرته للنغم الفرنسي وكيف وجد من يعترف به مطربا أو من يستمع إليه. وكم وددت أن أشهده وهو يغني، وهو يتعامل مع مدير الملهى والزملاء!
وهل استطاع أن يمسك عن الضحك في وقت العمل؟! على أنه كان حتما مطربا عاديا وإلا لشق لحياته طريقا آخر، ولكنه رجع إلى مصر عندما أنذرت الحوادث باندلاع الحرب. رجع كما ذهب يا مولاي كما خلقتني، لا شهادة ولا مال، حتى معرفته بالفرنسية كانت معرفة شوارع. وواصل حياته القديمة معنا، المهرج الخفيف اللطيف المرح الذي لا يحمل هما أو يتعثر في مشكلة، وانقطعت صلته بأخيه تماما دون أسف من الجانبين. ومضت حياته بين المقهى والملاهي تحت ظلال الخمر والمخدرات. وفي أثناء الحرب تعرض لتجربة قاسية في إحدى صالات العرض السينمائي؛ ساقه حظه إلى الجلوس إلى جانب فتاة بصحبة أسرتها، وحاول أن يعبث في الظلام، وخرج في عبثه عن الحدود حتى صرخت البنت وكانت الفضيحة. وانتهت الواقعة بإلقائه في السجن عاما أو عامين لا أذكر، ومات الفنجري وهو في السجن. وغادر حسين السجن ليرث ثروة تضمن له حياة ميسرة، ولم يغير السجن من شخصيته شيئا. وراح يحكي لنا الواقعة وكيف وقعت في الظلام وهو لا يتمالك نفسه من الضحك، وكيف سعى أبوه إلى التوفيق مقترحا أن يتزوج حسين من البنت ولكن الأب رفض بإباء. وحكى لنا كثيرا عن السجن ونوادره وكأنما كان راجعا من مسرح الريحاني .. وواصل حياته، المهرج، الخفيف، المرح، اللامبالي، السكير، الحشاش، حتى أصابته أزمة قلبية في الخمسينيات وهو يشرب في البارزيانا، فحمل إلى البيت وأسلم الروح عند منتصف الليل.
Bilinmeyen sayfa