ويروي النكتة بعد النكتة، غير أنه لم يسفر عن وجهه الحقيقي إلا بعد وفاة عبد الناصر، أو على وجه التحديد، بعد السماح بنقد عهده. هناك لمست مدى الحقد الذي تنطوي عليه جوانحه نحو الرجل وثورته. وما كان يمكن أن يزيد حقده لو أنه تعرض لما تعرض له غيره من الاعتقال أو الحراسة أو المصادرة؛ ذلك أن الحقد لم يترك في جوفه زيادة لمستزيد. ولا تتصور طربه عندما انتشرت إشاعة - لعلها لم تقم على أساس - بأن مياه المجاري تسربت إلى قبر الزعيم. كان يرقص طربا، واقترح أن يعلقوا الجثة على باب زويلة حتى تجف! ورغم ثقافته وتعلمه في الداخل والخارج فإنه لم ير في ثورة يوليو إلا أنها انقلاب دبرته عصابة من اللصوص لنهب البلد باسم الوطنية ثم تركتها خرابا شاملا، وتغير حاله في عهد السادات، وازدهر وتألق في الانفتاح، فاستقال من وظيفته واشتغل بالاستيراد وغيره، وأثرى ثراء فاحشا، وشيد لأسرته قصرا في مصر الجديدة وعاش عيشة الملوك. وفي العهد الثالث للثورة - عقب اغتيال السادات - تكشفت له حقائق الأمور كما لم تتكشف من قبل، ولم يتبع الإصلاح الجديد بالتفاؤل الجدير به، وكان آخر ما سمعت من قوله: أشك جدا في أنه يمكن إنقاذ السفينة من الغرق، وسوف يستوي من عنده مال ومن لا مال له؛ ولذلك فإني أفكر في هجرة بلا رجعة، وهي نهاية منطقية لحركة عبد الناصر!
آل مكي
وهذا بيت صابر مكي التالي لآل الجمحي مباشرة. مطرب غير مجهول الاسم، ويقيم في البيت هو وزوجته وابنه يسري وابنته وداد. وداد تماثلني في السن، أما يسري ففي المرحلة الثانوية. وكانت أم وداد وبنتها يزوراننا كثيرا، فعرفتهما معرفة جيدة. وبقي في ذاكرتي من تلك الأيام جمال البنت وضعف الأم وشكواها المتكررة من قلة الرزق وسلوك صابر. كانت تقول: كلما رزقه ربنا بقرشين أنفقها على أصحابه، يولم الوليمة ويدعو إليها كل من هب ودب، ثم نعيش بعد ذلك على باب الله!
وكان في وجهها جاذبية، ولكن يطغى عليه الشحوب والضعف. وفي ليالي الصيف كان صابر مكي يقوم بتدريباته الغنائية في الحديقة الصغيرة الخلفية، فتترامى إلينا الأنغام مخترقة فضاء الحقول. كان صوتا حسنا ولكن صوت وداد كان أحسن. كنا ندعوها للغناء فتغني:
ارخي الستارة اللي في ريحنا،
لحسن جيرانا تجرحنا،
يا مبسوطين بالقوي يا احنا.
وتقول لها أمي في انشراح: بنت الوز عوامة!
والأم فخورة بابنتها، وتقول حالمة: ستكون مطربة وربنا يعوض صبري خيرا.
أما الابن يسري فولد ذكي وهو يحلم بأن يكون طبيبا. ونراه كثيرا في الشارع ولكنه يترفع عن صحبتنا لانتسابه لجيل آخر، وكان صديقا لأحمد أفندي مراد شقيق صديقنا عبد الخالق. وأيضا كان يزورنا صابر مكي ويجالس أبي طويلا في حديقتنا الصغيرة، وسمعته مرة يقول لأبي: صالح عبد الحي رجل غريب الشأن، لماذا يلقب نفسه بعبد الحي؟! دجال يتمحك باسم خاله عبد الحي حلمي ويتبرأ من أبيه، وبهذا الدجل تفوق علينا في الطرب دون جدارة ذاتية!
Bilinmeyen sayfa